علاقات قانونية ودستورية في الإسلام . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
1_ التكليف :
قال اللهُ تعالى : (( لا تُكَلفُ نَفْسٌ إلا وُسْعها ))[ البقرة : 233] .
إن القدرات البشرية محدودة وقاصرة ، ولها طاقةٌ مُعيّنة لا يمكن تجاوزها . واللهُ تعالى خالق الإنسان ويَعلم مقدار تحمّله ، لذلك لم يفرض _ سبحانه وتعالى _ على الإنسان فوق ما يَستطيع ، ولم يُحمِّله فوق طاقته . والشريعةُ جاءت لرفع الحرج عن الناس ، والتخفيف عنهم ، لا الضغط عليهم وتدمير حياتهم وحشرهم في الزاوية الضيقة . فالنفسُ البشرية لا تُلزَم إلا بما يسعها .
وقال ابن الجوزي في صيد الخاطر ( 1/ 219) : (( رُوِيَ عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد ، وعَرَقه يسيل ، فجاز بعض العقلاء ، فقال له : يا أحمق ، هذا تقاوي على الله تعالى )) اهـ .
فالمرءُ ينبغي ألا يُضيِّق على نفسه ، ويَضطرها إلى أضيق المسالك ، ويُعذِّبها أشد العذاب . فاللهُ تعالى لو أراد أن يُهلِك خلقَه لحمّلهم فوق طاقتهم ، وجعل حياتهم جحيماً لا يُطاق ، وقضى على وجودهم . لكنّ الرحمة الإلهية قد وَسعت كل شيء . فعلى المرء أن يَلتزم بالشريعة بلا إفراط ولا تفريط ، فالفضيلةُ هي المسار المستقيم الواضح بين قيمتَيْن متطرفتَيْن . وعلى المرء ألا يُشدِّد على نفسه فيُشدِّد اللهُ عليه . فلا معنى لتحدي الشريعة ، أو محاولة التفوق عليها .
وفي صحيح البخاري ( 1/ 23) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الدينَ يُسْرٌ ، ولن يُشَاد الدينَ أحدٌ إلا غَلبه )) .
فلا يمكن لأحد أن يُغالِب الدينَ أو يتفوق عليه . فالعاقلُ يلتزم بالرِّفق واللين والوسطية ، فلا يُحمِّل نفسَه فوق طاقتها فيُهلِكها ، ولا يُهمِل التعاليمَ الدينية ويستخف بها فيُضيع نفسَه . فالإسلامُ يُسْرٌ بلا ضعف . فكل متعمِّق في الدين وفق مبادئ التشدد سَتنقطع به السبل ، فإذا ترك الإنسانُ الرفقَ والهدوء فسوف يَسقط حتماً .
وفي فتح الباري ( 1/ 94) : (( قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدِّين ينقطع ، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة )) اهـ .
إن الكثيرين يَفتقدون إلى الحكمة في التعامل مع الدِّين . فترى الواحدَ حريصاً على الصف الأول في المسجد في حين أنه عاق لوالدَيْه ، ولا يَسْلم من شرِّه أحد . والبعضُ يَحرص على السنة ويُضيِّع الفَرضَ . وقد رأينا الجهالَ من الصوفية يَحرصون على أوراد شيوخهم ليلاً ونهاراً ، في حين أنهم لا يقرأون القرآنَ ، ولا يَعرفون الأذكارَ النبوية . وهذا الانهيار أتى من سوء الفهم للدِّين ، والجاهلُ عدو نفسه .
وعن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت : (( ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرَيْن إلا أَخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً )).
{ متفق عليه . البخاري ( 3/ 1306) برقم ( 3367) ، ومسلم ( 4/ 1813) برقم ( 2327) . }.
وهذا يدل على المنهجية الإسلامية الوسطية . فالشريعةُ لم تُشدِّد على الناس ، بل حَبّبت إليهم الرفق واللين والأخذ بالأسهل ما يكن إثماً . وبالطبع فالحديثُ متعلق بالأمور الدنيوية لأن أمور الدِّين لا إثم فيها .
