عصا البرادعي.
لم تكن عودة محمد البرادعي الى مصر لتثير كل هذا السجال السياسي الذي تعرفه البلاد هذه الأيام، لولا الحراك الاجتماعي الذي بدأ يطفو الى السطح منذ بضعة أعوام... فقد رأى الكثيرون من المراقبين في تلك العودة تجسيدا لأفق سياسي جديد يمثل البرادعي حجر الزاوية فيه. وموقع الرجل في المرحلة المقبلة، حسب هذا الرأي، هو سدة الحكم. لكن السؤال الذي يفرض علينا نفسه ونحن نتتبع الشأن السياسي في " مصر المحروسة "، يتجاوز البرادعي نفسه كشخص الى بنية اجتماعية كاملة، يبدو أنها ما زالت سجينة فكر الزعامة.فأية عصا سحرية يمتلكها زعيم القلوب الجديد في مصر؟.
عندما أنهى محمد البرادعي مهامه كمدير للوكالة الدولية للطاقة النووية مع متم سنة 2009 ، بدأ يصدر بعض الاشارات التي تم التقاطها بطرق مختلفة. وتحدث عن احتمال ترشحه للانتخابات الرئاسية بشروط تتمثل في ضرورة ضمان نزاهة العملية الانتخابية، والاشراف القضائي الكامل عليها تحت رقابة دولية. غير أن أهم ما تحدث عنه حينئذ، هو المطالبة بوضع دستور جديد يكفل الحريات وحقوق الانسان. وهكذا رأت التنظيمات والأحزاب السياسية المعارضة في الرجل عنوانا للمستقبل الذي أصبح يحظى بمزيد من الدعم للترشح في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في السنة القادمة. بينما تعاملت الآلة الاعلامية للحزب الحاكم مع تصريحات البرادعي المذكورة بكثير من التهجم والرفض. والواقع أن التضارب في الآراء أمر طبيعي جدا. والدولة تمتلك كل الحق لتصريف ايديولوجيتها الخاصة واقناع الجماهير بالالتفاف حولها. ولم يعد خافيا على أحد أن النظام المصري يسير قدما في اطار تنفيذ استراتيجية التوريث سواء عبر التمديد أو الاستخلاف. وقد شهدنا في الشهور الأخيرة جرعات شديدة من كيمياء هذا المخطط السياسي، عبر استغلال كل صغيرة وكبيرة لحشد الهمم من أجل الوقوف صفا مرصوصا خلف القيادة و الدفاع عن مكانة مصر وتاريخها، والتغني بانجازات النظام الحاكم.
ان التعلق بالبرادعي في هذه المرحلة يأتي كقشة أمل تراود المصريين الذين يتوقون الى التغيير، وقد بدا ذلك جليا عندما خرج الكثيرون لاستقباله عند عودته من فيينا في مطار القاهرة خلال شهر فبراير الماضي، وهم يرفعون شعارات التقطتها عدسات المصورين ونشرتها بعض المواقع الالكترونية.وذلك من قبيل : " أهلا بالبرادعي منقذ مصر. " و " البرادعي أمل الأمة "... وقد اتجهت عدد من التنظيمات المستقلة والمعارضة للنظام المصري الى الاتفاق على اعتبار المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية المرشح الأنسب لاخراج مصر من أزماتها الاجتماعية المستفحلة داخليا، وكذا اعادتها الى احتلال مكانتها الريادية على المستوى الخارجي من خلال الحفاظ على التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط في ظل التهديدات المحدقة بالمنطقة. وقد تجسد هذا الاتفاق في تأسيس ما يعرف ب " الحملة المستقلة لدعم ترشيح الدكتور البرادعي لرئاسة الجمهورية ".ولا بد أن النظام المصري يستشعر خطورة النفوذ المعنوي لشخصية البرادعي في نفوس المصريين. وهو بذلك لن يعلن عليه الحرب نظرا للحصانة الدولية التي يحظى بها الرجل. لكنه لا يعدم الوسيلة لمواجهته. وقد نسمع غدا في سياق سياسة الاحتواء التي تعتبر جزءا من استراتيجية الحكم أن( هذا المنقذ)، الذي يعقد عليه " الغلابة " آمالا عريضة، قبل منصبا سياسيا في الدولة المصرية...وهكذا فالحقيقة التي تفرض نفسها الآن هي أن الأمر في مصر ( كما هو الشأن في أغلب دول المنطقة) يتجاوز الاطار الضيق لشخص الحاكم. فقد استطاع النظام السياسي العربي التحكم في خيوط اللعبة باحكام شديد وبات جزءا من الهم اليومي للمواطن البسيط الذي لا يقوى على التأفف حتى. والنظام لا يتوقف على شخص الحاكم وحده، بل يتعداه الى طبيعة الثقافة التي تكرست بفعل سنوات طويلة من الارتباط الروحي بوجدان الشعب. والدولة قادرة باستمرار على مزيد من التغلغل في المجتمع عبر الترغيب أو الترهيب. والغاية تبرر الوسيلة.
ولأن مدرسة التاريخ علمتنا جميعا أن الأحداث الكبرى تصنعها الشعوب، فلا مجال لانتظار تغيير حقيقي يأتي من أصحاب القرار. والبرادعي المتمرس في الدبلوماسية، والذي يعرف جيدا أسرار اللعبة السياسية وقواعدها، يدرك أن دعوته الى تغيير دستوري نحو الديموقراطية وحقوق الانسان لا يمكن تحقيقه بالتمني، ولا بالخرجات الاعلامية، ولا بالعزف على أوتار العاطفة الجياشة للمصريين..
محمد مغوتي.28/04/2010.
التعليقات (0)