المجاهد, الصوفى, القسام, عزالدين
هو عز الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسام، وقد اختلف في سنة ولادته ولكن الأرجح أنه ولد في عام 1300هـ الموافق 1883م، في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية في سوريا.
والده هو عبد القادر بن محمود القسام، أحد شيوخ الطريقة القادرية وكذلك جده، وكان جده قد قدم من العراق إلى جبلة، ولذلك كان بعض مريدي القادرية بالعراق يزورون قبر جده ووالده في جبلة.
ولذلك نشا القسام في بيت متدين وذي صبغة صوفية، ولذلك ذهب للكُتاب فقرأ القرآن وتعلم القراءة والكتابة والحساب على يد والده، ثم درس في جبلة على يد الشيخ سليم طيارة والشيخ أحمد الأورادي، ولما رأى أبوه حرصه على العلم أرسله للأزهر ليزداد علماً، وهو في سن الرابعة عشرة، وكان ذلك سنة 1896م.
أما عن تسمية الأسرة بهذا الاسم، فهناك رواية ذكرتها خيريَّة القسَّام؛ حيث تقول: إن جدَّ الأسرة كان من الأولياء الصالحين، وقد ظهرت أفعى كبيرة في مراعي القرية أزعجت أهلها؛ فخرج إليها الجد وصرخ بصوت عال، فقسمها نصفين، فسمي بالقسَّام.
في الأزهر:
اختلف المؤرخون للقسام حول المدة التي قضاها في مصر، ولكنها فترة لا تقل عن سبع سنوات ولا تزيد عن عشر سنوات، ولم يذكر أحد تفاصيل حياته في مصر أو العلماء الذين التقى بهم أو أخذ عنهم، لكنه ذهب للأزهر زمن تولي الشيخ محمد عبده لمشيخته، وقيامه ببعض الإصلاحات فيه، وكانت مصر آنذاك تعيش صراعاً بين التيار الإسلامي الذي يمثله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، والعلمانيين أتباع المحتلين من أمثال فرح أنطون ولطفي السيد.
كما أن الصراع السياسي مع الاحتلال البريطاني كان على أشدّه بعد فشل ثورة أحمد عرابي سنة 1882م، وتزعّم مصطفى كامل تيار المقاومة للاحتلال
التصوف فى حياة عزالدين القسام
وصوفتيه لا تخفى على احد وقد ترجم له صاحب الأعلام الشرقية بقوله: "شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية"
والده الشيخ عبد القادر القسام من المشتغلين بالتصوف أرسل ابنه لمتابعة تعليمه العالي في الأزهر ثم عاد الابن للتدريس والوعظ في زاوية والده وقد امتاز منذ صغره بالميل إلى الانفراد والعزلة الأمر الذي سيؤثر في مستقبله وسيجعله أكثر قدرة على فهم ما يدور حوله من أحداث
انظر كتاب الأعلام الشرقية في المائة الرابعة الهجرية، زكي محمد مجاهد. دار الطباعة المصرية الحديثة 1949، ط1، ج2، ص139.
وكتاب الوعي والثورة، سميح حمودة. جمعية الدراسات العربية في القدس دار الشروق. الأردن ص25.