والبعضُ يعتقد _ لجهله _ أن التشديد على النفس من علامات الزهد والتقوى . وهذا الوهمُ المنتشر على نطاق واسع جاء بفعل تأثيرات اجتماعية سلبية وتقاليد وعادات بشرية لا تمت للدِّين بصلة . فينبغي على المرء أن يضع الأمورَ في نصابها الصحيح ، فلا يجعل من الدِّين سُلطةً كهنوتية مغلقة وعقبةً في طريق الإبداع والتقدم ، وأيضاً لا يجعل الدِّينَ ألعوبةً بلا هوية تميل مع الرياح حيث مالت . فالتشديدُ في الدِّين وتمييعه قُطبا التطرف، والصواب هو الاعتدال ، وخيرُ الأمور أوسطها .
وفي شرح النووي على صحيح مسلم ( 15/ 83) : (( قال القاضي : ويُحتمَل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هنا من الله تعالى ، فَيُخَيِّره فيما فيه عقوبتان ، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصار، وكان يختار الأيسر في كل هذا )) اهـ .
والنبي صلى الله عليه وسلم قادر على الاضطلاع بأشد المسؤوليات وأخطر المهمات، لكنه أراد ألا يُحرِج أُمته ، فهو يسيرُ بسَيْر أضعف أتباعه ، ليس عجزاً منه ، ولكنْ رحمةً بهم . فالقائدُ الحكيم لا يَحمل أتباعه على الشدائد فينهارون ، بل يُعلِّمهم كيفيةَ التعامل مع الخطوب الجليلة بشكل تدريجي عملي كي يقدروا على استيعاب المواقف الخطيرة، والتعامل معها بدون مشكلات .
وفي صحيح مسلم ( 1/ 490 ) : أن معاذ بن جبل _ رضي الله عنه _ سُئل عن سبب جمع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، فقال : (( أراد أن لا يُحرِج أُمته )) .
وهذا الحديثُ يوضِّح المنهجَ النبوي الشريف في التعامل مع المؤمنين . فالشريعةُ جاءت للتخفيف عنهم ، ورفع الحرج ، وتوجيههم إلى أيسر السبل وأوضحها بلا تعقيدات .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 2055) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( هلك المتنطعون )) . قالها ثلاثاً .
أي : هلك المبالِغون المتعمِّقون في الأمور قولاً وفعلاً . فهؤلاء الغالون أضاعوا عمرَهم في تفاصيل التفاصيل دون مبرِّر شرعي أو مسوِّغ اجتماعي . فتراهم يَبحثون في قضايا لا فائدة منها ، ولا تؤثر على حياة الناس وشؤونهم اليومية . إنهم يعيشون في عوالم أحلامهم الذاتية ، ووساوسهم الشخصية . فهُم يتخندقون في شرانق خاصة بهم معزولين عن المسار الاجتماعي العام. وعلى الرغم من حياتهم على هامش الوجود الإنساني إلا أنهم يظنون أنفسهم علماء مؤثرين في مجتمعاتهم . وللأسف فهُم لا يَرَوْنَ أبعد من أنوفهم ، ويظنون أنهم يُحسِنون عملاً . وهذا هو الجهلُ بعَيْنه .
2_ المسؤولية الشخصية :
إن المؤمن ثابت القلب ، لا يميل مع الريح حيث مالت. وذلك لأن جذوره ضاربة في الأرض ، فلا يهتز عند الأزمات ، ولا يَنكسر أمام العواصف. فهو يَعرف طريقَه جيداً لذلك لا يَلتفت أثناء سَيْره . كما أن المؤمن رابط الجأش ، قوي الشكيمة ، يَنصح الآخرين ولا يُشاركهم في الإثم . فإن اهتدوا كان معهم ناصراً ومُعيناً ، وإن ضلوا لم يَغرق معهم في الضلال ، وإنما يحاول انتشالهم من مأزقهم . فالمؤمن ثابتٌ على موقفه بغض النظر عن مواقف الناس ، لأنه يستمد رسوخَه من تعاليم الشريعة لا أمزجةِ الناس وأهوائهم . أما الذين يَبنون مواقفهم الحياتية وفق أهواء الآخرين ، فسيبقون بلا هوية، تائهين في الدروب. وكما قيل: لا يَذهب بعيداً مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب.
