مواضيع اليوم

عقوق( قصة قصيرة)

حمادي بلخشين

2009-07-01 08:32:05

0


عقوق

حالما بلغه خبر إنتحار محمود مروان، أجهش الدكتور سامى عمارة بالبكاء، لم يبال بتواجد زوجته الي جانبه.
حين هدأ قليلا قال وهو يمسح دمعة :
ــ سبحان الله، إنتحار عم محمود كان آخر ما كنت أتوقعه.
لم يكد يكمل جملته حتى انخرط في نوبة بكاء جديدة.
ــ لا تـنس أنه مجرد نزيل عندك. لا اعتقد انك بكيت والدك بمثل هذه الحرارة .
هكذا علقت زوجته. لم يجب بشيء، فحين مات والده لم يبكه أصلا. كان والده شديد التحفظ، و كان الحب أصعب ما كان يستطيع إسباغه على الآخرين، كما كان أصعب ما كان يمكنه التعبيرعنه. لأجل ذلك ظلت علاقته بوالده رسمية جدا. حتى انه حين سار وراء جنازته، لم يجد أي شعور مغايرعن الشعور الذي وجده أثناء تشيعه جنازة مديره.
الأمر يختلف مع محمود مروان أوعم محمود،الرجل العاطفي الذي يفيض حبا و حنانا من كل جوانبه، عم محمود هو الذي حمله في مناسبات عديدة على طبع قبلات على رأس والدته. كان عم محمود يستحلفه في كل مرة يجالسه فيها بان يفعل ذلك:
ــ بلغ سلامي الي السيدة الوالدة.
ثم، بلهجته الودودة وهو يطبع قبلة على رأسه:
ــ بجاه ربي بلغها هذه القبلة نيابة عني...
وحين كان يغادره :
ـــ استحلفك بالله ثانية، لا تنس أن تقبلها، سأسأل الوالدة حين

ألقاها.
كان يرد عليه ممازحا:
ــ يا سيدي تزوجها ثم بلغها بنفسك كل هذه القبلات!
كان عم محمود لا يعلق بشيء سوى الضحك.

توصيات عم محمود وحدها، هي التي استطاعت إخراج الدكتور سامي عمارة عن البرود العاطفي الذي ورثة عن والده.

بعد قبلات تكلّفية وتكليفية قليلة، تمكن الدكتور سامي عمارة، و بكل تلقائية و حماس، من طبع قبلة صباحية على رأس الوالدة ... ظل هكذا لمدة سنتين كاملتين سبقتا وفاتها. لأجل ذلك كان يشعر بكثير من الإمتنان و العرفان لعم محمود، كلما تذكر سعادة الفقيدة بتلك الهدايا الصباحية التي لا تعوّض.

عم محمود هو الذي استطاع بفضل حنانه الأبويّ، و ما تفيضه شخصيته المرحة من حب للحياة و قدرة على تجشم متاعبها، من اخراج الدكتور سامي عمارة من فترة اليأس و الإكتئاب التي أعقبت وفاة زوجته الحبيبة اثر حادث مرور. لأجل ذلك كان الدكتورسامي عمارة يتألم كثيرا، حتى وهو خارج العمل، كلما تذكر النهاية المأساوية التي يحياها رجل حنون و عاطفي و احتفاليّ مثل عم محمود...

كلما حكى الدكتور سامي عمارة عن عم محمود و شخصيته الدافئة الي أحد اصدقائه، كان يصله نفس التعليق:
ــ خسارة رجل مثل هذا لا يستحق مصيرا كالذي يحياه.

حين التقط الدكتور سامي عمارة فنجان القهوة المهجور، وجده باردا مثل جثة. تذكر انه قد تناول منه رشفة واحدة . كان قد همّ بارتشافه ثانية، حين رنّ هاتفه الجوّال ليحمل إليه نعي عم محمود . قبل مغادرة البيت طبع الدكتور سامي عمارة قبلة باردة على خد زوجته وهو يقول بما يشبه التبرير:

ــ لا بد أن أقوم بزيارة ميدانية لأتعرف على بعض تفاصيل الحادث.

