فتح الربيع العربي الباب على مصراعيه لمواجهات دامية بين انظمة قمعية وشعوب تطمح للحرية والعدالة وحصة من ثروات البلاد بعد عقود من التهميش وممارسة ابشع أنواع الظلم تحت مسميات متعددة ومهما اختلفت هذه المسميات والذرائع نجد ان اغلبية الشعوب العربية رزحت تحت حكومات تستهتر بأبسط حقوق الانسان وتتمسك بأمنها على حساب أمنه. والسعودية لم تكن بمنأى عن هذه المنظومة والتي انفجرت في المنطقة الشرقية كان اخرها احداث العوامية والتي اتهمت فيها ايران كيد خارجية لم تسم بل اعتبرت المسؤولة عن تحريك الشارع الشيعي وبعد هذه الاحداث والتي مصدرها اولاً وأخيراً حالة قمع وتهميش تاريخية وتمييز طائفي مبرمج يمارس على الطائفة من قبل النظام ومن يعتبر نفسه اسداً من اسود السنة.
وتمركز هؤلاء على المنابر منهم من يقترح سحب الجنسيات والضرب بيد من حديد وابادة جماعية لتقتلع معاقل الكفر والعمالة وتهديد أمن الوطن فتصدى لهم الشيخ نمر النمر سليل عائلة دينية لم تعرف الا بولائها لله وخطب خطبته المشهورة يوم الجمعة 7 تشرين الاول/اكتوبر حيث نفى ولاءه لأي جهة خارجية وكرر ولاءه لله وفضح مقولات النظام بعد ان تحداهم ان يقعطوا علاقاتهم الدبلوماسية مع الجهة المتهمة بتحريك العوامية ويواجهوها بحرب معلنة بدل التنكيل بالشارع الشيعي واقصائه واعتباره طابورا خامسا. ويعرف النمر ان هذا التحدي الجريء لن يتحقق حيث ان النظام السعودي لم يستطع ولن يستطيع ان يقوم بأي عملية عسكرية ضد ايران مهما ازداد التصعيد بمفرده وسيظل يعتمد على القوة الامريكية في المنطقة في حال اي مواجهة مع ايران لذلك كان تحدي النمر من باب الاستهزاء وليس الدعوة الجدية. لقد اصبح تحدي النمر في حالة الاحتقان الطائفي الذي تشهده الجزيرة العربية منذ احداث البحرين غير مقبول ممن يدعي انه اسد من اسود السنة والذين بدأوا يعرفونه بآية الله النمر وبعيداً عن المهاترات الطائفية نعتقد ان هناك مفارقة اليوم بين اسود السنة والنمر حيث اثبت هؤلاء عجزهم عن التعاطي مع المشكلة الطائفية بل كانوا دوماً يشعلون فتيلها ويغذونها بفتاوى وتارات قديمة وان هم استأسدوا على اخوانهم في الدين الا انهم ظلوا بعيدين عن خطاب التحرر من العبودية ومن كان منهم صاحب مشروع اكبر من قضايا الاختلاط وقيادة السيارة والعباءة المخصرة قد وجد طريقه الى سجون النظام حيث يقبع عدد كبير منهم.
وقد نجح النظام السعودي في ابعاد الاصوات السنية المطالبة بالاصلاح اما عن طريق وصفهم بالارهاب او سجنهم دون محاكمات فخلت الساحة الا من اسود كرتونية تتخذ من المنابر عريناً هشاً لتنشر فقه الطاعة المطلقة وتحرم ابسط انواع الاحتجاج السلمي وتندد وتتوعد المصلحين بنار جهنم. وافرغ النظام السعودي السنة من جوهرها وجعلها تتقوقع في نصوص عصور الانحطاط التي روجها جيل قديم من أسود السنة خوفاً من اندثار الدين وحفاظاً على انظمة قمعية انتهت وانتصر فكر التخاذل على نقيضه الذي دعا الى الثورة والخروج على منظومات الحكم المستبد المطلق واصبحت مصطلحات السنة لغة مرتبطة بالخنوع والذل بدل ان تكون اشعاعاً ينير الدرب في عتمة الاستبداد السياسي.
واخترع النظام السعودي لمروجي هذا الفكر الالقاب والمناصب والمحافل والمجامع ليكافئهم على عمل جليل يكرس مفاهيم الذل والصبر على الظلم مخافة القلاقل والتغيير وتحول هؤلاء الى حوزات صامتة تمجد وتتقرب الى الله بطاعتها العمياء والدفاع عن ابشع انواع الممارسات السياسية بحق شعب لم يكن يوماً ما متعوداً على مثل هذه الهجمة السياسية الدينية المزدوجة.