قال اللهُ تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يَضُركم مَن ضَل إذا اهتديتُم )) [ المائدة : 105] .
فإذا قام العبدُ بإصلاح نفسه ، وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، فلن يؤثر عليه ضلالُ المنحرِفين وفسادهم . فإن التزم العبدُ بالهداية واعتصم بالشريعة ، فلا ضرر عليه من أهل الغواية والمعصية ، سواءٌ كانوا قريبين أو بعيدين . فلا يُؤاخَذ الإنسانُ بآثام الآخرين . فكل امرئ يتحمل مسؤولية نفسه لا أكثر ولا أقل .
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 22) : (( لأن المذهب الصحيح عند المحقِّقين في معنى الآية أنكم إذا فعلتُم ما كُلِّفْتُم به فلا يَضُرّكم تقصير غيركم )) اهـ .
فالآيةُ لا يوجد فيها إعفاء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالمسلمُ لا يكتفي بإصلاح نفسه ، بل عليه إصلاح الآخرين بالأسلوب الحسن ، ومَن رَفض النصيحةَ فإثمه على نفسه ، كما أن الناصح الذي أَصلح سِرّه وعلانيته لن يتأثر بمعصية غيره .
وعن أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ أنه قال : يا أيها الناس ، إنكم تقرأون هذه الآية
[ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يَضُركم مَن ضَل إذا اهتديتُم ]، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يَدَيْه ، أَوشك أن يَعُمهم اللهُ بعقاب )) .
{ رواه الترمذي في سُننه ( 5/ 256) برقم ( 3057) وقال : (( حسن صحيح )) .}.
إذن ، هناك فهمٌ مغلوط للآية . فالبعضُ يعتقد أن عليه إصلاح نفسه دون النظر إلى الآخرين وقضايا المجتمع . وهذا فهمٌ قاصر ، فلا يمكن السماح بتحول المجتمع إلى جُزُر معزولة غير متصلة فيما بينها . كما أن المؤمن صالح ومُصلِح دون تفريق . لذلك لا يَترك المجتمعَ غارقاً في انحرافه ، بل يُساهِم في توجيه دَفة السفينة الإنسانية إلى بَر الأمان ، فيُشجِّع أهلَ الصلاح ويشدّ من عزائمهم ، وفي نفس الوقت يُقاوِم الظلمَ والظالمين دون هوادة أو استسلام .
وعن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة عن هذه الآية [ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يَضُركم مَن ضَل إذا اهتديتُم ] . فقال أبو ثعلبة : لقد سألتُ عنها خبيراً . أنا سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبلاً ، فقال : (( يا أبا ثعلبة ، مُرُوا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيتَ شُحاً مُطاعاً ، وهوى مُتبعاً ، ودنيا مُؤْثَرة ، ورأيتَ أمراً لا بد لك من طلبه، فعليكَ نفسك ودَعْهم وعوامهم ، فإن وراءكم أيام الصبر ، صبرٌ فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين يعمل مثل عمله )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 358 ) برقم ( 7912) وصححه ، ووافقه الذهبي .}.
وهذا الحديثُ منهجٌ متكامل ، يُرشِد إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا غرق المجتمعُ في المفاسد ، واختلط الحق بالباطل ، وصارت أهواءُ الناس هي المرجعية ، فعندئذ يهتم المرءُ بخاصة نفسه ، ويَترك أمر العوام ، ويُؤْثِر السلامةَ الشخصية محاولاً إنقاذ نفسه في زحمة المتناقضات الاجتماعية ، والمفاسدِ المنتشرة كالنار في الهشيم ، والفتنِ المتلاطمة كأمواج البحر .