وانظر ماكتبه عبدالله شليفر مستشرق أمريكي مسلم له عدة دراسات منها كتاب ( سقوط القدس) وكتاب ( فكرة الجهاد في العصر الحديث   وقد نشر بحثا بعنوان ( الشيخعزالدين القسام : حياته وفكره 9 قال في بحثه :
في 21 تشرين الثاني نوفمبر 1935 نشرت صحيفة جيروزلم بوست علي ثلاثة أعمدة في صدر صفحتها الأولي نبأ اصطدام رجال الشرطة البريطانيين بمسلح عرب بجوار (جنيين ) واصفة المسلحين برجال العصابات وقطاع الطرق ذاكرة ان الشيخ عزالدين القسام كان بين القتلي ناعتة إياه بمنظم العصابة غير أن دوائر الاستخبارات البريطانية والصهيونية أعلم بالحقيقة فهي تعرف أن الشيخ عزالدين القسام رئيس لجمعية الشبان المسلمين وخطيب واسع الشعبية في جامع الاستقلال بجوار محطة حيفا الحديدية وماذون في محكمة حيفا الشرعية ثم إنه كان تحت المراقبة وقد استدعي للتحقيق معه ووجه إليه التحذير من الدعوة العلنية للجهاد ضد الاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني خلال العقد المنصرم ثم إنه كان متهما بتنظيم سلسلة من الهجمات المسلحة السرية علي المستوطنيين اليهود والموظفين البريطانيين في حيفا وجوارها ابتداء من اوائل الثلاثينيات .. وانتقل إلي جبال بجار ( يعبد ) بين نابلس وجنيين في أوائل تشرين الثاني نوفمبر وبعد مقتل شرطي يهودي عامل في القوات البريطانية طوقت مجموعة عزالدين القسام بقوة كبيرة من الشرطة والجيش البريطاني ودعيت للاستسلام غير أنعزالدين القسام دعا رجاله للمقاومة والاستشهاد وفتح النار علي القوة التي كانت تطوقه وقد الهب تحديه والطريقة التي استشهد به حماس الشعب الفلسطيني.. وبعد خمسة اشهر استطاعت مجموعة من المجاهدين بقيادة أحد رفاق عزالدين القسام أن تنصب كمينا لمجموعة من اليهود في شمال فلسطين وفي الاسابيع اللاحقة نشأت في مختلف أنحاء فلسطين مجموعات من الفدائيين في القري والمدن بقيادة أخرين من انصار عزالدين القسام وبذلك بدأت ثورة عام 1936م
أدرك شيخنا أهمية التصوف، وأنه لا بد من شيخ له قدم راسخة في الحياة الروحية، فوجد ضالَّته ومبتغاه في أقرب الناس إليه، وهو والده، فسلك على يديه طريق التربية الروحية، بِهَمَّة عالية لا تلين، وإقبال علىٰ الله شديد، وقد امتاز القسَّام منذ صغره بالميل إلىٰ الانفراد والعزلة، وهو الأمر الذي أثر في مستقبله، وجعله أكثر قدرة علىٰ فهم ما يدور حوله من أحداث.
وبعد وفاة والده، قام مقامه، وأصبح - كما يترجم له صاحب «الأعلام الشرقية»: «شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية».
عَلاقته بالتجانية:لقد كان للشيخ عزِّ الدين القسَّام عَلاقات وطيدة مع علماء الطريقة التجانية بالجزائر، وخاصَّة منطقة الجنوب، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ محمد بن عبد المالك بن العلم السائحي، الذي كان له الفضل في تعريف عز الدين بدار سيدي أحمد التجاني، وكان له الفضل أيضًا في تعريف أهل المشرق كالسيد أحمد الدارسي مقدم القدس، والعلَّامة علي الدقر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عز الدين القسَّام قد انفرد بتنظيم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في حيفا، علىٰ نحو خاصٍّ في إقامة الزينات.
ولعلنا نستخلص رأيه في الاجتماع علىٰ إنشاد الأشعار والمدائح النبوية، عندما ذكر- رحمه الله - جواب العلَّامة ابن حجر في هذه المسألة: «إذا كان فيه تشويق للتأسّي بأحوال الصالحين، والخروج عن النفس ورعونتها وحظوظها، والجدّ في التحلي بمراقبة الحق في كل نَفَس، ثم الانتقال في شهوده في كل ذرَّة من ذرّات الوجود، فكل المنشدين والسامعين مأجورون مثابون، إن صلحت نيّاتُهم، وصفت سرائرُهم، وأما إن كان بخلاف ذلك، فهم عاصون آثمون».
إخلاص العقيدة لله واتباع السنة النبوية:
أخذ عز الدين ثقافته الإسلامية من القرآن والسنة الصحيحة ونهل من السيرة النبوية المشتملة على بيان شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، التي يكون للمسلمين بها أسوة حسنة، ودرس سِيَر الصحابة، وعرف أسباب التغيرات التي طرأت على سلوكهم في الإسلام فصدر بعد كل هذا عن عقيدة سلفية لم تتأثر بمذهب قديم أو اتجاه حديث.
