قصة قصيرة
عصمت خان .....
هدّ التعب جسدها ..ثقلت اجفانها بوهج شمس ذلك النهار الربيعي ...تورم نهداها.. ربما تهديدا بانهيار السد وفيضان الموج الاحمر على ابواب انوثتها المهددة بالذبول… تقلبت ذات اليمين واليسار... تقلصت عضلات ظهرها بفعل الالم.. لم تجد سوى خيار الانبطاح على بطنها لتهدئ من الآمها.. وجدت الراحة في تماس جسدها مع الفراش واحتضان الوسادة لوجهها... احست بدفق الحياة من جديد ...بنعومة تسلل كائن ضبابي ....... اسمه الرغبة بدأت اشياء تفور تحت ثقل لحمها .. القطن المندوف احتواها ليقودها في رحلة لذيذة محتضنا تضاريسها ...سحر أخاذ انسل من الفراش اليها، منحها حنانا لا مثيل له ، من هذا الشيء الذي ترقد فوقه ...ويستسلم تحتها... يحتويها بألفة، عجز الذكور الاربعة الذين تشاركهم اللقمة..جدران البيت .. برد الشتاء ، ان يمنحوها نزرا منه..
تنفست روحها خدرا اشاع سكينة وراحة ...وهبت نفسها لسلطان النوم ... قاطعة كل الخيوط التي تشدها لعالمها التعب .. في ذلك الليل البهيم...
تسرب اليها انين الجديان الصغيرة التي تنفست الحياة هذا الربيع ، غزوا رحلة رقادها ، نما الانين الى صرخات تستنجد بها ، امتطوا ظهرها، اردافها.. تقلبت منزعجة... سقطوا على الارض ، وبيأس قفزوا مرة اخرى، ضاربين باظلافهم الطرية خديها الممتلئتين، بطنها، ساقيها ، غطوها كعباءة سوداء... حاولت ان تبعدهم ..لم تستطع.. صلبوها على الفراش ، تسمرت يداها، ساقاها ، عينا الجدي الصغير ذو الخصلة البيضاء في مقدمة رأسه، تتوسلها.. تحول لون خصلته الى احمر قان ..وضع حافره على حنجرتها، سحقها بيأس .
ارادت ان تصرخ ..لم تستطيع ..خرج صوتها مكتوما...
رفعت جسدها بكل قوة، لتسقط الجديان التي غزتها ...
افاقت فزعة ،والعرق يتقطر دموعأً من جلدها...
لم يتوقف لهاثها ،الى ان ادركت ان الوقت ازف، واستيقظ الفجر ليطرد ليلا قلقأَ، وكابوسا غفا تحت وسادتها…
كان حدسها في محله..... عندما اغلقت باب الحظيرة في المساء...شمت رائحة المرض، لكنها طردت تلك المخاوف، فالولادات كثيرة هذا الربيع وعدد الجديان التي شقت طريقها للحياة وصل للرقم اثنين واربعين، والخير قادم ... نامت وهي تحلم بولادات جديان اخرى في الصباح… اندفعت بحماسة نحو باب الحظيرة، رائحة المكان نتنة ،بعض الصغار استسلمت خائرة القوى بجانب امهاتها التي توزع نظراتها بين عصمت خان وصغارها المتهالكة على الارض.. كان بعضهن يدلين اثدائهن قرب فم الصغار في محاولة يائسة لارضاعهن ... الصدمة شلتها لثواني حتى صرخت باعلى صوتها تنادي ولديها، جلست على الارض تنتحب وتهل قش الحظيرة على رأسها.
هبّ ابنائها وزوجها حفاة للصوت القادم من الحظيرة …. هالهم منظر عصمت خان تفترش الارض والدموع والقش يغطيانها ،والجديان الضئيلة ملقاة امامها .. مات عشرون منها دفعة واحدة.. حاولوا ان يرفعوها عن الارض... رفضت والبكاء يخنقها... ضربت بأيديها في كل اتجاه كي تبعد ولديها … صرخ كاكه احمد، قائلا:
توكلي على الله، انه رزق منحه ايانا واسترده ، لا حول ولاقوة الا بالله اذكري الله، يا امرأة….
ايقظتها كلماته من الصدمة ، فانتفضت في وجهه:
_لولا كسلكم لما مات الاعزاء، اخبرتكم انني بحاجة للدواء فلم يذهب احدكم للمدينة … اللعنة عليكم جميعا فانتم لم تحملوها في بطونكم ،ولم تلدوها..
احمر وجهها ...تحولت عيناها لمدفع ينثل الدموع في كل اتجاه.. نهضت تئن من حجر سيسفوس فوق ظهرها ... دلفت المطبخ وصرخت بولديها ليساعداها في حمل اكبر القدور، و نقل بقية الصغار بعيدا عن امهاتها الحائرة الى الحظيرة الاخرى خلف الدار، فهي الاكثر قربا من صخور الجبل ليصد عن المكان هجوم الريح الباردة اثناء الليل… وبدون ان ينبسا بكلمة ، انقادوا لأوامرها ككائنات منزوعة الارادة ،كلماتها تقود خطواتهم ذهابا وايابا نحو الحظيرة الخلفية … مشهد الجديان الميتة وبكاء عصمت خان حفر لوحة كئيبة بسكين مثلومة … احسا بالذنب… امسكت بـالفأس وبدأت تضرب بقوة لتشق رحما في الارض... ارتفع صوت ميران في ذاكرتها ضاجا بالحياة .... وهو يهرول كل ربيع فرحا نحوها.. مغردا :
_ داية .... ولد جديا اخر...
