السلطان من بَعُدَ عن السلطان
مثل جميل
منذ أيام قليلة، و أنا أقرأ قائمة السفراء الجدد الذين تم تعيينهم هنا و هناك، توقفت عند اسم شخص أعرفه و يعرفني جيدا.. توقفت عند اسمه و ابتسمت لأنني تذكرت ما كان قد قاله لي ذلك الشخص قبل حوالي عشرين سنة. لقد قال ما معناه أنه يفضل منصب وال أو سفير على منصب وزير! و قلت سبحان الله الذي حقّق أمنيته!
اسم آخر في قائمة السفراء الجدد، أعرفه و يعرفني جيدا، توقفت عنده و قلت لنفسي أن هذا الرجل من النوع الذي لا يجب أن يرسل له الناس تهان ! لماذا ؟ هل لأنه ليس أهلا لمنصب سفير ؟ السؤال هذا لا يجب أن يُطرح بالأساس لأن من أصبح في هذا البلد أهلا لماذا يرحم والديكم. لماذا إذن، قلت أن ذلك الرجل لا يستحق التهاني ؟ أ لأنه غير كفؤ أم لأن أخلاقه لا تشرّف أم لأنه واحد من اللصوص الذين لم يمثلوا أمام العدالة أم فقط قلت أنه لا يستحق التهاني هكذا من باب الحسد لا أكثر ؟! الحقيقة، لا هذا و لا ذاك و لا تلك. لقد قدّرت أن ذلك الرجل لا يبادر عاقل بتوجيه تهنئة له، لأنه قبل أزيد من 25 سنة على الأقل ، كان تعيينه سفيرا منتظرا بقوة، و بالنسبة لأصدقائه المقرّبين و أقاربه، لم تكن مسألة تعيينه تنتظر أكثر من أن تقرأ زهية بن عروس ( التي أصبحت وزيرة ثم سيناتورة) بيان تعيينه. و لكن قرارات التعيين في مناصب سفراء، صدرت، و بيان التعيينات قُرأ في أخبار ثامنة تلفزيون الززاير، و لكن اسم صاحبنا لم يكن ضمن القائمة .
هل كان لا بد من أن ينتظر ربع قرن كي يُعيّن سفيرا؟ كل من أراد أن يكون سفيرا كان له ذلك طيلة ربع القرن الذي مضى، بينما بقي صاحبنا ينتظر إلى أن عُيّن سفيرا.. بعد ربع قرن!
اسم ثالث من السفراء الجدد أعرفه و يعرفني جيدا، توقفت عنده و ابتسمت. الرجل كان قبل 17 سنة واليا. في ذلك الوقت كان عندما يتمنى قلبه شيئا، فان القوم يسمعون قلبه و يتنافسون و يتسابقون فيما بينهم من أجل خدمته و التبرّك به و التبرّك حتى بأصغر أطفاله. صيف عام 1994، وقعت حركة في سلك الولاة، و أُنهيت مهامه لأسباب بقيت مجهولة. الرجل بقي بلا منصب و اضطر إلى أن يبقى رفقة أفراد عائلته في المنطقة التي كان واليا عليها، ظنا منه ربما أن القوم طيّبين - كما كانوا -. لكن الذي حدث أن أياما لا تتعدى السبعة، كانت كافية كي يبحث الرجل عن واحد.... واحد فقط من كل أولئك " القوّادين" ، لكنه لم يجد و لو واحد منهم و ما أكثرهم عندما كان يعدّهم. و أشهد أن الرجل عاش في صمت و لعدة شهور، ظروفا قاسية جدة على كل الأصعدة الاجتماعية و المالية و النفسية، و تعيينه سفيرا، لا يمثل في نظري أكثر من تعويض حكمت به العدالة الإلهية، و التعويض جاء في شكل عطلة مدفوعة الأجر طويلة المدى خارج الوطن، مع الإقامة بفيللا فخمة محروسة محمية و تغطية مالية بالعملة الصعبة .. بالهناء و الشفاء.
سفراء الدول الغربية في البلدان العربية، غالبا ما يوصفون بالجواسيس. سفراء الدول العربية و منهم سفراء الجزائر، أكانوا في بلدان عربية أو غير عربية، كلهم تقريبا شعراء، يهوون الكلمات المتقاطعة و يحبون كتابة التاريخ و المطالعة. لماذا ؟
لأنهم منذ اليوم الذي يُعيّنون فيه في مناصبهم كسفراء إلى غاية اليوم الذي تُنهى فيه مهامهم، لا يعرفون ماذا يفعلون بوقتهم و هم داخل مكاتبهم التي يجب أن يلتحقوا بها يوميا ! إنهم هناك... في مكتب واسع شبيه بقاعة جمباز، أمامهم كراسي و أرائك و طاولات كثيرة، جهاز تلفزيون، كمّ كبير من الصحف و المجلات... و في أي وقت، يمكن لأي واحد منهم أن يطلب قهوة أو شاي أو عصير أو أي مشروب آخر.