فكان همه الأول تخليص الدين من الشوائب وإخلاص العقيدة لله وحده، لأن العقيدة الخالصة لله هي مصدر القوة، فنبَّه الناس برفق، وقد يعنف إذا واجه المعاندين، ففي سبيل إخلاص العقيدة لله وحده، وطلب العون منه حارب القسَّام حَجَّ النساءِ إلى (مقام الخضر) على سفوح جبل الكرمل لذبح الأضاحي شكرًا على شفاء من مرض، أو نجاح في مدرسة وكنَّ - بعد تقديم الأضحية - يرقصن حول المقام الموهوم فدعا القسَّام الناس إلى أن يتوجهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله تعالى فقط؛ لأنه – وحده - القادر على النفع والضر وأما أصحاب القبور فلا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فكيف ينفعون الآخرين؟!
وفي سبيل الاستفادة من السيرة النبوية، أنكر القسَّام قراءة المولد النبوي بالغناء والتمطيط والمبالغة بتوقيعه على ألحان الموسيقى، والاكتفاء بسيرة الولادة فقط، مع ما أُدخل فيها من الأمور التي لم تثبت، ودعا إلى العناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، أحوالِه وشمائلِه، والسنة العملية من سيرته لتكون نبراسًا يستضيء به المسلمون.
دراسته للواقع ووصفه للعلاج:
وقد أثرت شخصية القسَّام الجريئة في خطبه وأحاديثه فكانت تتناول الحال السائدة والتغيرات السياسية وهذا مما أغضب الإنجليز؛ لأنه فاجأهم بعرض جديد للدين لم يكونوا يظنون أن أحدًا يعرفه، أو يجرؤ على قوله؛ فالإنجليز لا يعترضون على أداء المسلمين شعائر العبادات في المساجد، ولكنهم فوجئوا بنوعية من الرجال تعرض الإسلام بصورته الشاملة، وتهتم بقضايا المجتمع، وتبرز السياسة الإسلامية في الجهاد؛ ولذلك اهتز الإنجليز لأنهم أصبحوا يواجهون الإسلام بشكل غير الذي أرادوه - مقصورًا على العبادات.
فدعوة القسَّام كانت إحياءً لإسلام الصحابة الفاتحين وعُبَّاده المجاهدين، وهو ما يخشاه الاستعمار البريطاني؛ فلم يكن غريبًا أن يوضع القسَّام تحت المراقبة وأن تحصى عليه حركاته ويُحاسَب على أقواله.
المثل التربوية في سيرته:
كان عزُّ الدين القسَّام أمةً وحده في وقته، يعطي ما لا يستطيع الآخرون، ويقصده الناس لأخذ ما لا يجدونه عند الآخرين.
وجمع الله في شخص عزِّ الدين مواهب شتى؛ فكان معلِّمًا مؤثرًا وعسكريًّا مدربًا، واقتصاديًّا مدبرًا وسياسيًّا محنكًا؛ وأثبت الإحصاء أن هذه القدرات المتفوقة كان لها تطبيق في أرض الواقع، وكان هو القائم بها وحده في بداية الدعوة، فلم يُعرف من أصحاب القسَّام - في بداية الطريق أو في وسطها - من تخرجوا في المعاهد العليا أو الجامعات، وكان جُلُّ أتباعِه من العمَّال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقَّفهم في المسجد وفي البيت والحفلات العامة، وجعلهم أكفاء للمهمَّات الجهادية.
جهوده العملية في خدمة الدين:
أولًا: الشيخ عزُّ الدين القسَّام معلمًا:
عمل الشيخ عز الدين القسَّام مدرسًا ومحفظًا للقرآن الكريم في بلدته مكانَ والده.
بعد أشهر من قدومه إلى حيفا عمل مدرسًا أوائل عام 1921 أو سنة 1922 في مدرسة (الإناث الإسلامية) أولًا، وفي مدرسة (البرج الإسلامية) ثانيًا، وهاتان المدرستان تشرف عليهما الجمعية الإسلامية في حيفا.
وخلال هذه الفترة حرص القسَّام على التوجيه المهني للطلاب؛ فوجه الطلاب إلى ما يناسب قدراتهم التي وهبهم الله ويسأل التلاميذ عن أمنياتهم المستقبلية، ويفتح أمامهم آفاق المستقبل ليختار الطالب ما يوافق ميوله.
