عصفورة تبكي اسمها الأرض ( 2 _ 9 ) . للكاتب / إبراهيم أبو عواد .
لستُ أعلم هل تجري السُّلطاتُ القاتمة فحصاً حول القدرات العقلية لموظفيها قبل استخدامهم كمرتزقة . من أين أتوا بهؤلاءِ ؟ . عَبَّدُوا حقولَ الجنون ، وماتت خطواتهم على نحاسياتِ الهلوسةِ وفسيفساءِ الأتربة . عانَقوا شقاءهم وعاشوا في موتهم باردين كرفاتِ نخلةٍ قديمة . لم يظهر ورثةٌ ، فقالوا : لتكن التَّرِكة في جَيْب السُّلطانِ ! .
هنا . وفي انهيارات الجليد الحار ، وفي دنيا الحديد المطلي بالقضبان ، وادٍ بحجم قبضتي، ورجلٌ بحجم قارة ، وأطلال حجرةٍ أصغر من حبل الغسيل . ومعك عصافيرُ للفضاءِ . قَرَّرتُ أن أفتح القفصَ رأفة بالعصافير التي لا تقبل قبيلتُها الرَّاحلةُ أن تظل في سِجْنَيْن . مددتُ يدي إلى فتحة القفص ، واستولى وجومٌ مَشوبٌ بالأسوار على أكتاف العصافير، وكأنها تنتظر لحظة انطلاقها من الأَسْر إلى نصف الحرية . فُتحَ القفص، وليس بوسعي أن أتذكر مَن فتح القفصَ ، أنا أم العبير المتواطئ مع الحائط . اندفعتُ كرضيعٍ أنهى حصة الفيزياء النووية للتو . ولكن يا مسكينة ، أين تذهبين في هذا المكان اللامكان ؟ . نامي على نَوْمكِ حتى نتناقش ماذا سنفعلُ بشأن الانقلابِ على هذيانِ الأقفاصِ .
نَعست العصافيرُ وَوَقَعَتْ في نومٍ سريعٍ يشبه النومَ غير السَّريع . فقلتُ في نفسي الآن آخذ غفوةً لأستعيد نشاطي كمحارِبٍ في زمن اتفاقياتِ السلام بين السِّكين واللحم . استلقى جسمي ثم تبعتُه بعد مدة قصيرةٍ قَدَّرْتُهَا بأربعِ سنواتٍ ضوئيةٍ .
رأيتُ عصفوراً صغيراً يلبس نظاراتٍ طبية جالساً أمامي . ولكنَّ الدنيا حُلْمٌ سرعان ما يتبخرُ وينقضي . مستقبلُنا المقبرة ، ونمشي إلى قبورِنا كما مشى آباؤنا إلى قبورهم . قُتِلَ البحرُ رمياً بحقول الرصاص .
كيف تُطوِّر السجونَ لتصبحَ أكثر ضيقاً ليرتاح السجناء من عمليات التنظيف الشاقة !. انتخاباتُ الإجاص مسرحيةٌ . جاء الحزنُ العُشبيُّ قبل قدومِ الرَّبيعِ، وقبلَ أن تضع سلحفاةُ الحديقةِ بيوضها في جوفِ الشطآنِ المخملية . دُميةٌ مدفونةٌ في قيعانِ الجريمة . وبينما كان الطاووسُ يُصارعُ الأرقَ الليلي الموسمي كان البحرُ يستحم في برتقالةٍ مسرعةٍ لإطفاءِ حرائقِ الغاباتِ القلقةِ. هضبةُ الأحزانِ في سراويلِ غُبارٍ على بَشَرَتي .