وهم اليوم يأخذون على النمر ان هو تأسد بينما اسودهم تردد خطاباً لم يعد يصلح ولا ينفع امام مدّ عربي تجاوز فتاوى أسود في قفص اشبه ما يكون بالسجن الكبير. وحدد النمر ولاءه بينما هؤلاء ظلوا يتخبطون في ولائهم غير قادرين على التملص من مناصبهم والقابهم حتى اصبحوا اضحوكة يسمع صداها القريب والبعيد. ففقههم نشأ قريباً من السلطة السياسية وفي حضنها بينما فقه النمر جاء من الهامش حيث ترعرع بعيداً عن قمع الفكر في محافل فقهية تغذيها أموال السلطة والقابها. ومن هنا المفارقة التي فضحت أسود السنة المزعومين لحظة تحول تاريخي عربي لم تشهده المنطقة منذ عقود طويلة. وسيفضح هذا التحول الكثير من الشخصيات الدينية تماماً كما فضح النمر ممارسات التمييز والاقصائية القديمة. وسيصبح هؤلاء هامشاً على صفحات التغيير القادم حيث سيولد جيل جديد لم يعد يقبل بخطابات التبجيل الهادفة الى تخدير مجتمع كامل بجرعات متتالية من لغة الذل والصبر والطاعة والتي اصبحت صفة ملازمة للشخصية المهزوزة والنفسية المحطمة.
وان لم يقتنع هؤلاء بخطورة المرحلة القادمة ويتفادون مصير السلطة السياسية المشكوك في ديمومته سيواجهون نفس المصير الذي سيواجه هذه السلطة. وان صبوا الزيت على صراع يصور وكأنه صراع طائفي بحت فسيجرون البلاد الى هاوية حروب طائفية قادمة لن ينتصر فيها أحد بل سيخرجون منها مثقلين بعبء كبير ومسؤولية تاريخية تجرفهم الى مؤخرة الأمم وانتحار جماعي لا حياة بعده.
لقد تحول اسود السنة المزعومون الى خرافة تاريخية مثقلة بإرث دفع ثمنه الباهظ الكثير من ابناء الجزيرة العربية والمجتمع العربي بعد ان صدروه الى ما وراء الحدود وعولموه مدعوماً بأموال النفط فساهموا بدورهم في اطالة عمر الاستبداد السياسي وشق صفوف الأمة وتحجيم تيارات تحررية والقضاء عليها. وسيكونون الخاسر الأكبر في معارك قادمة حيث سيتذكرهم الجميع كمنبر مرتبط بالسلطة واهوائها ومزاجها ولن يقبل بتوبتهم المتأخرة وستلفظهم مجتمعاتهم كما لفظت الشعوب الحية ازدواجية القمع السياسي الديني المبرمج. لن يشفع لهم احتكارهم لتفسير المقدس وتقريب الرسالة الى العوام حيث اثبت هؤلاء انهم ليسوا بحاجة لوساطتهم المغلوطة وحججهم الواهية ونصوصهم التي تحولت الى مرجعيات تنافس المقدس في قدسيتها.
لقد اسقط اسود السنة انفسهم بأنفسهم بعد ان نذروا انفسهم لطاعة ولاة امرهم وعطلوا مفاهيم اسلامية قديمة كقدم الرسالة ذاتها فتغنوا بمصطلحات جردوها من معناها وحملوها ما لم تكن لتحتمله لولا سوط السلطة السياسية حتى فقدت قدرتها على تحريك الشعوب وضمائرها بل تحولت الى مرادفات فارغة المضمون ورموز لا تصمد امام الواقع السياسي الحالي. ان كان لرموز اسود السنة من مستقبل في منطقة عربية جديدة فعليهم اولاً ان ينفضوا عنهم ارث التبعية للسياسي وتقديسه وثانياً ان لا يتأسدوا الا على من زج بهم في قفص الخنوع علهم بذلك ينجون بأنفسهم وبمجتمعاتهم من حرائق قادمة وأزمات مستقبلية. وسيأتي التغيير ويجرفهم مع فكرهم ولن يصمدوا امام التحول السياسي والذي سيأتي مع تحول فكري وثقافي يزيد من عزلتهم وانقراضهم مع الزمن. وان كانوا حتى هذه اللحظة لا يعون النقلة التاريخية بتداعياتها على المجتمعات وفكرها فهم بالفعل في غفلة قاتلة. اما اذا جروا المنطقة الى صراع طائفي يأكل الأخضر واليابس فسيكونون حطب حروب طائفية وصراع دموي يخسرون بعده كل شيء تماماً كما خسر أمثالهم موقعهم في مناطق أخرى من العالم بعد تحولات جذرية ومخاضات عسيرة. والشعوب العربية قد لحقت بالفعل بمسيرة الامم الحية بعد ان اعتقد الجميع انهم لن يستفيقوا من غيبوبة طالت مدتها ففاضوا وجادوا في تحطيم تاريخ معاصر تكالبت فيه عليهم مجموعة من القوى الفتاكة الداخلية والخارجية. الا ان نهضتهم جاءت بعيداً عن الفكر المتخلف والذي ساهم في نشره الكثير من دعاة التأسد المزورة.
لقد كشف النمر في تحديه مفارقة عجيبة أثقلت أكتاف الشعوب العربية عامة بما فيها شعب الجزيرة العربية وفتح الباب على مصراعيه بعد ان اغلقته السلطة السياسية في وجه فقه التحرر والتمرد على السلطة المطلقة وممارساتها الشاذة. ولن تعود لأسود السنة مخالبهم طالما ظلوا أداة تستحضر كدواء للحرية والكرامة ومخدراً لشعوب أبت ان ترضخ وتركع من اجل حقوقها المشروعة. وستتمخض الحقبة القادمة بمفاجآت ربما لا تصمد امام رياحها تراتيل الصير والطاعة.
كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
د. مضاوي الرشيد
التعليقات (0)