ثانيًا: الإمامة والخطابة والتوجيه والإرشاد:
في بلدته عمل إمامًا لمسجد إبراهيم بن أدهم.
ثم كان إمامًا لأربعة مساجد جامعة في حيفا:
عمل أيضًا في الفترة التي توجه فيها إلى فلسطين مأذونًا.
جمعية الشبان المسلمين:
ترأس الشيخ عزُّ الدين القسَّام جمعية الشبان المسلمين والتي أنشئت سنة 1928م.
فقد جرت انتخابات جمعيات الشبان المسلمين في المدن، وفاز في حيفا برئاسة الجمعية الشيخ عزُّ الدين القسَّام.
وترأس الجمعية أيضًا بعد الانتخابات التي جرت سنة 1930م وفي سنة 1932م كان القسَّام ممثلًا لجمعية حيفا في مؤتمر الجمعيات الرابع المنعقد في عكا، وانتخب يومها القسَّام رئيسًا مؤقتًا للمؤتمر بوصفه أكبر الأعضاء سنًّا، وبعد مداولات الحاضرين اتخذ المؤتمر القرارات التالية:
- محاربة التنصير.
- الدعوة إلى تدريس أبناء المسلمين في المدارس العربية وتجنيبهم المدارس التنصيرية.
- نشر الوعظ الديني والتعليم في القرى وفي جمعيات الشبان المسلمين.
- إصدار منشور يناشد (المعارضين) بأن يتخلوا عن الحزبية والعصبية القبلية وأن يتَّحِدوا من أجل مصلحة الأمة، ومن خلال عمله في جمعيات الشبان المسلمين استطاع القسَّام أن يوجه عشرات من الشبان للتخلص من ربقة الفساد والضياع والانخراط في العمل الجاد المثمر لبناء النفس والوطن، وهكذا، فإن القسَّام قد حقَّق هدفه من رئاسة الجمعية، ومن عضوية لجنتها القيادية وكان نشاطه في الجمعية إعدادًا وتحضيرًا ليوم الجهاد.
الجهاد في حياة الشهيد:
أقام الشيخ المجاهد في مصر فترة تلقى خلالها تعليمه؛ والذي يظهر أن الشيخ تأثر بالحركات السياسيَّة التي كانت موجودة آنذاك لمقاومة الاحتلال الإنجليزي.
فالأزهر منذ القدم معقل العلماء والمعايير المنضبطة لاستقامة الحياة، وما وقوفه في وجه الغزو الفرنسي ببعيد، وهيأت مصر- التي كانت آنذاك مصب التيارات الفكرية المتعددة داخل الشرق الإسلامي - فرصة لتوعية الشاب القروي عزِّ الدين وتنويره بما يدور في العالم من صراع.
ففي الفترة التي درس فيها عزُّ الدين القسَّام في مصر - وهي ما بين 1896م إلى 1904م - كانت الحياة السياسية في أوجِّها، فقد شهد الأزهر في هذه المرحلة حملة التجديد التي قادها الشيخ محمد عبده، وقد مايز الشيخ محمد عبده بين الإسلام وبين الاستسلام، فأكد أن من أسباب حفظ الأمة عدم الاعتماد على الأجنبي، وأن من سمات الأمة الصالحة ألا تقبل الأمراء والحكام الفاسدين الظالمين. ثم كان بعد ذلك أن تقدم الزعامة السياسية الشعبية في مصر الزعيم مصطفى كامل لمقاومة الاحتلال، وكان يعتمد على المناظرات السلمية والخطب والمؤتمرات والندوات والمقالات والأشعار.
فأثرت هذه الفترة التي عاشها الشيخ القسَّام مع أستاذه الشيخ محمد عبده من الناحية الفكرية، وكذلك أيضا أثرت من حيث الناحية السياسية، فقد سبق هذه الفترة هزيمة عرابي في معركة التل الكبير، وتبعها تجربة الزعيم مصطفى كامل، أحد الأصوات الثورية في تاريخ مصر.
هكذا عرف الإمام المجاهد في مصر الاستعمارَ الغربي وجهًا لوجه، ورأى هجوم المفكرين المتغربين على الإسلام فكرًا وحضارةً وتاريخًا، وفيها عرف عن الحركة الصهيونية وليدة الاحتلال الغربي وربيبته، وسمع عن تطلعها وأطماعها بفلسطين.
