عشماوي !!
قصة قصيرة
ــ 1 ــ
لست أدري لم يتحاشى الجيران النظر في عينيّ؟!.. صحيح أنا جلاّد، و لكن هل يعني ذلك أنني شخص كريه و ميؤوس منه؟!.. من يتولى القيام " بالأعمال القذرة" لو استنكفنا عن القيام بها، من يرفع الزبالة و ينظف المجاري؟!.. في الحقيقة، لا يمكن إدراج عملي كجلاد (أو عشماوي بلغة المصريين) ضمن القذر، ما دام " زبائني" ـ لا أقول ضحاياي لأنني لا اقتلهم لصالحي، بل لصالح المجتمع ـ من مجرمي الحق العام، و ليسوا من السياسيين الذين يقتلون في بلادنا على مزاج الحاكم بأمره.
بالأمس، و أنا في طريقي الي شقتي، وحين مررت بجانب شباك مفتوح، سمعت جارتنا المنقبة وهي تصيح في ولدها الصغير محمود:
ــ لو لم تكفّ عن الصّراخ فسأحملك الي جارنا عشماوي يشوف شغلو معاك !
لم أترك المسألة تمرّ دون تنبيه، هممت بطرق بابها، أردت أن أقول لها " يا جارتاه لم تروّعين الصغير؟" لكن سماع صوت بغلها ــ عفوا، كانت مجرّد زلة قلم ــ أقصد صوت بعلها، حال دون تقديم تلك النصيحة... لم أرد أن أجلب لتك الأمة للمسكينة مصائب إضافية، خصوصا وهي تعيش معه في جحيم حقيقيّ. فزوجها العورة يراها عورة كلها حتى وجهها وكفيها... اللعنة... من أين لذلك البغل ـ لن أعتذر هذه المرّة، لأنني أقصد البغل فعلا ـ قلت لكم من أين لذلك البغل السلفي أن يدرك أن المرأة في كثير من الأحيان أقوي من الرجل و أشد شجاعة منه؟!، ألم يهرب الحجاج بن يوسف من قائدة ميدانية أهانته أقبح إهانة، حين نذرت بأن تصلىّ ركعتين في مسجد يقع على مرمى حجر من مقرّ قيادته؟... ألم يطلق ذلك الإرهابيّ اللعين ساقيه للريح فرارا من مواجهتها تاركا لها المجال كي توفي بنذرها؟ حتى قيل فيه:
أسد علي و في الحروب نعامة
فتخاء تهرب من صفير الصافر
هلا برزت في الوغي لغزالة
قد كان قلبك في جناحي طائر
رحم الله غزالة زوجة شبيب الخارجيّ، و رزق أمتنا المسترقـّة بكل مائة ألف فقمة أزهرية، غزالة خارجيّة واحدة تزعج الحكام الآمنين و تعيد الإعتبار لدين ربّ العالمين... أخبروني بربكم، لماذا تشهر الراقصتان بديعة مصابني و بمبة كشر و يخلد ذكرهما بأفلام ومسلسلات، في حين يقع التعتيم على زعيمة و رائدة من رواد الحرية كغزالة الخارجية؟ الجواب ان المرأة العورة و المرأة الجارية هو ما يروج له ساسة بلادنا العربية، وهذا يكذّب زعمهم الدفاع عن المرأة و تكريمها... أنا الذي يحقّ له البت في مسألة شجاعة المرأة من عدمها... المرأة يا سادة ــ صدقوا أو لا تصدقوا ـ أشدّ تماسكا من الرجل في أعسر لحظة يمرّ بها آدميّ ... لحظة الإعدام! ... رغم كراهيتي له، فقد أعجبت بشجاعة صدّام حسين ساعة إعدامه، صحيح، لم يعرف دكتاتور العراق كيف يعيش، لكنه عرف جيّدا كيف يموت... رغم سمعتى السيئة التي اكتسبتها كجلاّد، فقد رفضت أول أمس تنفيذ الإعدام في المواطن بشير السالمي... في البلاد العربية ليس لك الحق في رفض مهمة ما، لأن ذلك يعني أولا وأخيرا، المسّ من هيبة رئيسك المباشر، لأن رفضك يعني إهانته شخصياّ لعدم تعاملك مع تعليمات سيادته كمحض أوامر إلهية غير قابلة للطعن أو المراجعة... اللعنة، نريد الإنتصار على اليهود ونحن ألعن منهم ألف مرة... بالأمس، كنت أطالع مذكرة جندي إسرائيلي... كتــب ذلك الجنــدي يقول: كنــت مســتغرقا في تقبيل رفيقة سلاحي راشيل، حين اقتحم علينا موشي ديان المكان.