عيناه تشعان بفخر والد يتباهى بولادة ابناء ه الذكور ...كان يقضي نهارات الربيع فوق تراب (قوره ره ش) المعجون بالخصب والحياة... وحين يستسلم شبابه للتعب ... يجلس في باحة الدار محتضنا احد الصغار ... يتأمل برضا الجمال الهارب من جنة الله لهذه الارض المنجبة لاجيال بعيدة من عائلته … كان كل ربيع يسمى احد الجديان باسمه ،كثر الصغار ورحل ميران بدون وداعها… اعتقلته قوات الجيش مع المئات من سكان المنطقة .
بحثوا عنه في كل مكان .... تواترت الاخبار .... تسربت من هنا وهناك.. قيل انه اقتيد الى الصحراء مع المئات ليدفنوا احياء في طيات رمال غريبة..... ظلت تنتحب حزنا عليهم حد الجزع ....لسنوات...
تساءلت الآف المرات وهي تحفر بخطواتها فوق هذه الارض تاريخا لأسرتها امتص سنوات قدرها المتعب :
_هل حفروا لك قبرا يا امير (قوره ره ش)؟
_ هل دفنوك تحت هذه الارض التي عشقتها ؟ هل ضمتك جذور الكروم السحيقة كما كنت افعل ؟
هل تحول نقاء جسدك الى سجادة تراب اصلي عليها؟
هل سالت دماءك وتلقحت بالمياه الغافية تحت صخور الجبل العنيد ، لتفور عيون مياه نافرة تشق جلد الارض؟.....
سرقتك مني هذه الارض اللصة يا توأم الروح.... يا رجلي ا لذي فضل الرحيل لاحضان حبيبة اخرى والنوم في عيون اخرى..
فرشت شالها الاسود على الارض ،وضعت فوقه ما استطاعت من الصغار ،حملتهم نحو الحفرة ، انزلتهم بهدوء ، ولسانها يلهج بالدعاء لكل صغير تلقمه للتراب.
ولولت باكية :
_ التهميهم ايتها الماجنة، احرقيني واسلبي كل ما لدي … تمنحينا الحياة ثم تسلبيها، لتذبحي من بقي على قيد الحياة ... ليزدان ترابك يا قره رش جمالا بصغاري… الم يكفيك ميران لتشبعي نهمك ، ابتلعيهم ، فهذا ما خلقت لاجله، خذي مني.. قطعيني .. خذي ما تريدين من اجزائي.. واتركي لي فتات الذكريات ..
اعتصرت كل قبضة تراب لترميها فوق الصغار.... حتى اتمت ردم الحفرة .... سوت التراب بيديها لتطمئن على انهائهم الرحلة بسلام .
نثرت زهور النرجس التي اتى بها زوجها من طريق عودته من حلبجة فوق الارض.
توجهت مع ولديها نحو الامهات، لتحلبهن ....
كن يتألمن ،اثدائهن ملاىء بالحليب الذي لم ترضعه الصغار منذ الأمس… اوصت ولديها ان يدلكا الثدي برفق... ويعصرا الحلمات برقة ... . راقبت التيوس المشهد بغضب مكتوم .
بصمت ونشاط امتلأت القدور ..واستقرت فوق الحطب لتسخن، ارتفع الدسم فوق سطح الحليب ، رشت ماء البئر البارد على الارض لتبرد القدور بسرعة ، انتزعت الدسم منه ومزجت الحليب بالدواء الذي احضره زوجها من جارهم …
هرولت بين القدور والحظيرة لتقسم الحليب في صحون ليشرب منها الصغار....
جلست على الارض ،وامرت ولديها بذلك ،وبدأت تسقي الصغار واحدا تلو الأخر .. مرددة :
- باسم الله الشافي المعافي.
عليها ان تفعل ذلك اربع مرات في اليوم، ولثلاثة ايام كما اخبرها الطبيب عندما داهمهم المرض فجأة في صباح ربيع بعيد…
ابت صورة ميران لاتفارقها وهو يبتسم امامها، فخورا.. بانه اول رجل يرضع صغاره ،كانت خصلات شعره الاشقر المتوهجة تحت شمس ذلك الربيع النائي نورا يضئ ظلمة شقائها .
روحه تسكنها ... تعتلي عرش زمنها... تنام ..تأكل.. تبكي معها.. دفنت افراحها المذبوحة في نعشه ...
والان ......... شق كفنه ليرضع معها ....من بقي و قاوم الموت مستسلما للحياة
حدثت في1988
قوره ره ش / اسم قرية في السليمانية
التعليقات (0)