بدأ الجهاد في حياة الشيخ فور قيام الإيطاليين بمحاصرة ليبيا عام 1911م، حيث قاد الشيخالمجاهد مظاهرة طافت شوارع البلدة وهي تهتف «يا رحيم يا رحمن، غرق أسطول الطليان»، ثم انتقل الأسطول من المحاصرة إلى الاحتلال، فانتقل القسَّام من المظاهرات إلى التطوع القتالي، وانتقى 250 متطوعًا، وقام بحملة تبرعات كي يؤمِّن معاش هؤلاء الرجال وعائلاتهم، واتصل بالسلطات العثمانية، فأبدت ترحيبًا حارًّا، وطلبت من هؤلاء المتطوعين السفر إلى الإسكندرية، كي يستقلوا باخرة إلى طرابلس الغرب، وبعد أن وصلوا إلى إسكندرونة، انتظروا فيها أربعين يومًا دون جدوى، ثم تلقوا الأمر من السلطات بالعودة إلى بلدهم ، فبنوا مدرسة بمال التبرعات لتعليم الأُميين.
وفي هذا دلالة على أن الشيخ القسَّام اعتبر محاربة الجهل وتعليم المسلمين من الجهاد في سبيل الله، يصرف عليه من الأموال المخصصة للجهاد، وهذا ما يعكس وعي القسَّام وفهمه العميق لرسالة الإسلام.
ولما احتل الفرنسيون ساحل سوريا، قاومهم بشدة، ونادىٰ في تلامذته ومريديه: بأن الجهاد أصبح واجبًا.
وخلال هذه الفترة حاولت فرنسا أن تقنع القسَّام بترك الثورة والرجوع إلى بيته، فأرسلت إليه زوج خالته ليقنعه بذلك على أن توليه فرنسا القضاء وأن تجزل له العطاء، فرفض الشيخ عز الدين القسَّام؛ فأصدرت السلطات الفرنسية عليه حكم الإعدام، فبقي متخفِّيًا فترة من الزمن.
وخلال الحرب العالمية الأولىٰ، كان القسَّام قد وثّق صلاته بمشايخ الجبل وكل الوطنيين في الساحل السوري وفي الداخل، وأبرزهم المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي ت 1950م.
وعندما نادى المنادي في أرجاء اللاذقية أن يا خيل الله اركبي، كان القسَّام أول من لبى وأجاب، فتقلد السلاح جنديًّا في خدمة الإسلام، وكان معه طائفة من مريديه وأتباعه الذين علمهم وهذبهم.
بقي الشيخ يجاهد ضد الفرنسيين في سوريا مع من تبقى من أتباعه مدة لا تقل عن سنة، استفاد خلالها من التجارب التي خاضتها الثورة، فكانت بتنوع تجاربها وتحالفها مدرسة تربى في قلبها الشيخ عزُّ الدين القسَّام، وعرف كيف يُحوِّل الفلاحين إلى مجاهدين ليواجهوا الجيوش المدربة أحدث تدريب، يتحدونها بإرادتهم الصلبة وعقيدتهم التي لا تلين.
وقد كان القسَّام يمزج وعظه الديني بأحاديث ومأثورات، تبين المكانة العظمىٰ للشهيد في الجنة، وكذلك فإن الجهاد بالمال لا يقل أهمية عن الجهاد بالنفس.
الانتقال إلى فلسطين وقيام الثورة المسلحة:
التجأ القسَّام مع ستة من رفاقه إلى فلسطين حيث وصل إلى (حيفا) أواخر صيف 1921 ثم لحقت به أسرته بعد حين وكان وصوله إلى فلسطين إيذانًا ببداية مرحلة جديدة ومجيدة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد قوات الانتداب البريطاني، وقطعان اليهود التي جاءت تغتصب الأرض، وتقيم وطنها القومي الذي وعدهم به بلفور، وزير خارجية بريطانيا، على حساب عرب فلسطين.