قبل وصوله الي "مؤسسة حنان لرعاية العجّز"... وجد الدكتور سامي عمارة الوقت الكافي، لجعل شريط الذكريات يمرّ أمامه... لقد كان عم محمود أول نزيل حلّ بمؤسسته الخيرية التي افتتحت منذ عشر سنوات. تعلق به منذ اليوم الأول، كان يسميه "أبو المعارف"،كان رجلا واسع الثقافة والإطلاع، كما كان مبعث سرور جميع النزلاء، كثيرا ما وجدهم يحيطون به كاطفال صغار وهو يقرأ عليهم قصصا شعبية من تأليف عبد العزيز العروي، أو ابياتا شعرية من نظم الأديب الساخر حسين الجزيري.
ــ لن تخسروا شيئا اذا ضحكتم، بالقهقهة تستطيعون مواجهة متاعب الحياة، مهما كانت قسوتها .
هكذا كان عم محمود يوصيهم، استطاع عم محمود اخراج بعض النزلاء من عزلتهم و جعل الحياة اكثر قابلية للتحمل .
مأساوية الأحداث التي مرت بعم محمود، لم تفقده مرحه ولا حبه للحياة. " ربّي كبير" كانت لازمته الأثيرة التي لا يكلّ عن ترديدها بين الحين والحين، خصوصا إزاء ما يحكى له من قصص العقوق و نكران الجميل. لأول مرّة، و حين أطلعني عم محمود عن قصته وجدت نفسي أبكي بين يديه إشفاقا و رحمة كأي طفل صغير... كان عم محمود يودع آخر سنة دراسية من جملة واحد و أربعين سنة قضاها على التوالي مدرّسا،ثم مديرا ثم متفقدا للتعليم الإبتدائي حين حدث الزلزال التي دمر حياته. كل من المفروض أن يكرم عم محمود بعد واحد واربعين سنة من الجهود المضنية في صناعة أجيال المستقبل... لكن تكريمه من قبل العصابة الحاكمة في تونس اتخذ شكلا آخر.
ـــ كنت أتهيأ لفترة تقاعد أصرفها بين الإهتمام بزوجتى المقعدة، و زيارة احفادي وقراءة بعض الكتب التي لم أجد وقتا للإطلاع عليها، حين داهمني تسونامي حكوميّ قلب حياتي رأسا على عقب... لم أتخيل قط أن التصدق بعشرة دنانير على عائلة سجين. يمكن ان تحطم حياة، و تهدم أسرة و تقلب كيانا.هكذا استهل عم محمود مأساته... بعد جلسات طويلة و متعددة، عرفت قصة عم محمود كاملة... حين اعتقل عم محمود، كانت تهمته جمع تبرعات غير مرخص فيها، و عند انتهاء التحقيق معه، أصبحت تهمته التآمر على أمن الدولة، و الإنتماء الي جمعية محظورة، و الإرتباط بجهات خارجية معادية للوطن!.

