عصرنا ورجاله
كمال غبريال
لكل عصر رجاله، لقد كان رجال مبارك لا يقومون بما يتوجب عليهم لتحديث وتنمية البلاد، وكان بينهم بعض الفاسدين إلى جانب رجال أكفاء وجادين أنجزوا الكثير على طريق التنمية والحداثة، بحيث نستطيع القول أن عصر مبارك رفع شعارات الحداثة والتنمية وفشل في تحقيقها إلى حد ليس بقليل، لكن رجال هذا العصر لا نتوقع منهم غير أن لا يدخرون جهداً في هدم مصر والعودة بها إلى العصر الحجري، أي أنهم يرفعون رسمياً رايات وشعارات التخلف، ولا يتبقى غير أن نتمنى لهم الفشل ولو الجزئي. . يتراجع من الصورة الآن أمثال د. أحمد زويل ويطاردون د. مجدي يعقوب، كما يجري التضييق على رجال الأعمال بتحريض عمالهم على الإضراب.
يأتي الديكتاتور بحاشيته من وعاء الشعب، كما تأتي الديموقراطية أيضاً بحكامها من ذات الوعاء، والفارق بين الحالتين أن الديكتاتور ينتقي ولو بعض بطانته وفق معيار الكفاءة الإدارية والاقتصادية، فهو عادة لا يتبنى في الحقيقة أيديولوجية معينة قدر تبنيه ذاته ودوام حكمه، وكلما أجاد انتقاء عناصر تكنوقراطية محايدة سياسياً، تقوم بمهمة الإدارة التنفيذية الجيدة للبلاد، كلما أعانه هذا على البقاء على كرسيه، وتحقيق بعض ما يخايل به الجماهير في خطاب لابد وأن يكون ديماجوجياً بامتياز، فيما قد تأتي ديموقراطية صناديق الاقتراع بالجميع من قاع الوعاء، أي من العناصر التي كل مقوماتها القدرة على الخداع، إذا ما كانت الجماهير تتمتع بسذاجة تحسد عليها.
الطريف أن من يريدون توحيد الشعب المصري بل وما يطلقون عليه الأمة الإسلامية كلها على رؤاهم المفارقة للزمان والمكان، هم أنفسهم غير قادرين أو قابلين لتوحيد رؤاهم فيما بينهم وبين بعضهم البعض، فلم ينجحوا في أي مكان تفشوا فيه غير أن يتجمعوا على هيئة شرازم ضئيلة العدد يكفر بعضها بعضاً، ولقد رأينا اقتتالهم فيما بينهم في أفغانستان والصومال، وهذا طبيعي ومتسق مع أيدولوجيتهم الرافضة للآخر، فمن المنطقي أن تمتد فاشية رفض الآخر إلى داخل تلك الجماعات ذاتها، فنرى أمراء الجماعات يتكاثرون تكاثر الميكروبات، ليستقل كل أمير بشرزمة تدين له بالولاء والطاعة، مكفرة سائر المجموعات الأخرى المماثلة، هم هكذا بمجموعة أفكارهم أشبه بالديناميت، الذي لا يتفجر فقط في الآخر الخارجي، بل ويتفجر في مستودعاته ذاتها.
أخونة الدولة التي يتصايح الآن المتصايحون تنديداً بها ليست جريمة سياسية يرتكبها الإخوان، فهي أمر طبيعي بعد نتائج كل انتخابات ما بعد هوجة 25 يناير، فليس أمامنا وفقاً لواقع الشارع المصري ونخبته سوى أخونة الدولة (من الإخوان)، أو عربجة الدولة (من العروبة)، ولا عزاء للهوية المصرية التي لم يعد يؤمن بها غير صفوة قليلة العدد أو حتى نادرة تحاول أن تعيد استزراع نبتتها في الأرض اليباب.