آمن القسَّام مستفيدًا من دروس النضال التي عاشها، بأن الثورة المسلحة هي وحدها القادرة على إنهاء الانتداب، والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين، ومن الطبيعي أن تحتاج الثورة المسلحة إلى تخطيط سياسي وعسكري، وإلى تعبئة الجماهير نفسيًّا لتأييد الثورة والاشتراك فيها، وإلى تنظيم سرِّيٍّ ثوري يُربى فيه المقاتلون عسكريًّا وسياسيًّا.
كان أمة وحده
كان عزُّ الدين القسَّام أمةً وحده في وقته، يعطي ما لا يستطيع الآخرون، ويقصده الناس لأخذ ما لا يجدونه عند الآخرين.
وجمع الله في شخص عزِّ الدين مواهب شتى؛ فكان معلِّمًا مؤثرًا وعسكريًّا مدربًا، واقتصاديًّا مدبرًا وسياسيًّا محنكًا؛ وأثبت الإحصاء أن هذه القدرات المتفوقة كان لها تطبيق في أرض الواقع، وكان هو القائم بها وحده في بداية الدعوة، فلم يُعرف من أصحاب القسَّام - في بداية الطريق أو في وسطها - من تخرجوا في المعاهد العليا أو الجامعات، وكان جُلُّ أتباعِه من العمَّال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقَّفهم في المسجد وفي البيت والحفلات العامة، وجعلهم أكفاء للمهمَّات الجهادية.
وفاته:
في صباح يوم 19 تشرين الثاني زحفت قوات البوليس الإنجليزي إلى جبال جنين، وطوقت منذ طلوع الفجر قرى: يعبد، واليامون، وبرقين، وكفر دان، وفقوعة، وكان الشيخ القسَّام مع أحد عشر مناضلًا في أحراش قرية (يعبد) في خربة الطرم في الجهة الشمالية الشرقية من (يعبد).
عرفت القوات الإنجليزية أنَّ الشيخ القسَّام هو قائد الثورة، وأنه يقيم في أحراش (يعبد)، فأرسلت إليه خمسمائة جندي، وفرضت عليه طوقًا بحيث لا يمكنه الانسحاب، كما لا يمكن للنجدات أن تصل إليه.
«وحين طُلب منه أن يستسلم؛ أجاب: إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل اللّه؛ والتفت إلى زملائه قائلًا: موتوا شهداء».
ودارت معركة بين قوتين غير متكافئتين بالعدد والعدة، وكان كل مجاهد يقاتل أربعين جنديًّا، ونشبت المعركة في الفجر، واستمرت حتى الظهر، فانتهت بموت قائد الثورة الشيخ عزِّ الدين القسَّام، والشيخ محمد الحنفي أحمد، رفيق جهاده في سوريا، والشيخ يوسف الزيباوي، كما جرح جميع إخوانه.
ووقع في الأسر الجرحى من المناضلين، وهم: أحمد جابر، وعرابي البدوي، ومحمد يوسف، وتمكن الآخرون من الإفلات من طوق الجنود، وقد قتل من الإنجليز عدد كبير، إلا أن البلاغ الرسمي لم يعترف إلا بمقتل ثلاثة جنود.
ثم أصدرت السلطات البريطانية بلاغًا نعتت فيه القسَّام وصحبه بالأشقياء، وجرت بعد ذلك محاكمات تاريخية للأسرى من الجرحى وغير الجرحى.
وبذلك تمكن الإنجليز من القضاء على قائد الثورة وعدد من إخوانه الأبرار، وفشلت الخطة المقررة لاحتلال دوائر الحكومة في حيفا، والاستيلاء على الأسلحة التي ستسلم إلى المجاهدين للقيام بأعمال ثورية واسعة، لمنع إقامة دولة يهودية في أي جزء من أرض فلسطين.
وبعد استشهاد العالم القائد المجاهد الشيخ عز الدين القسَّام واثنين من إخوانه الأبرار في ساحات الشرف والكرامة، واعتقال خمسة منهم، اضطر الآخرون إلى الاختفاء في الجبال لإتمام رسالة القسَّام الثورية المقدسة في الوقت المناسب.
ولقد أكرم سكانُ مدينة حيفا البواسل الشهداءَ الأبرار، وتحدَّوا السلطات الغاشمة، وجرت جنازة مهيبة، اشترك فيها عشرات الألوف من أبناء الشعب، وجرت مظاهرات وطنية أثناء تشييع جنازة الشهداء، حيث هاجم أبناء الشعب الثائر دوائر البوليس، والدوريات الإنجليزية بالحجارة.
