وإنما أولادنا بيننــا أكبادنا تمشي على الأرض
إذا هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني على الغمض
مات طفل صغير لأبي الحسن التهامي ففجع فيه ورثاه بقصيدة جعلت من عيون أدب الرثاء .مست أبياتها قلوب الناس فأدمتها وصارت حكمةً وموعظةً يتواعظون ويتصبرون بها على مصائبهم خاصة إذا ما كانت في صغار الأبناء فقال فيها :
حكمُ المنيةِ في البريةِ جــــــــاري .........ما هذه الدنيا بدارِ قَــــــــــرارِ
بينا يُرى الإنسانُ فيها مُـخــبـِـــــرا............حتى يُرى خبرا من الأخبـــارِ
يؤكد التهامي أن الموت حكمُ ماضٍ في دنيا زائلة لا استقرار ولا بقاء فيها والإنسان فيها يراه الناس يحمل خبراً أو نعياً ثم ما يلبث أن يكون خبره أو نعيه هو تتناقله ألسنة الناس
ثم ينتقل مناجياً صغيره الفقيد :
ولــدُ المعـزّى بعضُـه فإذا مضى بعضُ الفتى فالكـل في الآثار
أشكو بعـادكَ لي وأنت بموضـــعٍ لولا الردى لسمعت في سراري
فالشــــرقُ نحو الغربِ أقرب شقة من بعد تلك الخمــسة الأشبارِ
يناجي صغيره الذي طواه الردى والذي بمضيه وذهابه يمضي ويذهب كل شيء في إثره ويشكو بعاده عنه الذي لولا الموت لسمع مناجاة قلبه ونفسه . ويقيس الأب الشفوق المكلوم المسافة التي ضربها الموت بينه وبين صغيره فيعتبر أن قطع المسافة بين أقصى الشرق وأقصى الغرب لهي أقرب في مشقتها عليه من المسافة التي تفصله عن قبر ابنه وفلذة كبده والتي لا تزيد عن خمسة أشبار أي متر واحد !!!! ثم يمضي:
فالعيش نوم والـــمنــية يــقــظــة......والمرء بينهما خــيــال ساري
والنفس إن رضيت بذلك أو أبـــت..........منــقــادة بأزمة الــأقـــــدار
فاقضــوا مآربكـم عجـــالآً إنما أعمــــاركم ســفر من الأســــفار
وتراكــضوا خيل الشـــباب وبادروا.......أن تسترد فــإنـهــن عــــواري
وهنا بيت الحكمة التي انتهى إليها الأب المكلوم . فحياة الإنسان ما هي إلا سنة من النوم يوقظه الموت منها والإنسان بين حياته ومماته كمثل الخيال الذي يسري ماراً دون أن أو بالكاد يلحظه أحد ..ولا حيلة للإنسان شاء أم أبى ..فقيادهُ مسلم إلى يد الأقدار 0ويصور التهامي أعمار الناس وكأنها صفحات كتاب تطوى على عجل لذا يحثهم على الإسراع بتحقيق آمالهم وقت شبابهم وعنفوانهم قبل انقضاء الأجل
ثم يقول مناجيا صغيره الفقيد :
يا كوكبا مــا كــان أقــصر عـــمره.......وكذاك عـــمر كـواكب الأسحار
عجل الخسوف عليه قبل أوانه.............فمـــحاه قــبل مــظــنة الإبدار
فكــأن قلـــبي قبــره وكأنه ...............في طيـــه ســر مـــن الأســــرار
هكذا ينفطر القلب لمرأى مناجاة التهامي المكلوم لابنه الفقيد .. حين صوره بالكوكب الذي لمع وانطفأ فجأة أو القمر الذي جاء عليه الخسوف في مستهله و قبل أن تكتمل استدارته فاختفى من حيث ظن أنه سيطلع بدرأ
فكان مدفنه في قلب أبيه في قرار مكين لا يصل إليه أحد قبل أن يكون مدفنه في التراب:
ثم يستطرد
فإذا نطقـــت فأنــت أول منــطقي وإذا سكــت فأنــت في إضــماري
ثم يختتم :