قال الزبدُ : (( خدعتُ الآخرين لكي يُخلِصوا لي. أن أشتريَ ولاءهم. كانت ولادةُ المزهريات قبل مَوْتي ، ولكنني أشعر كما لو كنتُ ميتاً . ارتكبتُ الفرحَ وأنا أَسْخر من أنين المرضى الذين غَسَلوا بواباتِ قصري بِعَرَقهم . وجوههم تلاحقني في كل شظيةٍ زرعتُها في صدرِ طفلٍ أو في ضحكةِ زورقٍ على غلاف كتابِ النِّسيان . لم أر ضوءَ القمر ، بل أحسستُ به فشعرتُ بأهميةِ الضياء كي يوقف نمو القضبانِ في رُكَبِ السُّجناء . أيتها الأغوارُ النائمةُ في سهر مرضى الرُّعاشِ، ارجعي إلى رمالكِ عند منبعِ غضبِ الفيافي. أيتها الإشراقاتُ الرمليةُ في حَرِّ العنب الصحراوي ابكي على كتفِ الريحِ ، واتركيني مُسافراً في ذكرياتي ، صاعداً إلى تعرجاتِ عيونِ الماءِ في القرى المنكوبةِ. أريدُ أن أبكيَ فغادِري قفازاتي يا أشياءَ الرُّكام ، ولا تبعثي لي الرسائل المزخرفة كالوجوه الخرساء )) .
مذكراتُ الصَّفيحِ تذرفُ الندى على هدير السُّيول . أحسستُ بدموعي تستقبلني فاتحةً ذراعيها لأيتامِ الريح وزهورِ بلدتي . شعرتُ بالوحدةِ في تجمعاتِ الألمِ المحتشدة على جحورِ الحسراتِ. وتذكرتُ القائدَ الفاتحَ الذي فَرَّ من المعركة إلى أحضان زوجته ، ومات في ثيابها ، ومع هذا قالوا إنه شهيدٌ دافع عن الوطن ! .
وأتت الأعشابُ المبحوحة لكي تمشيَ أجنحةُ البُحورِ على نظرات الرُّبَّانِ. فأراضي الهديلُ ندى يُحْتَضَر فامشي يا وحشةَ السفن المريضةِ بالزُّكامِ واعبري ليلاً جاء أو رَحَل . كن يا خُنصري ثائراً كَوِسَادَةٍ من جلودِ خيل الرُّومِ . من ريشِ النسورِ التي قامرتْ بأعشاشها تدفقت آلامُ بِذْرةٍ .
في الصُّبح ، والصبح ينتشرُ رصاصاً وموانئ عسكريةً ، تُمَزِّقُ الأرصفةُ سُباتها فتبدأ رحلةُ الجرجيرِ إلى موائد من خشبِ السفنِ المنكوبةِ . أين البطيخُ الساهرُ على قشوره ؟ . أين الكهرمانُ المستخرَجُ من سكينٍ تنهشني ؟ .
لم يعد في البحيرةِ سوى البحيرةِ ، والبحرُ يموت. وأنا الميتُ الذي سيموتُ . سأدفنُ النعاماتِ القتيلة ثم أُدمِّر أكواخَها الخاليةَ لآخذ أخشابها حطباً لمدفأةٍ حَوْلها عصافيرُ الثورة . نُعُوشٌ تطوفُ في المدينة . وأهدابي جمجمةٌ تطوفُ على الشبابيك التي ترفضني . اشتريتُ قماشَ كفني فلتبتعد الفراشةُ عن جنازتي . ولتبتعد النِّعاجُ عن سور المقبرةِ . مئذنةُ مسجدٍ في حَيْفا تُنيرُ طريقي إلى الإسكندرية .
لكي أنالَ ثقةَ البقدونسِ لا بد أن أُطَهِّرَ أرضَ الشموس من وقاحةِ الأباطرةِ . لكي تحترمَني الأدغالُ لا بد أن أفتحها للثوارِ . لكي يُعطيَني النهرُ مصروفي اليوميَّ لا بد أن أُخزِّن شهيقي في براميل البارود .
قصيدةٌ هي تاريخُ زوجاتِ المطر . كتابةُ القصيدةِ موتٌ متتابعٌ لكي تُولَد الشَّمسُ . أرغفةُ الخبزِ الأسمرِ أَضُمُّها إلى صدري لأشعر بالدفء بعد موتِ صدرِ الزَّهرةِ . أكفانٌ لا تحمل أي لقبٍ. أنتَ النبعُ يا مَن تمسكُ مُسدَّساً وتُصَوِّبه إلى الغَازِي . يا والدَ السمكةِ لا تُطَلِّقْ أُمها . تحاورا ، ولتكن بينكما محادثاتٌ في بئرٍ نائيةٍ . تَذَكَّرا أيامكما الحميمةَ في أناشيد أسماك القِرْش . كُونا يداً واحدةً كالأرصفةِ غير القذرةِ .