ــ لم أجد أي فرصة كي أفيد الجلادين باني قد قمت فعلا باستثارة عطف بعض أصحاب النفوس الرحيمة من أبناء الحيّ، للوقوف الي جانب جارتنا المسكينة التي عايناها وهي تكابد الفقر و الخصاصة، بعد اعتقال زوجها بتهمة الإنتماء الي حركة النهضة ذات الاتجاه الإسلامي، وأن التبرعات التي جمعتها، كان مآلها جيب جارتي، و ليس خزينة حركة النهضة. كما لم أجد الفرصة للتعبير عن عدم تعاطفي مع حركة النهضة التي هي امتداد لجماعة الإخوان المصرية التي اشتهرت في كل قطر نكب بتواجدها فيه بانتهازيتها، ووقوفها ضد مصلحة الوطن و الدين الذي تتشدق بخدمته... وقع تعذيبي بشدة، علقت من معصميّ حتى أصيب ذراعي بإعاقة دائمة. قلعت اظافري. رميت بين اكثر مساجين الحق العام شذوذا و دناءة، رغم شيخوختي و توسلاتي لم يترددوا في اغتصابي... بعد أربع سنوات من جحيم الإيقاف التحفظي، حكم عليّ باثني عشر سنة... فقداني ليدي اليمنى و رجلي اليسرى أعفاني من الأشغال الشاقة... قبل حلول الذكرى الخامسة لإعتقالي، فقدت زوجتي، علمت بوفاتها عن طريق سجين جديد كنت صديقا لوالده، قبل فقدان زوجتي بمدة أطول بقليل تأكدت من فقدان ولديّ و واحدة من بناتي. باستثناء ابنتي الصغرى... لم يقدم احدهم على زيارتي،التمست لهم العذر، كان الأول رائدا في الجيش، كما كان الثاني مخرجا تلفزيونيا شهيرا، اما ابنتي الكبرى فقد كانت زوجة مسؤول حكومي كبير... بعد تسع سنوات من الإعتقال الظالم، و حين غادرت السجن، بعد أن شملني عفو رئاسي بمناسبة حلول الذكري الخامسة عشر لتحوّل السابع من نوفمبر، لم أجد أحدا حولي، خصوصا وقد أصبحت من ذوي الإحتياجات الخاصة، إلي ان سمعت بمؤسستكم.
لم يحتج الدكتور سامي عمارة الي سؤال عم محمود عن ابنته

الصغرى، فقد علم منه انها توفيت بسرطان الثدي خلال السنة الرابعة من اعتقاله.

أثناء سرد معاناته، لم ينس عم محمود تذكير الدكتور سامي عمارة بين الحين و الحين بأن "ربّي كبير"، و كأن الدكتور سامي عمارة المصاب دونه.
حب الدكتور سامي عمارة لعم محمود، و بحثه عن سيبل حقيقي لإسعاده، حمله ذات مرة على زيارة العقيد أشرف مروان في بيته، و تذكيره الي حد التوسل، بضرورة زيارة والده الشيخ، حتى انه اقترح عليه استقباله في بيته لنفي أي شبهة... كان رفض العقيد مروان قاطعا وحادا و فظا، كان يخشي من تسرب خبر يفقده موقعه البارز في السلطة، خصوصا و قد رقي الي رتبة جنرال، حين خرج سامي عمارة من عنده، فهم لأول مرة كيف يمكن للنبي نوح ان يلد كافرا. موقف المخرج سامح مروان كان أسوا من موقف أخيه، اعلن بكل بجاحة:
ــ ما دام قد اختار مصيره بنفسه، فليتحمل جرائر ما قدمت يداه.
رأى سامي عمارة ان من العبث الدفاع عن عم محمود لأجل ذلك انصرف متحسرا.
منذ أشهر قليلة، اقترح الدكتور سامي عمارة على زوجته جلب عم محمود للأقامة بينهما، غير ان اقتراحه جوبه برفض و استهجان شديدين. منذ ذلك الحين ايقن الدكتور سامي عمارة انه تسرع في اختيار شريكة حياة ثانية.

آخر مرة رأى فيها عن محمود كان مساء أمس الأول،أول ايام عيد الفطر. إعتاد الدكتور سامي عمارة الذهاب مباشرة بعد صلاة كل عيد الي مؤسسته الخيرية لمؤازرة قاطنيها، و رفع معنوياتهم. كان يدرك جيدا حساسية تلك المناسبات(التي لم تصبح سعيدة)، و ما تبعثه في نفوس هؤلاء المنبوذين من مواجع و حسرات, كان عم محمود و على غير عادته واجما بعض الشيء حتى انه لم يتحمّس
كما كان يفعل دائما، حين اقترح عليها مقابلة إسكرابل ، لم تكن حاله كذلك قبل ساعات قليلة حين سهر معه الي ساعة متأخرة من الليل، وقبل ان يغادره، طلب منه عم محمود التنازل له عن جريدة " الصباح"، وقد فعل ذلك بكل سرور رغم احتياجه الي قراءة خبر أوصاه صديقه بضرورة الإطلاع عليه نظرا لطرافته.