ونشرت تلك المظاهرات وعيًا في صفوف الشعب الفلسطيني العربي المسلم، وأخذ كل فرد يفكر بالثورة المسلحة على الظلم والطغيان، وأخذ إخوان القسَّام من العلماء يحرضون الشعب على القتال، وكان للعالم الشيخ كامل القصَّاب وزملائه دورًا بارزًا في استلام زمام المبادرة بعد القسَّام.
وسار موكب الجنازة مجللًا بالأعلام العربية، حيث صُلي على الشهداء في المسجد الكبير، وشُيِّع القسَّام إلى قبره في قرية (الياجور) التي تبعد عن (حيفا) نحو عشرة كيلومترات، سارها المشيعون على الأقدام حاملين نعشه - رحمه الله.
وبذلك يكون المجاهد الشيخ عز الدين القسَّام أول من عمل عملاً مركزًا للثورة، وترك للأمة عشرات المخلصين قاموا بالدور الرئيسي البارز بالثورة الكبرى التي اندلعت في (15) نيسان سنة 1936.
وقد أزعج القسَّام السلطة المنتدبة حتى بعد موته، فقد استدعى مدير المطبوعات أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها، وحظر عليهم كتابة شيء عن القسَّام، وهدد بمحاكمتهم وتعطيل صحفهم.
وبموت الشيخ القسَّام انطوت صفحة مجيدة من صفحات البطولة والتنظيم والتخطيط الإسلامي في معارك فلسطين، إلا أن ثورة القسَّام لم تمت بموته، بل بقيت منارة لأحرار فلسطين يؤمنون بأنه لا حياة لهم ولا كرامة بدون السير على خط ونهج القسَّام، الذي عمل على نهج النبي صلى الله عليه وسلم.
المراجع:
كتاب الأعلام الشرقية في المائة الرابعة الهجرية، زكي محمد مجاهد. دار الطباعة المصرية الحديثة 1949، ط1، ج2، ص139.
كتاب الوعي والثورة، سميح حمودة. جمعية الدراسات العربية في القدس دار الشروق. الأردن ص25.
انظر ماكتبه عبدالله شليفر مستشرق أمريكي مسلم له عدة دراسات منها كتاب ( سقوط القدس) وكتاب ( فكرة الجهاد في العصر الحديث   وقد نشر بحثا بعنوان ( الشيخ عزالدين القسام : حياته وفكره 9 قال في بحثه :
في 21 تشرين الثاني نوفمبر 1935 نشرت صحيفة جيروزلم بوست علي ثلاثة أعمدة في صدر صفحتها الأولي
قالوا عنه:
1- ميمنة بنت عزِّ الدين القسَّام:
«الحمد لله، ثم الحمد لله الذي شرفني باستشهاد أبي وأعزني بموته، ولم يذلني بهوان وطني واستسلام أمتي».
2- أكرم زعيتير:
«ليس لنا من سبيل إلى الخلاص إلا الجهاد الدامي وقد فتح فقيدُنا القسَّام الباب فلنلجه وإنا لفاعلون».
3- الدكتور أمين رويحة:
«لقد أحيا القسَّام وإخوانه في نفوسنا الأمل بعد أن كدنا نفقده وليتني علمت بعصابتهم لكنت – والله – أولَ من ينضم إليه؛ فهذا - والله - سبيل الخلاص وحده».
4- جمال الحسيني:
«القسَّام القسَّام ... اسم سوف يبقى في فلسطين، يتردد في أجوائها، فيوقع الرعب في قلوب الذين يسيطرون عليها بحرابهم، ويُتلى في صفحات تاريخها الخالدة فيملأ نفس القارئ إكبارًا وإعجابًا».
الثورة والوعي- دراسة في جهاد وحياة الشهيد عز الدين القسَّام: سميح حمودة.
عز الدين القسَّام: علي حسين خلف.
شهادة العصر والتاريخ: أنور الجندي.
عز الدين القسام- رواية تاريخية: عاصم الجندي.
الرائد الأول للجهاد في فلسطين عز الدين القسَّام: جمال غريسي.
التعليقات (0)