عندما حَزِنَ الصيفُ على مقتلِ ابنه اندفعت قوافلُ اليمامِ في البلادِ التي تَرْأسها الديدانُ. اندفعتْ تُحرِّض النمورَ القاطنة في انطفاءاتِ الأحلامِ على الثورةِ . فصارت الضحيةُ مُطَارَدَةً والقاتلُ أباً روحياً للمخبِرين . يا رمالَ المحيطاتِ المصبوغة بإنفلونزا الطيور. حاولتُ أن أنقذكِ ولكني مُمَدَّدٌ على المقصلةِ ومُوَزَّعٌ على الهضابِ. فكيف أُساعدكِ وجسمي تنهشه آلافُ السكاكين والأحزانُ المصنوعة محلياً .
أعلمُ أيها الوطن أنك لن تنقذني ، لكني سأحاولُ إنقاذكَ . وطني يا أجملَ المقاصل وأحلى ذكريات الإعدام . ترجع البناتُ من المدارس فوق فوهة المجازر ، ويعود الموظفون من مساءاتِ الانتحار، وأعودُ من دموع جَدَّتي في المخيَّم المشرحة . تتزَيَّن لي أحطابُ المرفأ المتروك للبلح الميت ، ولا امرأةٌ تتزَيَّن لزوجها القتيلِ . مَصْلوبٌ أنا على إشارات المرور ، والدمارُ يَغْسل مِشْطيَ المهجورَ في كوليرا الرَّصاصة .
شرعتُ أحفر أرضَ الزنزانة والعصافيرُ تساعدني. أن تحفر لهباً مكدَّساً في حُلْم . ذلك الألم ليس مقهىً للبجع . انكساراتُ البُنِّ أثناءَ زراعته . وَصَلْنا إلى حبال المشنقة قبل وصول القهوة إلى أحزان النساء . يحلم الحزنُ أن يكون له أطفالٌ يحملون اسمَه فوق النِّصال. حَفَرْنا وحفرنا وتذكرتُ قناةَ السويس مُعبَّدةً بالموتى . رأيتُ في خيالاتي عبيداً لم يسمعوا بشيء اسمه الحرية. وتكونت حفرةٌ كبيرةٌ تختالُ بقيودها وخُلخالها المستعار تتسع وتغوصُ في سذاجةِ فأسي. نزلتُ فيها وقد لمعت العواصفُ في المراكبِ. أين فمي ؟! . هل ضاع ؟! . لا لم يضع ولكنه ذهب ليشربَ أزرارَ المصاعدِ الكهربائية ، وسيعودُ عندما تخجلُ الضِّباعُ من ماضيها . وجدتُ أحافير أسماك مُعتقَلة . تفحصتُها فأنا أعملُ راعي غنمٍ في الصباحِ وبعدَ الظُّهرِ عالِمَ آثارٍ .
قد نقل الوُلاةُ الأسماكَ من البحر إلى مخيماتِ اللاجئين . يريدون تحويل البحر إلى لوحةٍ هادئةٍ لكي ترسمها الأميرةُ الصغيرة . والأسماكُ تلك الكائناتُ المشاغِبة تُحدِث ضجيجاً في الماء، وتؤثِّر على صفاءِ ذهن ابنة القسِّيس . هل ستأسرني هلوساتُ القياصرةِ ؟ . قد يُفكِّرون في بناء مطعمٍ للعائلات على قبور عائلتي التي نَبَشَتْها الغربانُ . لا جيشٌ يُعَلِّمُ البارونةَ الأدبَ ، ولا جُندٌ يرفضون الانحناءَ لتمثال الزعيم . ذلك عالَمي الأطرشُ .
بدأتُ أغوصُ في تاريخ المحيطات الجافة وفي حُفرتي ، وانتهى بي المطافُ إلى جدارٍ شفَّافٍ مَزَّقْتُه فاندفعتُ خارجاً تحت ضوء الشمس . لأول مرة منذ قرونٍ أرى ضوءَ الشمسِ . بدا صاعقاً حيث ضَمَّني بشراسةٍ ثم فَجَّرَني . أغلقتُ كبدي سريعاً لئلا يصاب بالعمى. وبشكل تدريجي انبعثتُ في الحياةِ تلك الزهرة المخدوشة .