إذا انحصر معنى الديموقراطية في عملية تبادل أو تداول السلطة فقد تحقق هذا بالفعل في مصر بفضل ما سميناه ثورة، لكن إذا فهمنا الثورة على أنها عملية تغيير خلاق ينقل حياة الناس إلى مستوى أرقى حضارياً، فإن التغيير المنشود لا يتحقق بتبادل المواقع بين مكونات المستنقع الراكد ذاتها، فالثورات الجديرة بما تحمله كلمة "ثورة" من محمولات إيجابية تقيم بما قدمت من رؤى مبتكرة وخلاقة، لتكون الثورة أو الهوجة المصرية هكذا مجرد نوة من النوات الخماسين المصرية المتربة التي تعمي العيون على أفضل تقدير.
النقاش الآن أو محاولة التوصل مع من يسيطرون على الساحة إلى نقطة نستطيع أن نسير فيها معاً لصالح بلادنا تعد عملية هزلية، فالنقاش الإيجابي لتحقيق التفاهم وليس الجدل والتطاحن الذي لا يولد غير تفاقم العداء يقوم على أساس براهين العقل المنطقية، وفيها يتم مقارنة الفرضيات ونتائج تطبيقاتها على أرض الواقع مع النتائج المستهدفة، فإذا ما كانوا يستهدفون الآخرة كما يقولون، فإنه من العبث تحويل أنظارهم من السماء إلى الأرض التي لا نهتم كعلمانيين إلا بها في عملنا العام، وذلك بمجرد مجادلات كلامية، فهم قد قرروا بوضوح حصر وظيفة العقل في النقل والقياس على نصوص ثابتة مقدسة، لذا ظهرت مدارس التأويل التي تحاول التوصل لرؤى أكثر توافقاً مع العصر، ومع الأسف لا نستطيع أن نعتمد على هذا المنهج، رغم أن الكثيرين من الشرفاء وحسني النية ينتهجونه للخروج من ورطة الأصولية المتشددة، ليقدموا لنا أصولية متوافقة مع العصر، فهذا المنهج الذي يحاول الجمع بين المتناقضات، أي على حد تعبير العلماني المرتد "زكي نجيب محمود" الجمع بين "الأصالة والمعاصرة"، يعطي حجية لعملية النقل والقياس، وهذا يسلم المرجعية للماضي ويبقي الحاضر والمستقبل رهينه له، كما أن ما يقدمه هؤلاء "التأويليين المستنيرين" لا يعدو أن يكون مجرد تفسير ضمن تفاسير عديدة، أغلبها أكثر جاذبية لجماهير عاطفية تبحث عن الإثارة، وتمجد خطاب العنف والكراهية لذاته، وبغض النظر عن حيثياته ومبرراته وأسانيده، كما يمكن أن يرى البعض خصوصاً العامة أن الأخيرة أكثر التصاقاً بروح النص، وأكثر مباشرة ومصداقية في فهمه.
ثمة فيروس لا دواء لقتله، فإذا دخل الجسم لا يخرج منه مادام الجسم حياً، وينحصر العلاج في عقاقير تقوي الجسد وتضعف مفعول الفيروس، فيكمن بدرجة أو بأخرى لبعض الوقت، حتى يعود من جديد يسيطر على سائر وظائف الجسم الحيوية. . هي دورة لا نهائية مغلقة تبقي المصابين بالطاعون في أسرها، وتجعل منهم تهديداً حالاً طول الوقت لذواتهم وللأصحاء الآخرين.