وقال اللهُ تعالى : (( فَمَن أَبصر فلنفسه وَمَن عَمِيَ فَعَلَيْها )) [ الأنعام : 104] .
فمَن عرف طريقَ الحق والتزم به ، ولم يَنحرف عنه ، فإن الفائدة ستعود عليه ، وينال المكافأةَ الجزيلة ، أمّا المنحرِف عن الصراط المستقيم الذي فشل في معرفة الحق فإن الكارثة ستحل به شخصياً لا غيره . فالمرءُ إنما يَعمل لصالح نفسه ، والمذْنِب عدو نفسه . فاللهُ تعالى غني عن المطيعِ والعاصي ، لا تَنفعه الطاعة ولا تضره المعصية .
وقال الطبري في تفسيره ( 5/ 299) : (( فَمَن تَبَين حُججَ الله وعَرَفها ، وأقر بها ، وآمن بما دَلته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله ، وما جاء به فإنما أصاب حظ نفسه ، ولنفسه عمل ، وإياها بغى الخير . [ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيْها ] يقول : ومن لم يستدل بها ، ولم يُصدِّق بما دَلته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنزيله ، ولكنه عَمِيَ عن دلالتها التي تدل عليها ، يقول : فنفسه ضَرّ وإليها أساء لا إلى غيرها )) اهـ .
وقال اللهُ تعالى : (( وَمَن جَاهَد فإنما يُجاهِد لنفسه )) [ العنكبوت : 6] .
فالذي يُجاهِد في الدِّين ويُقاتِل الكافرين بالكلمة والسيف ، فإنما يَعمل ذلك لصالح نفسه ، أي لنيل رضا الله تعالى وجنّته، والهروب من الجحيم. فاللهُ تعالى لا يحتاج إلى أعمال البشر وتضحياتهم ، فهو _ سبحانه _ قد أمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية رحمةً بهم ، وإنقاذاً لهم من النار . وليس لله حاجةٌ في ذلك . فالطبيبُ عندما يَصف الدواءَ للمريض فهذا لمصلحة المريض لا الطبيبِ .
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ( ص 441) : (( مَن يَتوهّم أن الله _جل وعلا _ ينتفع بطاعة ، أو يتضرر بمعصية ، أو ينال بذلك غرضاً ، فما عَرف اللهَ _ جل جلاله _ لأنه مُقدّس عن الأعراض والأغراض ، ومن انتفاع أو ضرر ، وإنما نفع الأعمال تعود على أنفسنا )) اهـ .
3 _ السيئة بمثلها :
قال اللهُ تعالى : (( وَمَن جاء بالسيئة فلا يُجزَى إلا مِثْلَها وهُم لا يُظلَمون ))[الأنعام : 160].
إن المنحرِف عن طريق الحق المتلبِّس بالإثم سوف يُحيط به الإثم. فمن أساء فإنما يسيء لنفسه ، وسيجد العقوبةَ المناسبة لجريمته دون ظلم .
وذكر ابن الجوزي في زاد المسير ( 3/ 159 ) أن هناك قَوْلين في معنى السيئة في هذا الموضع : الأول_ الشِّرك، والثاني _ السيئة بشكل عام .
وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم ( 4/ 2068 ) : (( ومَن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر )) .
وهذا يدل على سعة الرحمة الإلهية . فاللهُ تعالى يُضاعِف الحسناتِ لكنه لا يُضاعِف السيئات . كما أن المسيء تحت المشيئة الإلهية ، فإمّا أن يُعذِّبه اللهُ أو يَغفر له . وهذا الأمرُ يجب ألا يَدفع الناسَ إلى ارتكاب الذنوب قائلين إن الله غفور رحيم . فالعقوبةُ الإلهية قاصمة لأهل العصيان ، كما أن الرّحمة الإلهية تُظلِّل مَن كان أهلاً للرحمة . أمّا الغرقى في الآثام فهُم على شفير الهاوية ، وعليهم العودة إلى الطاعة لكي يستحقوا أن يُرحَموا .