( اسمحوا لي مقاطعتى رواية الجندي كي أقول كلمة عاجلة: لقد خطر ببالي اسم موشي ديان لأنه ورد في رواية السّجين بشير السالمي... لنواصل الآن الإستماع الي شهادة الجندي).. في حقيقة الأمر، كنا نمارس الحب فوق مكتبه في وزارة الدفاع! لم نكن نتوقع حضوره، كان الوقت فجرا، و كانت الحرب قد وضعت أوزارها، و كانت القدس قد أصبحت بحوزتنا، أتجه وزيرنا دفاعنا المنتصر مباشرة نحو أحد أدراج مكتبه، تناول ملفا قلبه طويلا ثم إختفى، قبل أن يظهر فجأة ليقول لنا:" في المرّة القادمة، تثبتا جيدا من إغلاق الباب، نهاية ليلة سعيدة!" تصرف وزير الدفاع زادني اعتزازا و فخرا بيهوديّتي انتهى كلام الجندي اليهودي... ايها السادة، أنا لست أروّج للدعارة حين سقت لكم هذا الخبر، فالفضائيات العربية ووزراء السياحة العرب و بعض وكالات الأسفار العربية وأكثر الصحف العربية قد احتكرت هذه المهمة منذ زمن مديد، ما أردت أن اصل إليه هو الآتي : لو حدث تلك المخالفة في مكتب أتفه ضابط عربي، وأقلهم رتبة، لأوسع الجندي المخالف ضربا ولعنا و سجنا وحرمانا من الإجازات، ثم تمديدا تعسفيا في خدمته العسكرية... في جيش اليهود، يتناول الضباط و ضباط الصف و الجنود نفس الطعام، في جيوشنا العربية للضباط طعاما، و لضباط الصف طعاما، و للجنود طعاما من زقوم لا
يأكله الا الخاطئون... في الجيش اليهودي يدخل الجندي على الجنرال آمر فرقته، يلاطفه الأخير، يدردش معه، يحدثه عن مباراة أمس في كرة القدم، وعن آخر كتاب أو ألبوم حقق مبيعات قياسية، قبل أن يتناول قضيته أو مخالفته العسكرية... في بلادنا يصفع الجندي من صاحب أسفل رتبة الي أعلاها، كما يتم يوميا لعن أبيه و أمّه و أخيه و فصيلته التي تؤويه، فلا يغادر الجيش حتى يكون خالص الكفر بوطنه... في حرب 67 ألبس جنرالات جمال عبد الناصر فساتين نساء، ثم أحاط بهم جنود اليهود و مجنداته و أجبروهم على الرقص فيما هم يصفقون سخرية منهم... في زمن السّلم، كانت تلك النعام الراقصة أسودا على الجنود الغلابي من أبناء جلدتهم... هناك نكتة تقول: ذات مرّة رأى المشير عامر الرئيس جمال عبد الناصر، وقد وشم على ذراعه " قريبــا سنحرّر
القدس" سأله المشير:" لم فعلت ذلك يا ريّس؟" قال الريّس" كي لا أنساها" سأله المشير مرة أخرى:" وماذا تصنع بتلك الجملة لو حرّرت القدس؟"،أجابه عبد الناصر:" أقطع ذراعي لو حررناها! "... لن تقوم لنا قائمة ما لم يتحرّر المواطن العربي و ما لم يكرّ بعد ذلك وهو حرّ... رفض مهمة ما، و مهما كانت المبرّرات، يعني تهاونك في أداء واجبك، لأجل ذلك تكون نتيجته فصلك من الوظيفة و تعريض عائلتك الي ذل الفقر و الم الحرمان من ضروريات الحياة... و لأجل أن رفض تنفيذ المهام، متاح في بلاد الغرب، ولو كان ذلك في المؤسسات الأمنية و حتى العسكريّة، فقد اشتقت كثيرا الي التبوّل على يوسف القرضاوي ــ حتى لو قطع ذكري و أقتلعت خصيتاي، ثمنا لتلك البولة المأجورة إنشاء الله ــ حين علمت أن كاهن الإخوان المسلمين قد حثّ المجند المسلم في أي جيش من جيوش الغرب، على مشاركته في قتال أبناء ملته في حال أرساله الى افغانستان أو الي أي بلاد إسلامية! لأن التخلف عن تنفيذ تلك المهمة القذرة ــ حسب اعتقاد القرضاوي ـ سيفقد رؤساء ذلك المجند الثقة فيه و قد يكلفه الفصل من الشغل، بل و حتى فقدان جنسيته الأمريكية الشريفة!... " يقدر مختصون انه في الحرب العالمية الأولى تمّ تجنيد 30 مليون جندي الزاميا و تمسّك 16 ألف من البريطانيين بحق رفض القتل. و في الحرب العالمية الثانية، تمّ تجنيد 45 مليونا إلزاميا، و تمسّك 60 ألف بريطاني بحق رفض القتل"... ظفر أي جنديّ بريطانيّ رفض القتل لأسباب أخلاقية أفضل عند الله وعند أي رجل متديّن و شريف من ملء حاوية كبيرة من أمثال " فضيلة" القرضاوي... صحيح أنا جلاد و لكنني واسع الإطلاع بالقياس الي نظرائي من حكام العرب... لقد رفضت تنفيذ الأعدام في المواطن بشير السالمي لا لأنني اشتغل في السويد، بل لأن صهري هو مدير السّجن! لأجل ذلك، فأنا أتمتع بحق الرفض و أنا آمن من الرفت!... لما كان صهري هو مدير السجن، فقد أتيحت لي امتيازات غير عادية و منحت لي صلاحيات إضافية، لأجل ذلك، كنت اتصل بالمذنبين، و أكذب عليهم و أنا أعرفهم بنفسي كمرشد روحي ملحق بالسجن.. كنت أحسن إليهم و أبدي لهم من ضروب التعاطف و من أصناف الرحمة و المواساة، ما يجعلهم يعترفون لي بجرائمهم، حتى أكون مرتاح الضمير، و انا أنقلهم الي العالم الآخر!