حين إجتاز الدكتورسامي عمارة عتبة مؤسسة الخيرية، طالعته سميّة بوجهها الصبوح، وقد بدا عليها التأثر الشديد:
بادرها بقوله :
ــ كيف حدث ذلك ؟
ــ حين ذهب عم صالح لإيقاظه لصلاة الفجر وجده مشدودا بحبل الي سقف غرفته... أثبت الطبيب المرافق للجنة البحث الجنائي ان الموت قد حدث قبل ساعة.
ــ كيف كان بالأمس؟
ــ كان متجهما على غير عادته.
ــ هل تجاذبت معه أطراف الحديث ؟
ــ فقط حين طلب مني نسخ مقال صغير من جريدة" الصباح".
ــ هل تذكرين ما كان محتواه ؟
ــ لم أهتم بذلك.
ــ ماذا حدث بعد ذلك
ــ عند انتهاء الدوام، سلمني رسالة و رجاني إسقاطها في أقرب صندوق بريد... كانت تحمل اسمي اشرف وسامح مروان.
حين توجه الدكتور سامي عمارة الي غرفة عم محمود، كان يأمل بوجود جريدة"الصباح" لعله يجد بين طياتها ما يفسر لغز انتحار عم محمود، غير أنه وجد الغرفة مختومة بالشمع الأحمر. حين سأل عن الجريدة أفادته سمية بان كل اشياء عم محمود قد جمعت في كيس بلاستيكي و أخذت مع الجثة.

حين كان الدكتور سامي عمارة يغادر المؤسسة سمع صوت سمية:
ــ دكتور سامي انتظر.
حين التفت رأي سمية تسير باتجاهه و في يدها ورقة
وهي تتقدم نحوه كانت تقول :
ــ كنت أخبرتك انني نسخت مقالا لعم محمود، ما لم أر ضرورة لذكره، هو انني فشلت في محاولة نسخى الأولي
لقد صورت الجزء الأعلى من المقال المطلوب، لأجل ذلك أعدت نسخه ثانية، و ها هي النسخة المبتورة.
تفحص الدكتور سامي عمارة الورقة المنسوخة، تحت عنوان" في الصين، وفاء من نوع آخر"، قرأ ما يلي : قطع الكلب "هوا هوا" و عمره سنة واحدة، مسافة خمسين كيلومتر لزيارة السيد" لي شون" الطبيب البيطري الذي اعتني به لمدة ستة ايام قبل ان يعيده الي منزل صاحبه، وقد فوجىء الطبيب البيطري الشاب ذات صباح شتوي بالكلب "هوا هوا" وهو يقف مرتجفا أمام بوابة عيادته الخاصة. كان "هوا هوا " قد قطع مسافة....

ارتجفت يدا الدكتور سامي عمارة، اصيب بذهول أعقبه الم شديد، ترك الورقة تسقط من يديه، وجد نفسه يتهاوي على الأرضية الرخامية الباردة ، أدركته سمية أخذت بيده .
ــ خير دكتور
ــ شكرا سمية لا شيء، مجرد صداع خفيف. ثم وهو يحدث نفسه " الآن فقط أدركت الأثر المدمّر الذي أحدثه خبر الكلب الوفي في نفس أب منبوذ بذل سنوات عديدة من عمره في العناية بثلاثة أبناء عاقين ... ".
حين أوجز الدكتور سامي عمارة لسمية ما قرأه لتوه . أشارت الأخيرة الي أمر لم يتفطن إليه من قبل.
ــ لعل أكثر ما آلم عم محمود رحمه الله، أن أبناءه لم يكونوا بحاجة الي قطع واحد من خمسين من المسافة التي قطعها" هوا هوا" للتعبير له عن عرفانهم بالجميل، فأبعدهم سكنا، يقطن على مسافة اقل من كيلومتر واحد منه !


أوسلو 10 جوان 2009

منتقاة من مجموعة البحر امامكم




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !