{{ ابتسم.. ولو على الحساب/ عزيز نيسين }}
--------------------------------------------------------------------------------
مقالة عن عزيز نيسين تستحق القراءة.. لمن يعرف من هو عزيز نيسين
اديب تركي
-------------
في هذا اليوم كاد يطير في السماء.. والمؤكد ان الارض لم تكن قادرة على ان
تسعه.. لقد قبض اول مرتب في حياته بعد سنوات من التسكع والبطالة.. انه
اليوم سيبدأ حياة جديدة.. وسيودع كل حياته القديمة.. المريرة.لم يشأ ان
يعود الى بيته.. وقرر ان يغزو الحياة بما يملك في جيبه من سلاح .. دخل
عمارة تحت التشطيب.. لكنه عندما خرج اكتشف ان مرتبه يكفي لان يستأجر شقة
فيها لمدة ساعتين.. وفي محل الثياب الجاهزة القريب منها اكتشف ان مرتبه
يساوي نصف بنطلون بدلة.. او قميص ونصف رباطة عنق.. او حذاء بدون
الرباط.. لكنه لم يشعر باليأس.. وواصل غزوه لقلب العاصمة. دخل مطعما كان
يحلم بتناول طعامه فيه.. لكنه بمجرد ان لمح الاسعار في قائمة الطعام حتى
هب من مكانه ليجد نفسه في الشارع.. فمرتبه لا يكفي الا لتناول ثلاث وجبات
هنا بشرط ان يترك ساعة يده رهنا لباقي الحساب. واخيرا هداه تفكيره
لزيارة طبيب الاعصاب ليعالج نفسه من النوبات التي اصابته انتظارا
للوظيفة.. وقبل ان يدفع بقشيشا للممرضة الحسناء عرف منها.. ان عليه ان
يدفع ضعف ما في جيبه من مال ثمنا للكشف وعربونا لخمس جلسات.. فالجلسة
الواحدة لعلاج اعصابه تساوي ثلث مرتبه. هذه واحدة من القصص القصيرة
الساخرة لكاتب تركي شهير هو عزيز نيسين.. سمعت عنه كثيرا.. لكنني لم اجد
له في مكتبات القاهرة ترجمات لأعماله.. فظلت علاقتي به ـ لجهلي باللغة
التركية ـ مثل نصوص كتاب الموتى المكتوبة باللغة الهيروغليفية.. وظللت
اقرأ عنه ـ ولا أقرأ له ـ في صحف العالم التي تعتبره واحد من اهم كتاب
القرن العشرين.. لكن.. في الاسبوع الماضي عثرت على كنز من كتاباته..
مترجمة في سوريا.. اشتريتها من مكتبة في (أبوظبي) اثناء رحلة خاطفة
للمشاركة في برنامج تلفزيوني على الهواء عن حرية الصحافة في العالم
العربي.. وهو ما جعلني لا اشعر برحلة العودة وانا التهم هذا الكنز من
المتعة والسخرية. وعزيز نيسين ولد في 20 ديسمبر 1915 في جزيرة قريبة من
اسطنبول.. وعزيز اسم مستعار.. فاسمه الحقيقي هو محمد نصرت.. لكن عزيز
ليس الاسم الوحيد المستعار الذي كتب به.. وان كان اشهرها.. فقد استخدم 200
من الأسماء المستعارة.. بسبب مطاردات الامن السياسي له.. وهي مطاردات في
تركيا من النوع الثقيل جدا.. وهو ما جعله يكتب في احدى قصصه انه قرر ان
ينظم حياته.. فوضع برنامجا للاسبوع: الاثنين ـ استجواب في قضية نشر..
الثلاثاء ـ تفتيش البيت.. الاربعاء والخميس ـ جلسات محاكمة.. الجمعة
والسبت ـ استيفاء المحاضر.. الاحد ـ اجازة.. اما بقية ايام الاسبوع فتخصص
للكتابة. (يجب الاستمرار.. لا يجوز ترك هذا الجمهور من الناس ـ الشرطة
والمحققين ورؤساء النيابة والقضاة ـ عاطلين عن العمل.. ليس لدي رغبة
كبيرة في التفكير في الموت.. لكنني اعتقد انهم سيقولون عني بعد موتي:
كان انسانا موهوبا.. يجيد استعمال قلمه.. ولولا كل هذه الاستدعاءات
والتفتيشات والاستجوابات والمحاكمات لكان يمكن ان يكون كاتبا) . وفي قصة
اخرى يرد على كل الذين يعتقدون ان كتابة المقالة مسألة غاية في
السهولة.. ان البعض يعتقد انها مجرد قلم يجري على ورق.. لكنها بالنسبة
له ليست كذلك.. فعندما يشرع في الكتابة تدخل زوجته لتحذره من التهور
الذي يصيبه عندما يكتب.. فيشطب في رأسه فكرة.. وتدفع اولاده الى حجرة
الطعام حيث يكتب لتضغط عليه عصبيا.. فيشطب فكرة اخرى.. ثم يأتي دور الاب
الذي لا يستطيع ان يرفض له طلبا.. فيشطب فكرتين.. ثم يأتي الدور على جاره
الذي يفهم جيدا في قانون الجنايات وقانون المطبوعات ويكون الحوار
القانوني معه بكل ما فيه من تحذيرات بالسجن فيشطب ثلاث افكار.. وبعد ان
يبذل مجهودا كبيرا في ان يكتب ما تبقى في رأسه.. ربع او خمس او سدس
فكرة.. يذهب الى الجريدة سعيدا بالانجاز.. وما ان يقدم المقال للمسؤول عن
التحرير.. حتى يجدها تعود مرة اخرى ولكن طائرة الى وجهه.. مع عبارة
اصبحت ثابتة: (والله.. انت مش حتجيبها البر) . ولانه لم يأت بها الى البر
في غالبية الاحيان فقد دخل السجن عدة مرات.. كان مجموعها خمس سنوات ونصف
السنة.. كما انه حين وجد نفسه عاطلا عن الكتابة والنشر افتتح مكتبة لبيع
الكتب في اسطنبول عام 1951 ولكن الشرطة السرية احرقتها.. ثم فتح استوديو
للتصوير بعد عام واحد. وفي قصة من قصصه يروي عن اتفاق جري بينه وبين
رفاقه الذين كانوا في السجن ان يقضوا ليلة رأس السنة في مطعم محدد.. وفي
تلك الليلة.. كان جائعا.. ولم يكن معه قرشا واحدا.. ولم يكن ما يرتديه
من ثياب يناسب البرد القارس الذي تتميز به تلك الليلة.. وتحت المطر مشي
ساعات طويلة حتى وصل الى المطعم.. وراح ينتظر الرفاق القدامى.. لكن
الانتظار طال حتى اقترب الليل من الفجر.. ولم يجد من يحنو عليه سوى عاهرة
عابرة قررت ان تأكل معه ـ رغم انها تناولت العشاء مع زبائنها ـ حتى لا
يصاب بالحرج لو هي دعته على الطعام لسد جوعه دون ان تشاركه فيه. وقد بدأ
عزيز نيسين حياته ضابطا في الجيش.. وفي وقت الدراسة العسكرية وجد نفسه
مشدودا لدراسة الفنون التشكيلية.. لكنه في النهاية لم يبرع الا في
الكتابة الساخرة التي عرفته بها الدنيا كلها. ويروى انه ذات صباح اصيب
بصدمة عاطفية حادة عندما قرأ خبر وفاة احدى نجمات السينما.. وعندما رأت
زوجته علامات الحزن على وجهه سألته في غضب: (هل تعرفها؟) .. وعندما هز
رأسه.. مشيرا الي أنه يعرفها.. اصرت زوجته على طلب الطلاق.. وغادرت البيت
تاركة له الاولاد والبنات. وعبثا حاول ان يقنعها بانه يعرفها.. لكنه.. في
الوقت نفسه لم يرها ولو مرة واحدة في حياته.. لكن الزوجة لم تفهم هذا
اللغز.. ولم تتوقف لسماع حله.. وصفعت الباب في وجهه.. وغادرت البيت. كان
ضابطا صغيرا في منطقة نائية على الحدود.. يعاني من الوحدة.. والقسوة..
والملل.. كل ما يربطه بالعالم سيارة عسكرية تأتي بالطعام لافراد
الكتيبة.. مرة كل اسبوع.. وفي احدى المرات وجد مع سائق السيارة مجلة
فنية عليها صورة هذه النجمة.. فوقع في غرامها.. ووضع صورتها بالقرب من
فراشه.. كانت اول وجه يراه في الصباح.. واخر وجه يراه قبل ان ينام.. ثم
راح يحدثها عن احلامه.. ورؤيته للناس.. ثم راح يشكو لها ما يفعله الناس
به.. ثم.. وفي لحظة جياشة بالعواطف تجرأ وخطف منها قبلة.. وعندما وجدها
تبتسم.. تمادى معها.. وظل على علاقة حميمة معها اكثر من ثلاث سنوات..