رقصتُ وقفزتُ منتشياً بحريتي المؤقتة . لا أُصدِّق أغاني رموشي . وكالطوفان المعبَّأ بالذكريات نظرتُ حَوْلي فإذا جثث العصافيرِ تُغطِّي صحراءَ حُنجرتي. صُعِقْتُ. ودَبَّت في أنسجتي رجفةٌ مالحةٌ. ضَحَّت بحياتها من أجلي . نعمْ من أجلي !. إنها في المغيب تبرقُ . خَيْمتي على خيمتي في السَّيْلِ . رائحةٌ تجيء من قوافلِ البخور المهاجرة في جُثماني . هؤلاء العصافيرُ ذكورها وإناثها جمعتُها ودفنتُها في قبرٍ جماعيٍّ في خيامِ عمودي الفقري . دفنتُها وَدَفَنَتْني وبكيتُ خَوْخَاً دامعاً . لغةٌ تُولَدُ . ورِياحي بَكَتْنا وتحطَّمتْ على وقع السنين وأيامِ القحط . لَيْتني ما فارقتُ فِراقي ، لأن سيارات السِّباقِ تتخلصُ من دُخانها في أهدابي . والسُّفنُ الأجنبيةُ تقذفُ النفاياتِ النوويةِ في بُلعومي . كان رجالُ القريةِ أَسْرى ، وكُنَّا نلعبُ على قرميد سطح المخفر . احتفظت الشُّموعُ بمشهدٍ عابرٍ في المناطيد : (( لقاءٌ خاطفٌ بين دَمْعَتَيْن أو لُغَتَيْن على الدَّرجِ المهدوم )) .
زحفتُ على أقدامِ المنسيين مسيرةَ شهرٍ من الأحزان. تتباعد عني الطُّرقُ والغرباءُ كلما عَضَّتني معاطفُ الحمائم . انقطعت عني أشعةُ الشمس . لم أعد أراها. للظلماتِ أكياسٌ مليئةٌ بالأكتافِ المتطايرة . سَحَبَ حطامُ دولةٍ غابرةٍ من وريدي أسمنتَ الوحشة . ما أشهى نقالةَ التين وهي تحتضنُ رأسي .
لا تأخذوا أنهاري إلى غرفة العناية المركَّزة. وأصرخُ في أوصال القشةِ الغريبة ، فتتفرقُ الصرخاتُ في مدرجاتِ الذين يَرْقبون مَقْتلي على سنابكِ البراكين . هُمْ سكوتٌ . مِن أين أتى مَقتلي ؟! . وسُجِّلت القضيةُ في الأدراجِ ضد مجهول . رفعتُ انهياري وحَدَّقَتْ فِيَّ الحمى .
وانكشفت الدروبُ المراوِغة تستدرجني إلى عيونٍ مُغمَضةٍ أو مقلوعةٍ . ما هذا الجسدُ الذي تخرَّج منه الشَّظياتُ كالمداخن المتصدِّعة ؟! . أيُّ بُركانٍ حزينٍ على فراق الحِمَم ؟ . مَهْلاً أيتها الأهازيجُ الخائفةُ .. مهلاً . أنا مِن هذه الأرض ، وأجدادي قد عُلِّقُوا على الشُّهب لأنهم شُرفاء ، وما دَلَّني عليهم إلا رائحةُ ابتساماتهم .
رأيتُ صليباً أكبرَ من اكتئاب الراهبات أكبرَ من هواجس جان دارك . هل هو فارغٌ أو مملوء؟. إنْ كان فارغاً فالمكانُ يشهقُ في الزمان . وإن كان مملوءاً فالقتلُ سَرَّحَ المدينةَ من أبنائها. استدرتُ حَوْله لأرى وجهَ القطار الذي يَنْقلُ التوابيتَ الفخمةَ . زاويةُ الرُّؤية ثمانون جمجمة . ارتعشتْ حُنجرتي وقَفزتْ في جَيْبي ، وفقدتُ السيطرةَ على فزَّاعات الأحلام .