ــ 2 ـــ
لأول وهلة، و منذ وقعت عيناي على السجين بشير السالمي أيقنت أن رأسه لن تكون لي، فقد شعرت بتعاطف غريب نحوه، كان في الثالثة و العشرين من عمره، لكنه يبدو أصغر من سنه بكثير، كان فتى وسيما الي حد بعيد، كما كان متين البنيان، اذا تكلم تكلم همسا. كنت أعلم انه أدين بقتل اللواء مبروك البرينسي، غير أن صحفنا الثرثارة قد أحاطت قضيته بكتمان شديد و تعمية شاملة، نظرا الي "حساسية الموقف" الراجع الي رتبة القتيل و خصوصا قرابته الشديدة من القصر الجمهوري.
ــ من فضلك يا عبد الوهاب لا تقترب من السجين بشير السالمي، فهو حالة خاصة سأعفيك منها مسبقا
هكذا قال لي صهري محذرا.
رغم ذلك دفعني الفضول ثم استغلال صلاحياتي السابقة الي الدخول الي زنزانة بشير السالمي الإنفرادية و المحروسة ـ و لأول مرة ـ بعنصرين مسلحين من رجال الطلائع .
بعد جلسات طويلة، و حين اطمأن بشير السالمي الي شخصي و لمس مني تعاطفا أبويّا نحوه، اندفع يقول بكل تلقائية:
ــ بدأت مأساتي حين نبهني الطبيب الي ضرورة البحث عن متبرع لإنقاذ حياة والدتي من موت محقق، فقد كانت تعاني فشلا كلويا مزمنا، لأجل ذلك فقد كانت في أمسّ الحاجة الي كلية تمنحها أملا جديدا في الحياة. كانت في التاسعة و الثلاثين حين توفيت، بل حين قتلت.
مسح بشير السالمي دمعة ثم استمر يقول:
ــ كان فرحي عظيما و سروري غامرا حين أبلغني الطبيب، أنّ كليتي مناسبة جدا لتكون طوق نجاة لوالدتي التي كنت على استعداد لأفديها ليس فقط بكليتي، بل بحياتي. حتى لو لم تضحّي وهي السيدة الجميلة.. بحياة زوجية واعدة في سبيل تجنيبي زوج أم قد يكون لئيما. بعد أن فقدت أبي و لمّا أبلغ الثامنة من العمر.
تنهد البشير السالمي ثم أردف يقول:
ــ طلبت إجازة بشهر قدرت انها كافية لإجراء العملية ثم استعادة عافيتي... دخلت المستشفى و أجريت لي الفحوصات اللازمة... قبل خمس ساعات من إجراء العملية، استدعاني مدير المستشفي، حين وصلت الي مكتبه فوجئت بثلاثة عناصر من الشرطة العسكرية تقف أمامه!
حك بشير السالمي شعره الأشقر تطلع الي سقف الزنزانة ثم أردف يقول:
ــ في حقيقة الأمر لم أفاجأ كليّا بحضورالشرطة العسكرية... كنت أعلم أنني خالفت التعليمات المهنية حين قررت إجراء عملية دون أوامر قيادتي... لقد ارتكبت خطا مميتا حين حدثت فؤاد بكل شيء. رغم انني أوصيته بالكتمان.
ــ من هو فؤاد؟
ــ رفيق سلاحي وصديقي و شقيق خطيبتي.
سألت بشير السالمي:
ــ هل يعني هذا أن فؤاد قد بلّغ قيادتك؟
ــ ليس هذا ما حصل بالضبط، كل ما في الأمر، أن زميلا نذلا إشتهر باسم "أواكس"( على فكرة، أواكس اسم طائرة تجسّس حربية) قد التقط جملة من مكالمة هاتفية أجراها صديقي فؤاد مع خطيبتي، فهم من خلالها بما اعتزمت عليه، فسارع الي إبلاغ وكيل السرية الذي أبلغ آمر السرية الذي نقل بدوره الخبر الي اللواء مبروك البرينسي آمر الفوج، و أخسّ و أقذر مخلوق مشى على وجه البسيطة.
هتفت متعاطفا:
ـــ.... يا للحظ التعيس !
ــ انقضّ علي عناصر الشرطة العسكرية وحملوني مكبلا الي مكتب اللواء مبروك البرينسي.
