عفوا أيها الدولار!
بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
يعكس النقاش الواسع الدائر حول مستقبل الدولار كعملة عالمية نوعا من التدافع للسيطرة على العولمة، وأيا كانت نتيجة النقاش فإنه يعني ضمنا أن الأطراف الدولية التي تحاول إقصاء الدولار عن عرشه، ومعظمها من خصوم الولايات المتحدة الأمريكية انتقلوا من مقاومة العولمة ومحاولة وقف مسيرتها إلى الصراع مع الولايات المتحدة على السيطرة عليها، ففي حقيقة الأمر لم تستغن البشرية دائما عن عملة عالمية للتبادل بين الأمم، ولا يتصور مع تصاعد معدلات الاعتماد المتبادل وتضخم حجم السلع والخدمات المتبادلة عالميا أن يتصور أحد أن بالإمكان الاستغناء عن عملة عالمية.
فالفكرة ليست جديدة وعلى مدى التاريخ جلس على هذا العرش قبل الدولار عملات عديدة كالدراخما اليونانية التي ربما كانت أول العملات العالمية، وقبل أن تتحول أوروبا بفضل الثورة الصناعية إلى أكبر مصدر للسلع في العالم كانت عملات مشرقية تحتل بجدارة موقع العملة العالمية من النقود الفضية الهندية إلى الدينار الإسلامي.
وفي بداية مسار صعود العملات الأوربية كعملات عالمية نجح الإسكندر المقدوني من خلال سيطرته العسكرية على أجزاء كبيرة من آسيا والشرق الأوسط أن يحول "الدراخمة" اليونانية إلى عملة عالمية ومن اسمها اشتق لفظ "الدرهم". وفي ختام مسار الصعود الاقتصادي الأوروبي الحديث كان الجنيه الإسترليني العملة العالمية بلا منافس، بالترافق مع اتساع نطاق نفوذ البحرية البريطانية، وهو ارتباط لم يغب أبدا بين حدود قوة كل إمبراطورية ونطاق انتشار عملتها، وكذلك قوة اقتصادها فالولايات المتحدة بنهاية الحرب العالمية الثانية كانت منفردة تنتج نصف الإنتاج الصناعي العالمي. وفي الوقت نفسه لأن القطاع المالي الأمريكي هو الأكثر تطورا في العالم.
وكما شهد النصف الثاني من القرن العشرين مراسيم تسليم وتسلم للنفوذ السياسي والعسكري الأكبر في العالم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة أزاح الدولار سلفه الإسترليني وجلس على عرش العملة العالمية وبقي عليه مطمئنا دون أن يفكر كثيرون في الحاجة إلى تنحيته عن عرشه!
ويعتبر المؤرخون أن اتفاقية بريتون وودز (1944) كانت حفل التتويج الحقيقي للدولار وتم تثبيته بقيمة الذهب بمعدّل 35 دولاراً للأونصة، وتم ترتيب العملات الأخرى بحسب قيمتها مقابل الدولار. ورغم ولادة عملة كبيرة هي اليورو (1999) فإن الدولار ظل محتفظا بعرشه وهي نجحت بتغيير بعض ملامح المشهد المالي العالمي، لكنها أخفقت في اقتناص العرش.
ومع الأزمة المالية العالمية الأخيرة كان طبيعيا أن يثور الجدل حول الدولار ومدى استحقاقه البقاء على عرش "العملة العالمية"، والدعوة لاستبداله جزء من سياق أكبر هو الحالة المشهودة من المراجعة والنقد للدور القائد للولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي، وبالتالي دور عملتها، وهذا السياق وسم النقاش بسمة واضحة هي اختلاط التحليل بالتحريض وأحيانا زوال الخطوط الفاصلة بين التنبؤ والتمني.
ولأن التغيير ليس بالتمني فإن بعض أكثر الدول حماسا لدعوة استبدال الدولار تملك الاحتياطي الأكبر في العالم من الدولار. فالصين مثلا دعت مرارا للتخلي عن الدولار عملة عالمية وإحلال عملة عالمية بديلة عنه وجاء في بيان أصدر البنك المركزي الصيني هذا الشهر أن عملة "عابرة للدول" يجب أن تحل مكان الدولار. ومن يتأمل الاقتراح يجد أنه – في حقيقة الأمر – سيؤدي للمزيد من العولمة وتقليص السيادة الوطنية!!
ويرى الخبراء أن مما يزيد الأمر صعوبة أن العملات المرشحة لتحل محل الدولار كعملة قياس دولي ومخزن عالمي للقيمة ليست مؤهلة لذلك حتى الآن. ورغم كل ما يتداول عن المعجزة الصينية فإن العملة الصينية "اليوان" في حقيقة الأمر لا تكاد تكون متداولة أبعد من هونج كونج. أما باليورو المنافس الأوفر حظا فيواجه مشكلة أن قاعدته الاقتصادية موزعة بين عدة اقتصادات أوروبية متباينة في نموها وحتى هياكلها ونماذج تنميتها، وحتى الآن فإن القدر المتداول دوليا من أصول باليورو ما زال صغيرا (65 % من الاحتياط العالمي بالدولار و25 % باليورو).
رغم هذه الحقائق فإن هناك أصوات لا يستهان بها تدعو لتوديع الدولار، فمثلا، أستاذ السياسة النقدية الأوروبي الشهير سيرجيو روسي (خبير السياسات المالية بجامعة فريبورغ) يرى أن التخفيض الكبير في أسعار الفائدة من طرف وزارة الخزانة الأمريكية، تجعل الودائع بالدولار غير مربحة، لكنه في الوقت نفسه يحذر من أنه في حال باعت مصارف ودائعها من الدولار لتشتري الين الياباني، أو اليورو، فسينهار أكثر سعر صرف الدولار، ما سيؤدي في النهاية إلى تراجع قيمة مدخراتها. لكن المثير قول روسي: "البنك المركزي الأوروبي لا يرغب في أن يصبح اليورو العملة الرئيسة الجديدة في العالم. تماما كما لا تريد الصين أن يحتل الين الياباني مكان الدولار".
الطريف أيضا أن الدعوة اشتبكت مع قضية أعقد هي حرص الدول ذات النظام الديموقراطي خارج العالم الغربي لمؤازرة الدولار ، كما لو كان التزاما ديموقراطيا، ففي مواجهة دعوات صينية لإنزال الدولار من عرشه أعلنت اليابان (ثاني أكب اقتصاد في العالم) أنها ترفض أي إضعاف للدولار، وهو موقف شاركتها فيه الهند (ثالث أكبر اقتصاد في العالم)، الديموقراطية الآسيوية الصاعدة، وقد اعتبر بنك البنك الهندي المركزي أن الدولار سيظل عملة الاحتياط العالمية في الوقت الحالي.
وبينما الدعوة لاستبدال الدولار تتكرر بهدف إقصاء الولايات المتحدة عن وضعيها الاقتصادية كقاطرة للاقتصاد العالمي يؤكد جوزيف ستيغليتز الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أن استبدال عملة احتياط عالمية جديدة بالدولار سيكون في صالح أميركا على المدى البعيد!!!
ولا تعليق.
التعليقات (0)