الزلازلُ تلثمُ يدَ البراكين . اللهُ أرحمُ بي من أُمِّي. أهذا موسمُ قتل الإنسانِ للإنسانِ ؟. حَوَّلوا رئتي إلى مذبحة . هل تعلمون أيتها الشعوبُ الخرساءُ من رأيتُ ؟ . إنه سَجَّاني الأول الذي خرج من نظراته ولم يعد . ولكنه عاد إلى مَصْرعه . كان مُجرَّداً حتى من السَّراويل . في أطرافه إطاراتُ سياراتٍ مهترئة . وفي جبهته مسامير . قد صَلَبوه منذ مدةٍ طويلةٍ فأصبح دمُه مزاراً للسُّياح . يقفون تحته في مجموعاتٍ مسعورةٍ ويلتقطون صوراً تذكارية يحملونها معهم إلى صقيع منازلهم . كأن بلادَهم مواعيدُ عِناقِ أسماك القِرش تحت شمسٍ . وسمعتُ طفلاً يقول لأبيه : (( التقطْ لي صورةً أمام هذا المصلوب لأُرِيَها لمعلِّمتي )) ! .
ارْحَلوا أيها اللصوصُ الأنيقون من ذكريات انهيار الصدى . هذا صديقي تستمتعون بموته ؟ . هذا صديقي . انْصَرِفُوا عنه . كَبُرْنا سويةً مع الفيضان الذي دَمَّرَنا في الرمل الوحشيِّ . ومهما يُدَمِّرْنا نبقَ نُراوغُه لأنه يحمل بذورَ شجيراتٍ قادماتٍ بتألقِ المنفيين في الأفق . صُوَرُكم حصارٌ تَسقطون فيه ، وكاميرا ذلك الطفل ثمنها يُطعِمُ عائلتي التي أُعْدِمت سنةً كاملةً . صديقي صُلِبَ فلا مكانٌ لرموشه سِوَى حجارةِ النَّيازك ، ولا زمانٌ لأحزانه سِوى حُبوبِ منع الحمل للبحيرة .
وبدأتُ أُفَرِّقُ السُّياحَ . وعمَّ الشَّتاتُ في أصواتِ العُقبان . ربما ظَنُّوا أنني مجنونٌ . لكن صديقي كان مُعَلَّقاً أو ساخراً من قاتليه . إنهم خَدَعونا ، وضحكاتهم ستبزغُ في أنين مواكبهم ديناصوراتٍ مجنونةً . وستذبحهم سقوفُ السُّل. وجحورهم دوائرُ تُطَوِّقهم . حاولتُ أن أبتكرَ مزارعَ رثاءٍ، لكنني لم أقدر . فالرثاءُ تبادلُ مشاعر في أعماق المحيطات الملتهبة . وأطرافي الجليدُ يأكلني .
غداً ستأتي الغريباتُ ليتعرَّفْنَ على بصماتِ المشنوقين في انكسارات الشفق . جَهِّزوا البكاءَ والدمعاتِ الاصطناعية كي يتدفق المشهدُ أكثرَ حرارةً من رَحِمِ الكارثة أكبرَ انهياراً من ضحكة الخراب . وراقِبوا الباعةَ وهم يتجمعون لبيع البوظةِ إلى أيتامِ السَّحَر .
سامحيني كواكبَ حضاراتِ الصَّليل . في زفراتِ حجارةِ القهوةِ سجادٌ أحمر لأباطرة يتجرَّعون مأساتي . كُلُّ شهقةٍ سَيْفٌ ، وكلُّ نجمٍ ثائرٌ . وليندلعْ الزَّحفُ العارمُ على انطلاقاتِ الندى ساعةَ اللقاء الذي لا يحدثُ .