إعتذر بشير السالمي عن قبول سيجارة عرضتها عليه، كدت ان اقول له جملتي الإعتيادية حول ضرر التدخين بصحّة شابّ رياضيّ مثله ــ سيشنق بعد أيام قليلة! ـ غير انني سحبتها في آخر لحظة لعدم مناسبتها للموقف!... فيما كنت أشعل سيجارتي طفق بشير السالمي يقول:
ـــ حين دخلت مكتب اللواء، وجدته مهتاجا، لم يترك لي فرصة التعريف بنفسي و رتبتي و فرقتي بادرني صائحا"هل تظن الجيش وكالة بلا بوّاب حتى تفعل ما يعنّ لك دون حسيب أو رقيب؟" قلت له" يا حضرة اللواء ان حالة والدتي تستوجب التدخل الطبيّ السّريع ولم يكن لي أي خيار", لعنني ثلاثا قبل أن يعلمني ان القانون يحجّر على أي عسكري التبرّع بعضو من أعضائه، هممت بان اقول له ان نزع كلية من شاب قوي مثلي لن تؤثر على عملي كسائق، لكن مكالمة هاتفية قطعت حوارنا. زادت المكالمة الهاتفية اللواء عبوسا و شراسة، يبدو انها زوجته" جلس على كرسيّه الدوّار ثم اخذ يلف حول نفسه وهو يصيح فيها بعصبية، حين أنهى المكالمة كان وجهه في اتجاه الحائط، زفر بعنف ثم ظل يتطلع الي سقف مكتبه، يبدو انه نسيني.. فجأة رنّ الهاتف من جديد، تغيرت لهجة اللواء من الغضب الى الانشراح، وهو يصيح متهللا" الو.. يلدز.. مش معقول!، متى رجعت من السفر؟" ظل اللواء يغازل يلدز طويلا، حتى دفع كرسيه الي الأمام، ثم طفق يدور حول نفسه وهو مغمض العينين، فيما كان يسترجع مع مخاطبته أشد اللحظات الحميميّة التي جمعتهما في آخر مرّة، لقد تأكد لي أن اللواء قد نسيني تماما ! في إحدى اللفات، حين فتح عينيه و رآني لم يقطع مكالمته، بل أوقف كرسيه الدوار ثم أشار الي بإصبعه نحو الباب! ثم ولاني ظهره متابعا مكالمته... كنت أدرك أن انصرافي يعني حجزي في سجن الثكنة لمدة لا تقل عن نصف شهر، قد تضيع حياة والدتي خلالها، لأجل ذلك قلت للواء" حضرة اللواء، لا بدّ لي أن.." لم يدعنى أكمل جملتي، بل ضغط على زر بمكتبه، سرعان ما دخل الجندي المكلف بخدمة اللواء متبوعا بأحد عناصر الشرطة العسكرية لم أشأ مقاومة الشرطة العسكرية، حتى لا أوصد نهائيا أبواب الأمل عن والدتي الحبيبة، كنت آمل في حلّ قانوني... قد استطيع إقناع آمر سريتي بعدالة قضيتي... هكذا فكرت...حين وصلت الي مقر سريتي قابلني وكيل السرية و في يده بطاقة إيداع بسجن الثكنة لمدة شهر! حين طالبت مقابلة آمر السرية، أخبرني الوكيل بأن الآمر في إجازة منذ أسبوع!
وصلنا صوت عم سليمان منبها:
ــ اسمحا لي على المقاطعة، لقد آن موعد تقديم الطعام.
لم أشأ قطع حديث بشير السالمي، أمرت السجان بترك طعام الفتى جانبا.
استمر الفتى يقول:
ــ بعد يومين، وحين رفض اللواء استقبالي ثانية قدمت استقالتي من الجيش حتى أتمكن من التصرف بكليتي كما أشاء كما رجوت اللواء بما له من موقع في المؤسّسة العسكريّة اختصار إجراءات تسريحي... بعد خمسة أيام من إيداعي السجن، أخبرني فؤاد بان حالة والدتي قد تدهورت بشكل ينذر بالخطر، إن لم تجرى لها عملية في القريب العاجل، ثم اخبرني بأنه قد اتصل بمدير المستشفي وحدد موعدا جديدا لإجراء العملية وان المدير كان شهما، حين رضي بذلك رغم علمه برفض المؤسسة العسكرية إجراء تلك العملية... قبل إجراء العملية بخمس ساعات، تسللت من سجني بمساعدة آمر الحراسة الذي كان ايضا اكثر من شهم ...
تنهد بشير السالمي ثم استمر يقول:
ــ حين دخلت غرفة العمليات و تم حقني بالمخدر، حمدت الله كثيرا بعد تأكدي بأن خطتي قد نجحت.
ثم وهو يضرب كفه اليسرى بجمعه الأيمن:
ــ و لكن هيهات !
أطرق بشير السالمي طويلا، رغم تلهفي الي معرفة البقية فقد احترمت سكوته.