وعندما قرأ خبر وفاتها.. تذكر ايامه القديمة معها التي مر عليها اكثر من
ثلاثين سنة.. لكنه قال لنفسه بعد ان اطمئن على ان زوجته لم تعد في البيت:
(من المجنون الذي اوهمنا ان الحقيقة اجمل من الصورة .. ان امرأة في مجلة
خير من الف امرأة في البيت) .. احيانا. ونشر عزيز نيسين اول كتبه في عام
1955 وهو في الاربعين من عمره.. واشترك مع الروائي التركي المعروف كمال
طاهر في تأسيس دار نشر اطلقا عليها اسم (فكر) .. كانت تدعو الى الحرية
في مواجهة الديكتاتورية العسكرية.. والى التنوير في مواجهة التكفير..
وكان ذلك في عام 1956.. ولكن في عام 1963 احترقت دار النشر.. وبها 110
آلاف كتاب وسجلت الحكومة الحريق (ضد مجهول) . وقبل احتراق دار النشر
بأيام نشر عزيز نيسين قصة قصيرة جدا في نصف صفحة كتاب صغير الحجم اصبحت
نكتة شهيرة في العالم كله.. لقد اصطاد رجل سمكة.. فسارع بها الى زوجته
طالبا منها ان تقليها.. لكن الزوجة اعتذرت لعدم وجود زيت.. فقال الرجل
لها: اشويها.. فاعتذرت الزوجة لعدم وجود ردة.. فطلب منها ان تسلقها..
فصرخت فيه الزوجة: لا نملك غازا.. فحمل الرجل السمك وراح الى البحر
وألقاها في الماء.. فهتفت السمكة: (تعيش الحكومة) . ان هذه القصة التي
ترددت كنكتة دون ان نعرف مؤلفها الاصلي هي التي رشحت عزيز نيسين لجائزة
(القنفذ الذهبي) التي اعطيت لافضل كاتب ساخر في بلغاريا في عام 1966..
وسبق ان حصل على جائزة (بودجيرا) للكتابة الساحرة في ايطاليا مرتين.. في
عامي 1956 و1957.. وفي هذه الفترة عرفه العالم بعد ان ترجمت اعماله الى
24 لغة ونشرت كتبه في 19 بلدًا غير تركيا ومثلت مسرحياته في سبعة بلدان
أخرى. ان واحدة من مسرحياته التي شهدها العالم تدور حول فلاح بسيط كان
يدفع كل سنة رشوة لمهندس الري حتى يسمح له بالماء المطلوب لارضه.. وفي كل
سنة كان المهندس يرفع قيمة الرشوة حتى جاءت سنة وعجز الفلاح الفقير عن
دفع المطلوب منه.. فقرر ان يشكو المهندس لرئيسه.. وغضب الرئيس مما يفعله
مرؤوسه وقرر ضبطه ومحاسبته في قضية رشوة.. وبالفعل.. ما ان قدم الفلاح
للمهندس الرشوة حتى هجمت الشرطة على مكتبه.. لكن المهندس تصرف بسرعة
مذهلة واخفى الرشوة وراء صورة حاكم الاقليم التي يعلقها فوق رأسه.. وفشلت
قضية الرشوة ونجا منها.. وما ان خرجت الشرطة من مكتبه وبقي فيه وحيدا
حتى مد يده وراء صورة حاكم الاقليم ليحصل على الرشوة وهو سعيد بما فعل..