وقال اللهُ تعالى : (( وإن عاقبتُم فعاقِبوا بِمِثْل ما عُوقِبتُم به )) [ النحل : 126] .
إن العدل والمساواة من صميم المنهج الإسلامي الذي جاء لإنقاذ المؤمن والكافر . وهنا تتجلى العدالة في القصاص ، والمماثلة في العقوبة بلا تجاوز أو طغيان . فينبغي تطبيق الشرع بكل دقة لا الاستسلام للعواطف أو فَوْرة الغضب وحب الانتقام . فمن ظُلم له أن يأخذ حقه ، أي يُعاقِب بمثل ما عوقب به دون مجاوزة للحد .
وعن أُبي بن كعب _ رضي الله عنه _ قال : لما كان يوم أُحد أُصيب من الأنصار أربعة وستون رَجلاً ، ومن المهاجرين ستة ، فَمَثلوا بهم ، وفيهم حمزة . فقالت الأنصار : لئن أصبناهم يوماً مثل هذا لنربِيَن عليهم ، فلما كان يوم فتح مكة أنزل اللهُ _ عز وجل _ : [ وإن عاقبتُم فعاقِبوا بِمِثْل ما عُوقِبتُم به ] ، الآية.
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 391) برقم ( 3368) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
إن المسلمين محكومون بمنهاج سماوي لا يمكن تجاوزه ، فهُم لا يتحركون بدافع الثأر أو الأهواء الشخصية ، بل يتحركون استناداً إلى تعاليم الشريعة العادلة في تعاملها مع المؤمن والكافر على حَد سَواء . فالكافرون يوم أُحد قاموا بالتمثيل بجثث المسلمين ، فأراد الأنصار أن ينتقموا ويزيدوا على هذا الفعل ثأراً لقتلاهم، لكن اللهَ بَيّن لهم الطريقَ القويم، وكيفيةَ التعامل مع هذه الحالات بلا غُلُو.
4 _ توحيد الأمم بالدِّين :
قال اللهُ تعالى : (( وإن اللهَ رَبي وربكم فاعبدوه هذا صِراطٌ مستقيم )) [ مريم : 36] .
إن هذه الدعوة المقدّسة لا لبسَ فيها ولا اعوجاج. فاللهُ تعالى هو رب الناس. وكلهم خاضعون له . وهذه الحقيقة الباهرة لا مجاملة فيها أو محاباة لأَحد . فالنقلُ والعقل يرشدان العباد إلى خالقهم الإله الواحد الذي لا شريك له ، وهذا الصراطُ المستقيم قادرٌ على توحيد البشرية والأمم بغض النظر عن أشكالهم وأجناسهم .
وقال اللهُ تعالى : (( إن هذه أُمتكم أُمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدونِ )) [ الأنبياء : 92] .
فالدِّينُ واحدٌ لا لبسَ فيه ولا ضعف . واللهُ تعالى إلهٌ واحد يجب إفراده بالعبادة والتوجه إليه بكل إخلاص بدون أية شائبة شِرْكية . لذلك ليس غريباً أن تكون الأُمة متحدة على مبدأ واحد ، فكلمتها واحدة لا تتشتت ، كما أن مواقفها ثابتة على الحق لا تتزعزع لأنها تنطلق من عقيدة سماوية واحدة لا شك فيها ولا شُبهة . فالدِّينُ هو الذي وَحّد الأُمّة ، وصنع تاريخَها الناصع . وإذا زال الدِّينُ فإن الأُمّة ستتفرق شِيَعاً وأحزاباً ، كل حزبٍ بما لديهم فرحون . فالدِّينُ هو الموحِّد الحقيقي للأمة ، وبدونه ستفقد الأُمةُ معنى وجودها وتماسكها .
وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 158 ) : (( مِلتكم مِلة واحدة ، أي مُتّحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع ، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان ، والتوحيد في العبادة )) اهـ .
5 _ الحق يُزهِق الباطلَ :
قال اللهُ تعالى : (( وقُل جاء الحق وزَهَق الباطلُ إن الباطل كان زَهوقاً )) [ الإسراء : 81] .
إن دولة الباطل ساعة ، ودولة الحق إلى قيام الساعة . ومهما علا ضجيجُ الباطل ونال من الحظوة والمكانة والانتشار ، فسيظل هَشّاً كأوراق الخريف سُرعان ما يذهب أدراج الرياح . وفي نهاية المطاف لن يَصِحّ إلا الصحيح . والبقاءُ للحق لأنه قوي بذاته ، أمّا الباطل فعواملُ ضعفه كامنة فيه ، وهو يستمد سَطْوته من خارجه ، لذلك لا يتمتع بالبقاء والديمومة . فالشمسُ حينما تطلع سوف تذيب الثلوجَ مهما تراكمت وعَلَت . وكما يُقال : مَن يَضحك أخيراً يَضحك كثيراً .
فالإسلامُ هو الحق الساطع الذي لا تَثبت أمامه أية قوة . فقد جاء الحق ليبقى ولن يَزول . أمّا الكفر فقد اضمحل وتلاشى .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 82): (( [ وقُل جاء الحق وزَهَق الباطلُ ] الآية تهديد ووعيد لكفار قريش ، فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مِرْية فيه ، ولا قِبَل لهم به ، وهو ما بعثه اللهُ به من القرآن ، والإيمان ، والعلم النافع . وزهق باطلهم ، أي : اضمحل وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء )) اهـ .
وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_قال: (( دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وحَوْلَ الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: [ جاء الحق وزَهَق الباطلُ ] _الآية_ )).
{ متفق عليه .البخاري ( 2/ 876) برقم ( 2346)،ومسلم ( 3/ 1408) برقم ( 1781) .}.
فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحاً رحيماً لا مغروراً . فهذه البُقعة المقدّسة كانت مركزاً للأصنام المعبودة من دون الله تعالى . فالعربُ قد نَصبوا ثلاثمائة وستين صنماً تُجسِّد ثقافتهم الوثنية البدائية المستندة إلى تقاليد الآباء الغابرين . فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يَطعن هذه الأوثان في إشارة واضحة إلى قدوم نور التوحيد وانكسار ظلام الشِّرك إلى الأبد . فالتوحيدُ قد علا صوته ولن يَنخفض ، والوثنية تلاشت ولن تَعود . فالحق قد جاء ، والباطل قد زال .
وقال اللهُ تعالى : (( بَل نَقذفُ بالحق على الباطل فَيَدْمَغُه فإذا هُوَ زَاهِقٌ )) [ الأنبياء : 18] .
فالقرآنُ _ وهو الحق الباهر _ يمحو الباطلَ ويُهلكه ، بحيث لا تقوم له قائمة بعد ذلك . فيذهب الباطلُ أدراج الرياح بكل ذِلة وخزي . فاللهُ تعالى يَرمي بالحق المبين على الباطل المتداعي ، فيقضي عليه قضاءً تماماً لا فرصة معه للعودة .
وقال القرطبي في تفسيره( 11/ 244):(( وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ))اهـ.
وفي هذا إشارةٌ واضحة على أن الباطل سَيَفقد حياته ، بحيث تضمحل فرصةُ بقائه ، تماماً كالذي يتلقى ضربةً هائلة على رأسه فتُهشِّم الجمجمةَ ، وتصل إلى الدماغ . فضربُ الدماغ هو مَقتل . وهنا يبرز معنى الاستئصال والنهاية الحتمية .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)