رفع الفتي رأسه عن الأرض أطلق زفرة حادة ثم استمر يقول:
ــ حين أفقت من تأثير المخدر، اصبت بصدمة حادة، كما أحسست بما يشبه الطعنة في الصدر، حين طالعتني قضبان سجني العسكري! لكنني أسرعت بتحسّس بطني، كان منتهى أملى و أقصى مناي أن تصطدم أناملي بالضمادات المبشرة بإتمام العملية، لكنني لم أجد غير صدر لم يمسسه مشرط جرّاح... بقيت مذهولا، وأنا أتطلع الي سقف زنزانتي، كنت نهب تساؤلات عديدة أهمها :"رباه، هل تبلغ كراهية الانسان لأخيه الإنسان هذا الحدّ المروّع؟" احتجت الي اكثر من نصف ساعة من الذهول، كي تنبهني برودة البلاط الي أنني كنت ملقيا على الأرض! حتى السرير الذي كان يوجد في زنزانتي قد رفع بأمر اللواء الحقود! هذا بالإضافة الي إنتصاب عملاقين من الشرطة العسكرية على باب زنزانتي و كأنني من عتاة المجرمين!
قال بشير السلمي ذلك ثم اطرق الي الأرض متجهما.
فيما كان الفتى مطرقا، مسحت دمعتين سالتا على خدي و ألتقتا عند أسفل ذقني... أعلم جيدا إنكم ستتعجبون، و لكن رجاء، لا تسيئوا الظن يوما بجلاّد ، فهو قبل كل شيء انسان مثلكم... ما لم يصبح رئيس جمهورية... حين أعياني انتقاء العبارات المناسبة لمواساة الفتى، إكتفيت بالتربيت على كتفه الهرقلية، داريت عجزي بإشعال سيجارة ثانية، نفثت دخانها بقوة، ثم قلت متسائلا :
ــ ما أدهشني في القضية، هو إصرار اللواء اللعين عن إحباط مسعاك، فهو كانت بينكما حسابات قديمة؟
دون ان يرفع رأسه اجابني الفتى بنبرة حزينة:
ــ تلك هي طبيعة ضباطنا. فمخالفة أوامر أصغرهم لا يعني غير شيء واحد تحدّي شخصه بالذات، لا مخالفة قانون قد جعل أصلا ليخرق كما قال واضعو القوانين منذ القدم. هذا بالنسبة الي ضابط صغير، فما بالك بلواء مقرّب من قصر قرطاج، قد يكون تلقى تطمينات أمريكية لخلافة رئيس الجمهورية؟
وافقت الفتي على تحليله لشخصية آمريه، أفدته بأن ذلك دأب كل المسؤولين في كل الإدارات... كان علي مغادرة بشير السالمي بعد انتهاء الحصة الأولى من دوامي، ناديت عم سليمان، أمرته باحضار طعام الفتى بعد تسخينه، أوصيته به خيرا, قبل أن أغادر سجيني سالته عما يرغب بالحـــصول عليه من خلف الأسوار، أجابني بأنه يرغب في قلم رصاص و معجون أسنان و أمواس حلاقة.
ـــ 3 ـــ
كنت شديد التأثر بما سمعت من سجيني، حتى اضطرت زوجتي الي تنبيهي مرتين، المرة الأولى حين أسقطت سيجارتي وسط كوب القهوة، عوض منفضة السجائر، و المرة الثانية حين دخلت الحمام و أنا أريد غرفة النوم، للرد على هاتف يرنّ بإلحاح .
حالما التقيت ببشير السالمي، و سلمت له طلباته معززة بزجاجة مشروبات غازية عملاقة لاحظت وجود نظيرتها فارغة بين أغراضه، طلبت منه وصل ما قطعناه من حديث.... بعد ان شكرني عن تعاطفي معه و خدماتي له، انطلق يقول:
ــ بعد ساعتين من إفاقتي من المخدّر، ادخل عليّ صديقي فؤاد، احتجت الي جهد كبير كي أتعرف عليه، كان حليق الرأس،حافي القدمين، مورّم العينين، ثم ما جعل مهمة التعرف عليه أصعب هو حلق شاربه، فقد كان شاربه ضخما، ولم اكن أعرفه الا بشارب... كنت أعلم أن فؤاد كان في المستشفي، حين أدخلت غرفة العمليات، ألهاني السؤال عما حدث له بسؤالي عن كيفية إحباط العملية.
نزع فؤاد سترته كورها جيدا، ثم وضعها تحت راسي، بعد ذلك طفق يقول:
ــ كانت قد مرت نصف ساعة على دخولك غرفة العمليات، حين وصلتني جلبة في الممر الطويل المؤدي أليها، حين التفت فوجئت باللواء المتعجرف وهو يعنف ممرضا مسنّا، لم يقدم له فروض الإحترام كما يجب هو، وهو يسأله عن مكان غرفة العمليات، كان اللواء في كامل زينته العسكرية، و عصاه الماريشالية، و نياشينه الإستعراضية المثيرة للضحك... كنت قد تخيلت هذا السيناريو، لأجل ذلك فقد أعددت خطة استباقية: الحلّ العسكري!
سألت صديقي الوفي:" و لكن ذلك يعني السجن و فقدان الوظيفة.
أجابني صديقي وهو يتحسس عينه المتورمة : " أي حرية و أي وظيفة يا رجل! ثم ماذا أصنع بالحرية وبالوظيفة، بل ماذا أصنع بحياتي و بين جنبي ضمير معذب... ستظل روح أمك تطاردني الي آخر نفس لي لو تركت ذلك الكلب العقور يحول بينها و بين طوق النجاة الذي أصبح في متناولها.