سفيرنا مطلوب منه أن يلتحق بمكتبه و ينتظر أي مكالمة هاتفية أو فاكس قد يصله من سلطات الجزائر. لكن يحدث لسلطات الجزائر أن تنسى ذلك السفير، بل و تنسى حتى إن هي تقيم علاقات دبلوماسية مع البلد الذي يتواجد به ذلك السفير، فلا يتلقى لا اتصال هاتفي و لا فاكس و لا حتى برقية بالمفهوم اللا سلكي القديم الجميل للكلمة.
تصوّروا شخصا يقضي ثلاث ساعات في الصباح و أربع أو خمس ساعات بعد الظهر، داخل مكتب، من دون أن يكون له عمل واضح يقوم به خلال تلك الفترة الطويلة !
سعادة السفير قد يستيقظ باكرا، و هذا ليس لأن أمامه شغل كبير ينتظره، و إنما ليقضي ما يكفي من وقت أمام المرآة، يتأمل ذاته و يتمعن في هندامه و تسريحة شعره، قبل أن يخرج من البيت.. فهو سفير، و الجمهورية التي عيّنته بهذه الصفة تدفع له إضافة إلى راتبه الشهري، منحة خاصة المفروض أنها تكفيه كي لا يرتدي إلا " الماركات" العالمية، و يمكنه حتى أن يرمي البدلات و الأقمصة في الزبالة بدلا من وضعها في الغسّالة.. ما من مشكل ! فالمال متوفر، و هو يقبض كل شهر كي لا يعيد ارتداء ما سبق له أن ارتدى.
سعادة السفير قد يواجه بعض المشاكل مع معدّته، في الأيام الأولى التي يلتحق فيها بمنصبه و بيته الجديدين، بسبب فطور الصباح المنوع كمّا و نوعا أو بسبب وجبات الغداء أو وجبات العشاء أو بسبب كل تلك الوجبات.
سعادة السفير، يتلقى راتبا شهريا مرتفعا مرفوقا بمنح و علاوات كثيرة ، ناهيك عن ظرف مالي بالعملة الصعبة، لا يعرف قيمته إلا السفير و قلّة قليلة جدا من المسؤولين الجزائريين. مبلغ ذلك الظرف المالي، يتصرف فيه سعادة السفير كما يحلو له، و هو غير مطالب بأن يبرّر الوجهة التي أنفق فيها ذلك المبلغ، شريطة أن يتم إنفاقه في سبيل قضايا تهمّ مصلحة البلد. يا الله... هو ينفق عمّارها و يكفيه أن يقول بأنه فعل ذلك من أجل مصلحة البلاد.
السفير لا يعاني من أي مشكل، اللهم إذا كان يعاني من مشاكل صحية، فهذا موضوع آخر. و ما عدا ذلك، فان كل شيء متوفر للسفير، بل يمكن القول أن السفير يمشي على بساط الريح و طلباته أوامر حيثما كان و وقتما شاء. في المقابل، يُطلبُ من السفير أن يلتحق بمكتبه، و أن ينتظر !... ينتظر المكالمة أو الفاكس أو البرقية التي قد تكون الأولى التي يتلقاها طيلة 4 أو 5 سنوات، كما أنها قد تكون الأخيرة لأنها تتضمن قرار إنهاء مهامه أو تحويله سفيرا للجزائر في دولة أخرى، أو تكليفه بمهام أخرى داخل الوطن.
السفير إذن، يقبض و يأكل و يشرب و يلبس و ينام جيدا. في المقابل عليه أن يلتحق يوميا.. في الصباح و في المساء بمكتبه... و ينتظر !... و ريثما يتلقى المجهول الذي يرتقب حدوثه، يمكنه أن يشاهد التلفزيون، أو يطالع الصحف الجديدة التي يجدها فوق المكتب بانتظاره، أو يشرب قهوة تليها قهوة ثم شاي... ثم قهوة... لكنه يملّ بالنهاية، فيفتح على جهاز الكمبيوتر صفحة بيضاء، و يكتب شعرا. الملل يصنع من سفراء الجزائر، شعراء !
من كثرة كتابة الشعر... بمعدل قصيدة أو قصيدتين في اليوم، يجد سعادة السفير نفسه، قد ألّف ديوانا شعريا ثم دواوين شعرية، تُطبعُ له بألوان زاهية، و قد لا نكتشفها إلا بعدما يُحال سعادته إلى التقاعد.
السفير بمفهومنا نحن و كما أرادونا أن نفهمه، هو عموما، شخص إما أنه أحيل إلى التقاعد قبل الأوان بتعيينه سفيرا، و إما أنه متقاعد مُحال إلى تقاعد ثان لكن خارج الوطن. و التقاعد خارج الوطن، يعني العلاج و الراحة و الاستجمام. و إما أنه عنصر مزعج وجُب إبعاده بلطف.. إلى حين، فيجد نفسه معيّنا سفيرا. و في كل الحالات، أكان الشخص المعيّن سفيرا، هو الذي سعى لذلك التقاعد أو أريد له ذلك إكراما له أو إبعادا لشخصه، فانه لا يرفض الدعوة و لا يقول:" لا". لأن منصب سفير يعني له و لزوجته و أبنائه، عطلة مفتوحة في الخارج مدتها تقدّر بالسنوات لا بالأيام ككل العطل. فعطلة سعيدة لكل سفراء البلد الجدد منهم و القدامى.
منشور في أسبوعية أسرار الجزائرية/ العدد 255
التعليقات (0)