إلى الخريفِ الهادئ يتطلعُ الفاتحون . هناك في السُّهوبِ زوجةٌ تُحْضِر لكَ كوباً من الشاي الساخن . ومَقعدُكَ يقابلُ حوضاً من السمك المستحم ، ووراء النافذةِ الطوفانُ . أنتَ تمسك قلماً لتوهمَ الموقدةَ أنك مثقفٌ ، وتُقنعُ زوجتكَ أنها أجادت الاختيار . أمسى الشاي لعبةً سياسيةً، والقممُ فراغاً قابلاً للعشقِ. وفي بَيْتي ألفُ مدينةٍ فيها ألفُ أميرِ مؤمنين ، كلهم يتناولون أغلالي والشايَ على مائدتي السليبة .
اسْتَلَّت جبهتي بركةَ ماءٍ من ثعلبٍ مقتولٍ وغَطَّيْتُ صديقي بها . وانصرفتُ . مخلوعاً من مكانه عَبَرَ قلبي في الضبابِ الصخري والشذى المسمومِ . لا طلاءُ أظافرِ الناقةِ قلعةٌ للمشرَّدين، ولا ضوضاءُ الرئةِ الأسيرةِ وَتَرُ رَبابةٍ . ألقى السَّيافُ في مهرجانِ حِبالِ المشنقةِ مُحاضرةً عن حق الشمبانزي في المشاركة في انتخاباتِ المياه الجوفية. متى تقومون بتزوير أجنحةِ المكان ؟. وامتنع الصَّبارُ عن الإجابة عن سؤالي. أضحيتُ خارجَ وقت الضحى، والشمسُ إلى الزوال ، والأرضُ تغيب فِيَّ . أُريدُ أن أتكلمَ زلازلَ لأتذكر أنني حي أُقاتِلُ . ما زال هناك صوتٌ يَكْبرُ . حُنجرتي تطحنها البيادرُ . أُريد أن أقول . لساني عاطلٌ عن العمل .
يا شَعْباً باعوكَ مع البهارات والدقيق واشْتَرَوْكَ عبداً بائساً من سيدات المجتمع المخملي في رأس الرجاء الصالح . إنْ دخلتُ فيكَ دَفَنْتَني حَيَّاً . وإن دَخلتَ فِيَّ قَصَمْتَني . أَشُمُّ طَعمَ العُصفر في طريق الشمسِ الذاهبة نحو الركام . أنا الطائرُ أتفجرُ لأُضيء المدى لأُحرِّر رئتي من أكسجين العاصفة . أَشُقُّ أمواجَ الغربانِ في آفاقٍ تنتظرني ، تريدني ، تهزُّني .
يا شَعْبُ ، تعالَ إليَّ في البُخارِ نموراً لا تحملُ لوحاتِ أرقام . تعالَ إليَّ حَيَّاً أو مطراً مَيْتاً ، لا تُوَظِّفْ البطَّ في الجمارك . اقْرَأ اسمي على شاهدِ القبر .
أنا مَن بَكى وانتظرَ الأنهارَ النائمة. لا تَلُمْني ، إن الأرضَ تَحْرقني . لا تَذْكُرْني ، إن يدي تهجرني. أُريد من إرادة الأُُسودِ أن تريدني كي أشاهدَ مصرعَ الثلج الذي لا يريدني . كلما حَدَّقْتُ في المرآةِ رأيتُ حُفْرتي على مسطرةِ طالبةٍ يتيمةٍ . كتاباتُ القمر تَضيع والنهرُ يَجْتَثُّها من سُعالي .
أعرفُ أن الشعبَ مُغمىً عَلَيْه ، ولو شَاهَدَ حُكمَ إعدامي فلن يرميَ شرايينَ اللوز على المرمر ، وسوف يدخل في سُباته. فأنا أصرخُ في الفراغِ العَدَمِيِّ، وأنتظرُ أن يمدَّ لي جيشُ الهباءِ يدَ المساعدة . الأمهاتُ يُوَاصِلْنَ الحملَ والولادةَ كالعادة ، والآباءُ يَذْهبون إلى أعمالهم كالعادةِ . وسَيُهَرِّبُ اللصوصُ المقدَّسون أموالَ الدولةِ إلى أرصدتهم الشخصية في الخارجِ كالعادة. وسأذهبُ إلى الزنزانة الانفرادية كالعادة ، وتذهبُ الفتاةُ التي أَحْبَبْتُها إلى الزواج من غَيْري كالعادة .