انخرط فؤاد في ضحكة طويلة ثم قال:
ــ ما ان رآني اللواء حين صاح فيّ"(1) Fils de putain أنت هنا أيضا، (2) un vrait complot Cest a dire" ثم وهو يرجّ كتفي بلهفة: أين زميلك.. أين بشير السالمي" قلت له و أنا أؤدّي له التحيّة العسكريّة:
ــ لقد نقل منذ قليل من غرفة العمليات لإعادة تحاليل جديدة، يبدو أن العملية قد ألغيت تماما، تفضل حضرة اللواء سأقودك إليه... فيما كنت أسير أمام اللواء المتشنج و الذي كان يمطرني تارة ببذيء كلامه، وتارة اخرى بحارّ لعناته و خالص تهديداته، كنت استرق النظر حواليّ بحثا عن مكان مناسب أغيّبه فيه... توقف اللواء متوجسا، حين رآني أنزل الدرجات الأولى من طابق أرضي معتّم، صاح فيّ"(3)Fils de putain, tu me prends pour un con? قال ذلك ثم همّ بالعودة من حيث أتى، لكنني لحقت به و أمسكته من رجله ثم سحبته بقوة جعلته يتدحرج على السلم ليستقر أخيرا في بركة بول كبيرة!
بعد ان فرغ صديقي فؤاد من نوبة الضحك التي اعترته، حتى استمر يقول" كان حضرة اللواء معفر الوجه بالسّخام، كما كان مبتل الثياب بما علق به من بول قديم، حين كان يحاول النهوض قبل ان يسقط من جديد! من محاسن الصدف"، ثم مستدركا" أمـــا الآن، وقد فشل مخططنا فيمكن لي أن أقول من مساوئ الصّدف، أنني وجدت باب مستودع المهملات مفتوحا... أدخلت اللواء الذي كان يتوسل الي تارة كطفل صغير، و يهددني تارة أخرى بعظائم الأمور. ظللت أسحبه ورائي، حتى صادفت مرحاضا مهجورا تنبعث منه رائحة بول نفاذة، دفعته هناك، ثم أغلقت عليه الباب... حين حاول الخروج أمسكت قضيبا حديديا ثم هددته بتهشيم رأسه لو لم يلزم مكانه، حينئذ كفّ اللئيم عن المحاولة... احتجت الي إحضار عمود حديدي وضعته بين باب المرحاض و الجدار الذي يواجهه، ثم ضغطت عليه بشكل يستحيل فتحه من الداخل. ثم رجعت الي مكاني أمام غرفة العمليات... لم أمكث هناك أكثر من عشر دقائق حتى داهم المكان فصيل كامل من الشرطة العسكرية، اتجه بعض أفراده نحوي، فيما اتجه البعض الآخر الي حيث مخبأ اللواء... وقع تكبيلي ثم شحني على سيارة جيب... ظللت هناك أقل من خمس دقائق قبل أن يطل علي اللواء الجريح الكرامة و المسلوخ الوجه، صاح فيّ Fils du putain, fils de putain, vous ete foutu , vous ete foutu, tu vas payer cher! (4)) قبل أن يهرع الي غرفة العمليات ليفسد كل شيء!... اخبرني بعض إفراد الشرطة العسكرية انه كان يجذب مدير المستشفي من ربطة عنقه وهو يصيح فيه " لم تلده أمه بعد، من أراد تحدّي أوامر الجنرال مبروك برينسي! "
سألت بشير السالمي:
ــ إسمح لي عن المقاطعة، ولكن من أعلم الشرطة العسكرية بمكانك؟
ثم مستدركا:
ــ ثم من أعلمهم قبل ذلك بمخبأ اللواء؟
ندت عن بشير السالمي ابتسامة ساخرة، دوّح رأسه يمينا و شمالا، أرسل زفرة حرى ثم قال:
ــ غاب عن صديقي فؤاد و ربما عن الشيطان أيضا، أن اللواء كان مسلحا بهاتف جوّال كان باكورة الأجهزة التي دخلت تونس، قبل أن تنتشرفيها، و كما في كل أرجاء الدنيا، انتشار النار في الهشيم!
صحت دون شعور:
ــ يا للحظ السيئ!!
سالت الفتى مرة أخرى:
ــ ولكن من بلغ اللواء أصلا بخروجك من السجن؟!
أجابني الفتي وهو ينكت الأرض بمؤخرة قلم الرصاص:
ــ أواكس... مرة أخرى!
ثم مضيفا وقد ازداد ضربات قلمه شدة:
ــ كانت لأواكس عيونا إضافية، فقد أطلعه جندي كان يقوم بالحراسة في تلك الليلة بكل شيء، فسارع هو بأخبار وكيل السرية الذي اطلع اللواء مباشرة بصفة نائب آمر السرية.
قلت متعجبا:
ــ والله لو كان هذا الحزم العسكري موجها نحو أعداء أمتنا ما أحتلت ذرة من ترابنا!