أبكــيه ثم أقــول معتــذراُ له وفقــت حــين تركـت ألـأم دار
جاورت أعدائـــي وجاور وربـه شتـــــان بين جـواره وجواري
وبما أن الموت كأس وكلُ الناس شاربهُ فإنه حينما يأتي فإنه يترك بصمة الحزن في القلوب لفاجعة الفراق وألمه.. وقد وصف الله تعالى الموت بالمصيبة.. ولكنه بشر الصابرين الذين إذا جاء أجلهم قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
والشعب المصري طوال تاريخه وهو يميل إلى مجاورة الحزن والتفاعل معه أكثر من ميله إلى الفرح والسرور تجد ذلك في اهتمامه منذ فجر تاريخه بكل ما يخص الموت والحساب والآخرة ..وهو شعب له خاصية فريدة متفردة ..وهي أنه حين المصيبة تتفاطر قلوب أبنائه بلا تمييز ..يتشاركون المصاب وكأنه مصاب كل واحد منهم وكل بيت فيهم ..وينسون ساعتها أي شيء وكل شيء يكون قد علق بقلوبهم من ضيق أو غضب أو تبرم ..بل يطردونه ويحلون مكان مساحته أحزانهم وآلامهم في مصابهم ..
وهذا بالضبط ما حدث بالأمس حين جرى حكم المنية واختطت يد الردى كلمة النهاية في حياة طفل برئ وزهرة من زهور مصر وسنبلة من سنابلها وروح من أرواح أطفالها وفلذة من فلذات أكبادها .. بكى الشعب وبكت مصر واتشحت القلوب بالسواد لوفاة هذا الطفل البريء وانكسار عود هذه السنبلة قبل أن يشتد ويثمر ..تناسى الشعب همومه وقضاياه وارتفع بعظمته فوق خلافاته السياسية وقضاياه اليومية وضيق العيش وضيق ذات اليد وضيق الحال ..
والتحم ببعضه البعض حتى لا تكاد تميز الفقير من الغني ولا الطيب من الشرير ولا الظالم من المظلوم ولا المسيحي من المسلم ..
كلهم مصر.. والذي مات طفلهم ..طفل كل منهم ..
هذه عبقرية هذا الشعب العصية على التشرذم ..الأبية على التفرق ..
يقول قائل ..أوليس الذي قضى نحبه حفيد رئيس مصر؟ بلى ..
أوليس الذي مات ابن ابن رئيس مصر ؟ بلى ..أوليس ابن النظام المصري؟ بلي..
إذاً فهذا هو الرياء والنفاق والمصانعة 00ففي مصر يموت الآلاف ولا يسمع أحد لكم صوتأ وفي مصر يقتل ويسجن الآلاف ولا يسمع لكم حساً !! وفي مصر تجأرون بالشكوى من نظامكم ورجالات حكمكم وتتمنون لهم الموت ليل نهار !!! فماذا تغير إذاً ؟؟
ألمجرد أنه ابن ابن رئيسكم وليس ابن الشعب المطحون تتباكون ؟؟
أقول :
أنت لا تعرف مصر .. ولا تعرف شعب مصر . ولا تعرف سره الدفين . ولا عظمته . ولا عبقريته . ولا جلاله ولا سموه فوق كل الصغائر .. إنه شعب يفرقه كل شيء ..نعم .. ولكن تجمعه أحزانه ودموعه ومصائبه وكوارثه ..
فإذا ما حل به شيء من ذلك فإنه يصير في مجموعه عيناً تدمع.. وقلباً يخشع.. ونفساً تجزع.. وروحاً تهلع .. وجسداً يصدع ..لا يفرق بين أحد من أبنائه فقيرا أو خفيرأ أو وزيرأ أو رئيساً أو عاطلاً أو سقيماً أو سليمأ قبطيأ كان أو مسلماً ..
فهو شعب يتعاطف بسرعة البرق مع الضعيف في مواجهة القوي ومع ذات القوي إذا صابه الضعف أو ضربه الوهن .. وهو شعب يناصر المظلوم في مواجهة الظالم .. وينقلب إلى جوار الظالم إذا مسته عاديات الأيام ...هو بالمجمل شعب يدور مع الحزن أنى دار ويتبعه أنى ارتحل ..