لكن ما اثار دهشته.. انه لم يجد المال الذي وضعه بنفسه منذ دقائق.. على
انه احس ان الصورة لاول مرة تبتسم في سخرية لم يلحظها من قبل. واجمل ما
كتب عزيز نيسين قصة قصيرة عن عائلة تعيش في بيت كبير.. لم تجد مانعا من
ان تؤجر حجرة منه.. ثم حجرة اخرى.. ثم حجرة ثالثة.. وهكذا.. جرى المال
في يد الاسرة.. وراحت تنفقه على أشياء لا لزوم لها.. لكن المستأجرين سرعان
ما ضجوا بالشكوى من قلة المياه.. فوافقت الاسرة على ان تقترض منهم لاصلاح
المياه.. ثم اقترضت منهم لاصلاح شبكة الصرف.. ثم اقترضت منهم لاصلاح طرقات
الحديقة.. ولانها عجزت عن السداد.. فقد سمحت بمزيد من الغرباء يدخلون
البيت ويسكنون فيه.. ثم سمحت لهم بالسيطرة على الحديقة.. ثم تركت لهم كل
البيت وسكنت فوق السطح.. ثم لم تجد مفرا من ان يعمل افرادها في خدمة
هؤلاء الغرباء.. اصبحوا خدما لهم.. وهنا صرخ الابن الكبير: ان هذا البيت
لم يعد بيتنا.. نحن الذين اصبحنا فيه غرباء.. لكن.. الاب غضب بعنف على ما
سمعه من ابنه.. وسارع بفتح خزانته السرية واخرج منها ورقة قديمة تثبت
انه ورث البيت أبا عن جد. وقد دخل عزيز نيسين السجن بعد نشر هذه القصة..
وقال المدعي العام العسكري الذي كان يحاكمه انه كان يقصد الوطن بهذا
البيت.. وابتسم عزيز نيسين ابتسامة ساخرة وقال: مادمتم بهذه الفطنة
فلماذا فتحتم ابواب وحجرات الوطن للغرباء حتى احتلونا بالديون واصبحنا
نحن الغرباء رغم سندات الملكية التي نحملها ونحن سعداء. وتوزع كتب عزيز
نيسين الآن اكثر من مليون نسخة سنويا في تركيا ومليون نسخة اخرى في باقي
دول العالم.. لكن.. الرجل الذي عاش الفقر والقهر حتى اخرج البسمة من
الظلام لم يعش ليستمتع بما يجنيه الناشرون من وراء ذلك. وقبل الرحيل كتب
عزيز نيسين الى الموت.. زائره الاخير يقول: (لا تغافلني في النوم كما يفعل
الجبناء.. وحين تأتي لا تتصرف كما يتصرف الضيوف ثقيلو الظل.. ولتكن
اقامتك عندي قصيرة.. لا تجعلني اشعر بك كدرا مزمنا.. التصق بجلدي وتسلل
في هدوء الى روحي.. تذكر انني انتظرك منذ بدأت اعي وجودي.. تعال محترما
كما يليق بزائر طال انتظاره كل هذا العدد من السنين.. لا تضطرني الى فقد
الاحترام الذي اكنه لك.. عشت حياتي مرفوع الرأس.. ناصع الجبين.. فعانقني
واقفا مرفوع الرأس حين تأتي لتأخذني.. لا تنصب كمينا.. لا تطعن في الظهر..
لنلتق واقفين كما يليق بالاصلاء.. كن سريعا ورشيقا.. يجب ان ينتهي كل شيء
في غمضة عين. انك واحد من اكثر حقائق الحياة حدة وحتمية ولا مجال معك لاي
نوع من المناورة والمداورة.. انت تعرف انني لم اشعر بالغيرة من الذين
عاصروني في حياتي كلها.. لا لأنني طيب القلب بل لانني لم ار احدا اكبر
مني.. وتعرف ايضا انني كثير الاعتزاز بما فعلت وبما خططت له ولم استطع
تحقيقه. كلانا مناضل صمد في وجه غريمه.. كلانا كافح ضد الاخر كل هذه السنين
دونما توقف.. ولعلي اشير هنا الى ان نضالي انا كان اعظم واكبر من نضالك
انت.. ذلك لانك كنت واثقا من البداية من ان النصر في النهاية سيكون مهما
حصل الى جانبك.. في حين كنت انا اعلم علم اليقين بان الهزيمة في نهاية
المطاف ستكون من نصيبي.. الم ابق مصرا على اقتحام مواقع ذاك الذي
سيهزمني كما لو كنت غير مرشح للهزيمة ابدا رغم معرفتي الاكيدة بأنني
مهزوم ولا محالة؟.. هل انتابني الخوف ولو للحظة؟.. هل فكرت في الهروب؟..
هل قدمت لك اي تنازل مهما صغر بغية ان اعيش اكثر.. بغية ان احيا حياة
افضل.. بغية ان احصل على المزيد من مفاتن هذه الدنيا الرائعة في
جمالها؟. تسألني ماذا فعلت؟.. اليك جوابي.. كيميائيو العصور الوسطى
عجزوا عن قلب الحجر الى ذهب.. اما انا فكيميائي نجحت في قلب دموعي الى
ضحكات قدمتها الى العالم.
----------------
التعليقات (0)