قد يطالعُ الشعبُ الأُمِّيُّ أسمائي في صفحة الوَفَيَات ، وقد لا يطالعه. لن يكترث بي أحدٌ . سواءٌ عشتُ أم مِتُّ . معي لغةٌ ناريةٌ ، وأبوابُ ملامحي تنتظرني وأنا أعودُ في الساعة الثانية ليلاً من غرفة التحقيق .
لبلادٍ تضيقُ عليك بيوتاً من الحرائقِ . لنساءٍ في سوقِ النخاسة يَتَحَوَّلْنَ إلى جواري قصرِ السلطان ، أُعطي سيفاً وهديلاً . ظَلَّت وزارةُ اليباب تحرثُ الزيَّ الرسمي للضفادع . هل إخوتي لصوصٌ ؟!. عَواصِمُ تَسْتخدم أثداءَ بناتها شعاراً لتشجيع السياحة . أَرْضي التي تطردني من عُروقي . امْنَحِيني شهادةَ ميلادي ، وصَكَّ وَفاتي ، أريد أن أضعهما في بروازٍ بسيطٍ لكي أَذْكر أنه كان لي وطنٌ ومدرسةٌ وقبيلةٌ مثل كل الأسماك ، لكي أطمئن أن وطني سيسمحُ لي بالبكاء الطويل دون ملاحقاتِ العسكر ، وأضواءِ المعتقَلات .
ونسيتُ معطفاً من السياطِ في حُجرة التوقيفِ ، وناداني أمسٌ . إنه جزءٌ مني . لَعَلِّي هُبوبُ الأطيافِ في حِبرٍ على رَفٍّ مُخَلْخَلٍ في بئرٍ نائيةٍ. وتذكرتُ كيف كانت أمي توقظني لصلاةِ الفجرِ . سيُهَشِّمُ عظمُ الرمدِ الرَّميمُ عروشَ الماعزِ في السَّواحلِ . إنما جسمي قفزةٌ ليست لراقصاتِ الباليه . والغصونُ تستأنفُ إضرابها في ظَهْري. ربما تتجسسُ أدواتُ المرسمِ على غُربة الرَّسامِ ، وربما أموتُ مراراً قبل الموتة الكبرى ، لكني سأُكْمِلُ خيوطَ ثورة كَبِدي ، وأُعلِّق أوردتي على حيطان مطبخ بَيْتنا في كوكب زُحل .
واصلتُ التفتيشَ في هجراتِ الشوارعِ إلى غَدِها ، فرأيتُ شخصاً نحيلاً يلتحف زخرفةَ كبريتٍ وبقايا أمطارٍ . ارتبكتْ بَشَرتي ، وتفاجأ نَوْمي. قد يكون مجنوناً أو يدعي الجنونَ . كلامه إرهاصاتٌ مستقبلية، أو مستقبلٌ للإرهاصات. عجيبٌ سكوته المرتفع أحطابَ ضوضاءٍ . أَتُرَاهُ عَجَنَ اكتئابَه بساعة المنبِّه ؟ . قَرَّرَ الرحيلُ أن يقتحم خطوةَ محاورته نيابةً عن ذاكرتي . أَشْرِكوني في القرار يا أجزائي التي تجتمع في مكانٍ سِرِّيٍّ بدوني . أَطْلِعُوني على أفكاركم في المجلس الوطني للذكريات!.
قد خسرتُ طيفي وأعشابي ، أنا الخاسرُ الأكبر الاحتضارُ بلا ألوانٍ تجميلية . حاجبي الأيسر سبورةٌ عاريةٌ من طباشير الأسرى . أَخْبِرْني عن دمكَ وأجسادِ رُمحكَ . قِصَّتي لا تُشبه إلا عَظْماً تعيساً ينتخبني . فاسمعها واجمع دموعي لتستخرج منها اليورانيومَ المخصَّب . تَجَمَّعَ ذهني مُصغياً إليه، وقوله ودمعه يتزوَّجان. وأحكامُ قانون الطوارئ تزعجُ هواجسَ غرفة الطوارئ في مستشفى متنقل لا يقدرُ الفقراءُ على دخوله .
http://ibrahimabuawwad.blogspot.com/
التعليقات (0)