استمر بشير السالمي يقول:
ــ بعد اسبوع واحد من توقيفي، أبلغت بوفاة والدتي، و بعد يومين من وفاتها، أبلغت بقبول مطلب تسريحي من الجيش، لقد وقع تسريحي بسرعة قياسية، كإجراء انتقامي من اللواء الخبيث... رغم تسريحي من الجيش ظللت سجينا حتى أكملت مدة عقوبتي...
سألت بشير السالمي
ــ و لكن كيف حدث القتل؟
سكت الفتى طويلا ثم قال:
ــ كان البهدلة و الاهانة التي لحقت اللواء المتعجرف بسببي أنا، كما كان قدر الله باني انتهى مشنوقا، و أن ينتهي اللواء مخنوقا، أو مكسر الرقبة، هي التي حملت الخبيث على استدعائي الي مكتبه، و الاّ فقد انتهى كل شيء بيني و بينه بعد أن سرّع عملية فصلي عن وظيفتي... حين وصلت الي مكتب اللواء رأيت مجموعة كبيرة من عناصر الشرطة العسكرية ترابط أمامه، حالما دخلت المكتب وجدت عنصرين من أطول الشرطة قامة و أضخمهم جثة، يقفان على يمين و يسار الباب، بمجرد دخولي بادرني اللواء قائلا:
ــ من يتحدّى أوامر الجنرال مبروك برينسي، لم تلده أمه بعد.
هممت بسؤاله، لكن دخول الجندي المكلف بخدمته ليعلمه بأن سيارته قد أصبحت جاهزة.. قد حال دون ذلك.. و انا أشيّع الجندي الذي غادر المكتب، رأيت قفل المكتب يتوسطه مفتاح، لم يحتج الأمر سوى خطوة سريعة الي الوراء تمكنت بعدها من إغلاق المكتب ووضع مفتاحه في جيبي! كنت أدرك ان عنصريّ الشرطة العسكرية كانا مجرّد قوة عمياء بلا أي مهارة... لقد غاب عن الجميع، وهم يهيئون لي عملاقين يتقدمان فصيلا كاملا من الشرطة العسكرية أنني بالإضافة الي تدريبي العلني في رفع الأثقال، كنت حاصلا و بطريقة سريّة غابت هذه المرة حتى على أواكس نفسه، على حزام أسود في الجيدو.
قلت لبشير السالمي بين بسمتين:
ــ الآن فقط أدركت سر وجود الحارسين المسلحين أمام زنزانتك!
ــ هرش الفتي رأسه ثم أضاف:
ــ بعد فراغي ـ و بدون إحداث ضجة ـ تثير ريبة من في الخارج، من عنصري الشرطة العسكرية، و تعاملي معهما إسقاطا ثم تكبيلا بالكلبشتين التين يحملانها، جلست على مكتب اللواء المرتجف.
مددت يدي الي بدلته الإستعراضية، قلعت كتفيته اليمني التي تحمل نجمتين و شعار تونس و سيفين متقاطعين، قلت له و أنا أرمي بها خلف ظهري :
ــ هل بلغ حضرة اللواء الشهم وفاة والدتي؟
اجابني الجنرال المرعوب وهو يبتلع ريقه بصعوبة:
ــ أجل يا ولدي... الأعمار بيد الله.
ثم وانأ أقتلع كتفيته اليسرى:
ــ و هل تعلم ايضا أنك من قتلها؟
ـــ .....
ثم و أنا أقذف بكتفيته المذهّبة خلف ظهري:
ــ حضرة اللواء، ما كان يضير الجيش التونسي، لو ظللت أشتغل بكلية واحدة، ثم ما يضير وزارة دفاعنا التي لا تدافع الا عن التافهين من أمثالك، لو وقع تسريـحي في وقت استعجاليّ لأسـباب
إنسانية حتى أدرك والدتي قبل فوات الأوان؟
ثم و أنا اقلتع نياشينه واحدا واحدا:
ــ ألم يجعل الجيش لخدمـة الشعب "الكريم"، ألم تدرّسونا ذلك، أليست والدتي القتـيلة من أفراد الشعب الكريم، أم تراها من فئة المنبوذين؟ أليست ابنة شهيد حائز على الصنف الثاني من وسام الإستقلال؟
حين عجز عن الردّ قلت و انا أسحبه إلي من ربطة عنقه:
ـــ حضرة اللواء ، لا أشك أنك تعلم جيدا ماذا يحدث مباشرة لعسكري جردّ من رتبته و نياشينه؟!
ـــ....
ـــ لا أِشك أنت قد شهدت حفل إعدام كبار ضباط، من تلك التي حدثت في العهد البورقيبي!
غشيت وجه اللواء صفرة الموت، جثا على ركبتيه حاول تناول يدي للثمها، لكنني دفعته بركبتي فانقلب على ظهره، قال لي متوسلا:
ــ سأرجعك الي وظيفتك معززا مكرما، بل سأمنحك رتبة لم تحلم...
قلت له مقاطعا:
ــ ما أريده منك هو إعادة والدتي الي الحياة!