لذلك انفطرت قلوب الأمهات وتفتتت أكباد الآباء وانسالت أدمع الأطفال تأثرأ ومشاركة وحزنأ ومواساة مع الأب المكلوم وهو يحمل نعش ابنه ....
يا الله ... يا الله ..
اللهم لا تكتبها علينا ولا على أحد من عبادك ..
هل جرب أحدكم حمل نعش ولده ابن الاثني عشر ربيعا ؟؟ هل جرب هذه اللحظة الرهيبة ؟
ربنا أفرغ علينا صبرأ وثبت أقدامنا يارب ... ولا نقول إلا ما يرضي ربنا .. إنا لله وإنا إليه راجعون ...
فالعزاء منا لأهله.. والعزاء لنا فيه فنحن أهله... والعزاء فينا فنحن منه وهو منا .. شاء من شاء وأبى من أبى..
أما والله ما كنت لأكتب ما كتبت إلا بعد أن هالني وأفزعني قيء خنزير من خنازير المهجر وإفراز من قيح البشر بث رسالة شماتة من وكر عفنه ونتنه ... أي وربي رسالة شماتة !!!
يشمت في موت طفل بريء ... يشمت في انكسار عود طري !!!!!!!!!
يشمت في قطف زهرة بيد الموت قبل أن تتفتح ؟ يشمت في روح لا ذنب لها ولا وزر إلا أنها جاءت في زمنٍ ذلك الخنزير من أهله !!!
يشمت بما لا يجرؤ إبليس أن يبوح به في تلك اللحظة الإنسانية التي لا فرق فيها بين مسلم ومسيحي ويهودي وسيخي وبوذي ومجوسي وعابد البقر والحجر والبشر ..
قال أن ربه اقتص له واستجاب لدعائه انتقاما من الرئيس الذي قام بذبح خنازيره فذبح الله حفيده جزاء له ؟؟ قيح شماتته وصديد فرحه بموت الصغير أصاب كل من شم نتانته بأكثر مما أصابته فاجعة الموت ؟؟
ليس هذا والله بمصري ولا بمسيحي ولا بإنسان أصلاً .. فالمسيح عليه وعلى نبينا السلام ضمن أسمائه " المعزي" .. المسيح والمسيحية ليس لهما من اسم ولا صفة إلا التسامح والعفو وطلب الرحمة والصفح والدعاء للمسيء لا الدعاء عليه !!! ومن أسف أن هذا الخنزير مصري اسمأ !! واسمه الذي سألوث به يدي سأذكره .. سأذكره لكي لا أنسى أن في الدنيا من هم أبشع من الشياطين وأحقر من الخنازير !!! اسمه موريس صادق
إقرأ قيح شماتته وصديد دناءته ووسخ نتانته في هذا الرابط :
http://www.elbashayer.com/?page=viewn&nid=50936
أما نحن ... نحن المصريون .. المصريون .. مسيحيونا و مسلمونا .. صغارنا وكبارنا .. فقراؤنا وأغنياؤنا .. مرضانا وأصحاؤنا .. أحزابنا ونقاباتنا .. فرقاء وخصومأ وأعداءً وحلفاءً .. نعزي أنفسنا قبل أن نعزي أهل هذه الروح الطاهرة التي صعدت إلى بارئها تشكو إلى رب العباد ظلم العباد الذين شمتوا بموتها وفرحوا برحيلها وهي لا ذنب لها ولا جريرة .. تشكو إلى رب البشر ظلم البشر .. الخنازير منهم خاصة ...
وأقول للزهرة البريئة تغمدها الله بواسع رحمته وألهم قلب أبويها وأهلها الصبر والسلوان ما قاله التهامي في رثاء ولده الصغير :
أبكــيه ثم أقــول معتــذراُ له وفقــت حــين تركـت ألـأم دار
جاورت أعدائـــي وجاور وربـه شتـــــان بين جـواره وجواري 00
التعليقات (0)