من غير الواضح إن كانت ورطات مثل الورطة السورية ومن قبلها الورطة الأفغانية وغيرها هي التي تصنع إرهابيين، أم كل ما تفعله أنها تجتذبهم إليها، فيتم القضاء على البعض، ويحصل البعض الآخر على خبرات وتدريب، يستخدم في الجهاد بالموطن الأصلي لهم، وتستفيد منه أجيال إرهابية جديدة قادمة؟. . في جميع الأحوال تبقى الحكمة الخالدة أن "كل إناء ينضح بما فيه". . لا يفوتنا هنا أن نبارك للإرهابيين المصريين الخارجين من السجون، ليس فقط لخروجهم من السجن، ولكن لأنهم سيجدون مصر الجديدة تسير في طريق تقديس وتمجيد الإرهاب الذي كان جريمة في عهد مبارك الفاسد، نقول هذا لكي نفهم الواقع المختلف الآن، ففي عهد مبارك حدثت جرائم إرهابية ومسلسل من الاعتداءات الطائفية على الأقباط، وكان النظام يقاوم محاولاً وقف هذه الممارسات، ونجح بالفعل في وقف الإرهاب، وفشل في ردع الاعتداءات الطائفية المنسوبة للغوغاء الموجهين من رؤوس التيارات الدينية، فمن يتتبع ما حدث ويحدث من غوغاء المصريين من قتل وحرق وتهجير للأقباط بداية من الكشح حتى دهشور، سيجد فيلماً تسجيلياً مأساوياً لم نجرؤ - رغم احترافنا الكذب والتزوير التاريخي - على ادعاء مثيله على من نسميه العدو الصهيوني، وياليتنا نعرف ونعترف من نحن تحديداً.
هو إذن عصر "الربيع العربي" الذي يأخذ المنطقة من حفرة النظم الديكتاتورية متعددة الدرجات والألوان، ليلقي بها في هاوية التخلف والفوضى والدماء، فالموقف في سوريا مثلاً هو نموذج للورطة التي تحاصر أحرار الشرق الأوسط والمسيحيين فيه، فإن كان هؤلاء بصورة عامة لا يمكن أن يكونوا راضين بنظام مثل نظام مبارك، فإنه بالأولى أن يكونوا على النقيض تماماً من نظام البعث الفاشي بنسخه المتعددة من صدامية وأسدية، علاوة على المعزوفات المشابهة له بدرجة أو بأخرى كالناصرية والقذافية، لكن من غير المعقول أن يساهم هؤلاء في إسقاط نظام ديكتاتوري فاشي كنظام البعث الأسدي، لتسليم البلاد والعباد لنظام أشد بشاعة ينتمي لتنظيم القاعدة، فأي منطقية أن نهرب من معتقلات ورصاص النظم الديكتاتورية ببذل الجهد من أجل تسليم أعناقنا طواعية لسيوف وخناجر من يدعون أنهم مجاهدون في سبيل الله؟. . ليذهب كلا النموذجين إلى الجحيم، لكن في لحظة الاختيار لا ينبغي بأي حال أن نختار الأسوأ والأبشع. . أتمنى شخصياً أن أرى بشار الأسد وصحبه معلقين على المشانق تنفيذاً لحكم محكمة سورية عادلة، لكنني لا أحب أن أراه مذبوحاً بأيدي إرهابيي القاعدة، بل وأنتظر أن يستطيع كسر شوكة الإرهابيين، ليس إنقاذاً لنظامه الإجرامي، ولكن رحمة بمصير الشعب السوري، بعدها قد نرى المظاهر السلمية تعود عاجلاً أو آجلاً إلى "ميادين التحرير" السورية، لتجبر الأسد وزبانيته على الانسحاب التدريجي الهادئ، لنشهد سوريا جديدة تولي وجهها شطر الحرية والحداثة والانفتاح على العالم الحر.
الحقيقة أنه رغم الأهمية الاستراتيجية البالغة لمصر مقارنة بوزن أي دولة أخرى بالمنطقة، إلا أن مصير سوريا سوف ينعكس على مستقبل مصر وسائر دول المنطقة، فإما أن يدفع نحو انحسار موجة التراجع والسقوط، وإما أن يفاقم من حالة التردي بسقوط جماعي يصعب تحديد مداه. . ربما سورياً إذن هي من سترسم الخطوط الرئيسية لملامح العصر ورجاله.
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات (0)