أجابني مرتجفا و قد هالتني صفرة وجهه، حتى أدركتني لحظة ضعف هممت فيها بتركه:
ــ ذلك ما ليس في إمكاني!
ــ كنت أعلم أن في أمكانك الإماتة دون الإحياء و التخريب دون البناء.
رفعت اللواء المذعور بيدي ككيس فارغ، ثم أجلسته على كرسيه الدوّار، جلست القرفصاء أمامه، قلت له و أنا أضع يدي على فخذيه المرتجفتين:
ــ أخبرني أيها الكلب العقور، هل تظن أن كلية إضافية أو عينا إضافية يمكن أن تصنع من ميت مثلك إنسانا حيّا، و من جنرال فاشل قائدا حقيقيا؟ أخبرني أيها الجنرال الكرتوني؟ هل أغنت عنك شيئا وعن غيرك من مئات الجنرالات العرب عيونهم اليسرى أو اليمني لا أذكر بالتحديد، أمام جنرال كموشي ديان لم يمنعه عوره من تمريغ شرفكم العسكري ــ الممرغ أصلا ــ في الوحل؟!
ثم و أنا أنهض كي أقف وراء كرسيه الدوّار، جاسّا عنقه، فيما كان ينتفض بين يديّ كقصبة في مهبّ الرّيح:
ــ أخبريني أيتها الأفعي السّامّة التي تضرّ ولا تنفع، و التي تجدّف و لا تسبّح، مع اعتذاري لكل الأفاعي السّامّة التي تسبّح بحمد ربّها ككل كائن حيّ، و إن لم نفقه تسبيحها، و التي تنفع الناس بسمّها الذي تعالج به الأمراض... أخبرني أيها الجنرال... اذا كانت المجندة اليهودية التي هزمتكم في كل الحروب، تقدر على سياقة دبابة تزن عشرات الأطنان بذراعيها الرقيقتين، فهل أن نقصان كلية واحدة كانت ستعيد الحياة الي إمرأة عظيمة، كانت ستمنعني من قيادة سيارة خفيفة بذراعيّ الجبارتين؟ ما إن أتتمت كلامي حتى أمسكت رأسه بيديّ ثم أدرتها بقوّة جنونيّة كانت كافية لإزهاق روحه في الحال بعد ان سمعت لها طقطقة مزقت صمت المكتب.
قبل ان أغادر الفتى تركت له مجالا كي يبحث طويلا عن ورقة كي يسجل عليها أسماء كتب طلب مني إحضارها من المكتبة العمومية، حين أخبرته بأنني أملك بطاقة اشتراك، كنت أرحم من أن أبلغه بأنه لن يقرأ من تلك الكتب حرفا واحدا، لأن برقية عاجلة قد وردت قبل ساعتين من وزارة الداخلية تحدد تاريخ الإعدام، بعد أن أقرّ رذيلة مفتي الجمهورية الحكم الصادر في حق الفتى المظلوم، حين ودعت بشير السالمي، كنت أعلم علم اليقين أنني لن أراه ثانية، لأن التنفيذ سيكون فجر غد!
ــ 4 ــ
في اليوم الموالي لإعدام بشير السالمي، وجدت نفسي اكتب استقالتي، حين سألني صهري عن السبب قلت له:
" والله حرام في هكذا نظام، أن نقدم للمسؤولين شربة ماء... فضلا على إزهاق دماء الخلق في سبيل بقائه.. فالنظام خربان من بابه الي محرابه، فالعفن قد أدرك النخاع" ثم و انا اقول له مازحا:
ــ قد أعود يوما لممارسة مهنتي، حتى دون مقابل، و لوجه الله تعالى، إذا وجدت الرؤوس...
ثم وانأ اشير برأسي الي فوق:
ــ المؤهلة قبل سواها للتعامل معه بما يرضي الشعب التونسي المعذب، و بما يرضي البشير السالمي ووالدته في قبريهما!
ــ 5 ـــ
في ظهيرة يوم خريفي مشمس.. أعترتني نشوة غامرة حين خلفت وراء ظهري رؤوسا أينعت و حان قطافا و لست بقاطفها أبدا... كما داهمتني سعادة لا توصف، و أنا أحث الخطى نحو بيتي السّعيد، حاملا تحت إبطي صندوقا من الورق المقوّى يضمّ بين جنباته قطارا كهربائيا سأهبه الي محمود، جاري المروّع، كي أدفع به عن نفسي و عن فؤاده الصغير، و الي الأبد، وصمة الإرهاب التي طالما ألصقت بي ظلما وعدوانا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1) ابن العاهرة.
(2) هذا يعني مؤامرة !
(3) أنت تعاملني كأحمق او مغفل! (و العبارات بلغة المستعمر الفرنسي الذي احتل تونس عسكريا من سنة 1881 الي سنة 1956، و لا يزال يحتلها ثقافيا و دستوريا الي يومنا هذا ).
(4) ابن العاهرة ابن العاهرة، أنت ضعت أنت ضعت، ستدفع ذلك غاليا!
أوسلو 11 سبتمبر 2009
حمادي بلخشين
priata@aktoob.com
التعليقات (0)