للشيخ, أحلى, السلف, السقا, الغزالى, عقيدة
إن منهج القرآن الكريم في إنشاء العقائد وإنضاجها خفيف رقيق أخف من الهواء وأرق من الماء، أما بعض الكتب التي تعرض العقائد في كثير من الأعصار والأقطار فعلى نقيض ذلك، وقد ألّفت كتابي “عقيدة المسلم” وأنا متشبع بهذه الأفكار، وأحسب أن الله نفع به كثيرًا.
على أن هناك أمورًا يُقحَم فيها السلف إقحامًا، ولا علاقة لهم بها، فما دخل السلف في فقه الفروع واختلاف الأئمة فيه؟!
ومن الذي يزعم أن ابن حنبل هو ممثل السلفية في ذلكم الميدان، وأن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي جاروا على الطريق، وأمسوا من الخلف لا من السلف؟
إن هذا تفكير صبياني. وبعض من سُمّوا بالحنابلة الذين حكى تاريخ بغداد أنهم كانوا يطاردون الشافعية لحرصهم على القنوت في صلاة الفجر هم فريق من الهمل لا وزن لهم.وأنا موقن بأن الإمام أحمد نفسه لو رآهم لأنكر عليهم وذم عملهم.!
التبعة ليست على رعاع يمزقون شمل الأمة بتعصبهم، وإنما التبعة على علماء يعرفون أن رسول الله حكم أن للمجتهد أجرين إذا أصاب، وأجرًا واحدًا إذا أخطأ.
ولو فرضنا جدلاً أن الحق مع الحنابلة والأحناف في أنه لا قنوت في الفجر فمن الذي يحرم مالكًا والشافعي أجر المجتهد المخطئ.
وإذا كان من يخالفنا في الرأي مأجور فلم نسبّه ونحرجه ونضيق عليه الخناق؟؟!
المشكلة التي نطلب من أُولي الألباب حلها هي معالجة نفر من الناس يرون الحق حكرًا عليهم وحدهم، وينظرون إلى الآخرين نظرًا انتقاص واستباحة!
الواقع أن الأمراض النفسية عند هؤلاء المتعصبين للفرعيات تسيطر على مسالكهم وهم – باسم الدين – ينفسون عن دنايا خفية! وعندما يشتغل بالفتوى جزار فلن تراه أبدًا إلا باحثًا عن ضحية!!
وقريب من ذلك ما أقصه على ضيق تردد إن البعض يُنكر المجاز، أو يستهجن القول به ويغمز إيمان الجانحين إليه.
سألني سائل: تذكر حديث الإبراد بصلاة الظهر؛ لأن شدة الحر من فيح جهنم؟ قلت: نعم!. قال: جاء في الكلام عن فيح جهنم أن النار اشتكت إلى الله قائلة: أكل بعضي بعضًا.فأذن لها بنفسين في الصيف والشتاء. فأشد ما تجدون من الحر في الصيف فهو من أنفاس جهنم، وأشد ما تُحسّون من برد في الشتاء فهو من زمهرير النار!!.
قلت: ذلك تقريبًا معنى حديث. قال: أوتؤمن به؟ قلت: لا أدري ماذا تريد؟ الإبراد بالظهر مطلوب تجنبًا لوقدة الحر ولا غضاضة في ذلك، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
قال: أسألك عن المعنى المذكور في الحديث؟ أتؤمن بأن جهنم شكت بالفعل وأن الله استمع إليها، ونفَّس عنها؟!.
قلت في برود: كون النار تكلمت بلسان فصيح وطلبت ما طلبت فهم لبعض الناس ولهم أن يقفوا عند الظاهر الذي لا يتصورون غيره، وهناك رأي آخر أنا أميل إليه وهو أن هذا أسلوب في تصوير المعاني يعتمد على المجاز والاستعارة.
وهنا تنمر السائل وبدأ في التشنج وقال: أكثير على قدرة الله أن تتكلم النار؟ أما يقدر ربنا أن تتكلم الحجارة؟
وأجبته ببرود أكثر: ما دخل القدرة الإلهية هنا؟ إن العلماء يفهمون النصوص على ضوء اللغة العربية، وما نقل إلينا من تراكيبها، وقدرة الله فوق الظن والتهم!
إن العرب الأقدمين أجروا على ألسنة الجماد والحيوان كلامًا ما نعلم نحن أنه ليس على ظاهره، وقد ذكرت في مكان آخر المثل العربي “قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني”.
وجاء مثل آخر على لسان الثور المخدوع: “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”
والجدار ما تكلم، والثور ما نطق!.
ثم قلت يائسًا: ومع ذلك فإذا كنت ترى أن الجدار نطق والثور تكلم فلك مذهبك، ولا دخل للسلف أو الخلف في الموضوع كله!
وعاد الشاب يقول: هل في القرآن مجاز؟
وكتمت الغيظ الذي يغلي في دمي، وقلت: ما لاكه بعض العلماء في القرون الوسطى، ثم انتهوا منه وانتهى أهله، تريدون اليوم إحياءه وشغل الناس به؟ مرة حديث الفوقية، ومرة حديث المجاز؟!!
حدثني عن هذه الآيات:
(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مُقحمون ، وجعلنا من بين أيديهم سدًَّا ) – (يس:8،9)
ترى هذه السدود هي السد العالي أو سد الفرات؟ وهل الأغلال هنا هي القيود والتي توضع أحيانًا في أيدي المجاهدين.أم أن هناك مجازًا في القرآن الكريم.؟
واستأنفت الكلام وأنا أتجه إلى الضحك.
لما سرّ المتنبي بشعب بوان وراقه الهواء والظل وتسلل الأشعة بين الأوراق والغصون تصنع دوائر شتى على ثيابه قال:
وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيرًا تفر من البنان!
ثم قال في مجون لا يسوغ:
يقول بشعب بوان حصاني أَعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصـي وعلمكم مفارقة الجنــان
هل وقف حصان المتنبي وسط الحديقة الغنّاء وألقى هذه الخطبة العصماء؟ أم أن المتنبي أنطق دابته بهذا الشعر؟ أظن الحكم على مذهبك أن الحصان هو الذي فسق بهذا الكلام ضد الأنبياء ويجب ذبحه!!.
إن هذا الشاب وأمثاله معذورون، والوزر يقع على من يوجههم، لأنه لا يفقه أزمات الحياة المعاصرة، ولا يرتفع إلى مستوى الأحداث، ولا يحس آلام أُمته، ولا يخطر بباله ما يُبيَّت للأمة الإسلامية ودينها العظيم من مؤامرات.
إننا نريد ثقافة تجمع ولا تفرّق، وترحم المخطئ ولا تتربص به المهالك، وتقصد إلى الموضوع ولا تتهارش على الشكل.
ولا أدري لماذا لا نؤثر العمل الصامت المنتج بدل ذلك الجدل العقيم؟
لا أريد الإطالة في نقد انحرافاتنا الفكرية والنفسية، وأُحب أن أخلص إلى منهج يصل حاضرنا بغابرنا، ويُنشئ خلفًا على غرار السلف، ويعيننا على استدامة رسالتنا وهزيمة عدونا.
إننا لا نستطيع – فرادى – أن نحقق شيئًا طائلا، فالجماعة من شعائر الإسلام، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب.
التعليقات (0)