مواضيع اليوم

عروسي النائمة على الضفة اليمنى

عمادالدين رائف

2009-06-30 13:56:02

0

بعد أن يصدر قطار "الدون الهادئ" الواصل من الشمال صوته المعهود، صرير طويل يتحول إلى أزيز معادن، إلى محطة المدينة؛ تكون قد شاهدت في تلك اللحظة من لحظات فجر الصيف صفحة النهر الفضية إلى يسارك. نهر الدون، الذي أعطى القطار اسمه، وقبلها أعطى رواية ميخائيل شولوخوف الاسم والمعنى وسحر الكلمة... وجائزة نوبل للآداب. ألف من الكيلومترات يقطعها القطار ببطء بين العاصمة الشمالية الباردة ومدينة روستوف على الدون الجنوبية، التي تسمى ببوابة القوقاز.
أربع وعشرون ساعة من الاهتزازت الرتيبة تجعل المقصورة الدافئة أشبه بسرير كبير تهزه أم حنون. ما أن يلمس هواء الفجر البارد وجهك حتى تستعيد بعضًا من النشاط وكثيرًا من الذكريات، فالمحطة الكبيرة التي تنتظرك وتحول بينك وبين الشارع تعج بالحياة على مدار الساعة. صخب ليلي وكثيرون ينتظرون بين الحقائب أو فوقها لليلة أو اثنتين حتى يحين موعد رحيلهم.

(في المحطة)...

وصولك إلى روستوف هذه المرة، لا يشبه وصولك الأول إليها أثناء فترة البيريسترويكا، والتناقضات الكبرى بالألوان ولافتات المحال التجارية داخل المحطة الكبيرة والأزياء والألبسة، لم تحل دون تلمسك ذلك الرابط الحميم بينك وبين المدينة التي ما زالت تحتفظ بتلك النكهة الحريفة... تلك النسمة الإنسانية المفعمة برائحة التعب.
"جيليزنو داروجني فوكزال" أو محطة السكك الحديدية، ليست محطة للقطارات فحسب، بل شكلت في تلك الفترة، في منتصف ثمانيات القرن الماضي ملتقى للأحبة والباحثين عن رزقهم بين المغادرين والقادمين من المدينة وإليها. كنت تلتقي بوجوه مألوفة داخل المحطة تبحث عن منتجات أجنبية قادمة على متن القطارات، فقد كانت السلع المستوردة شحيحة يومها، ثم ما لبثت أن اختفت من على رفوف المحال التجارية معظم السلع فاكتفت تلك المحال ببيع المواد الاستهلاكية الأساسية. وكان الطلاب والموظفون يقفون في طوابير طويلة أمام تلك المحال المرقمة حاملين "طالون"، بطاقات صغيرة توزع مع الرواتب تخولهم الحصول على كميات محددة من المواد الغذائية، كالسكر والزبدة والزيت والفودكا. وكان الطلاب يتوجهون إلى المحطة للحصول على مواد استهلاكية أخرى من السوق السوداء التي نشأت تحت طاولات المطاعم فيها، بين الحقائب، وفي المقصورات التي تحمل الرقم "8" من القطارات القادمة من الشمال.
كان ذلك في الماضي، ماضٍ ما يزال يجر معه خيطًا من الروح يعشعش بين طاولات مطاعم المحطة التي تغيرت ألوانها وتعددت، وصارت أكثر حيوية وبريقاً... روستوف جديدة تنتظرك تغيرت فيها أشياء كثيرة، لكن وجه طفلة واقفة قرب الباب تبيع وروداً لا يزال كما هو.. وما زالت ترفض أن تأخذ منك أكثر من التسعيرة المتعارف عليها لوردة التوليب، هي طفلة أخرى لكن الابتسامة نفسها.
خارج المحطة يتنفس القادمون هواء المدينة البارد، تطل من بعيد محطة الحافلات أو "آفتو فوكزال"، حيث تجتمع نسوة جلسن إلى رصيف، أمام كل واحدة منهن حلة معدنية كبيرة مغطاة بخرقة أو بطانية تحفظ بعض حرارة فطائر البطاطس والكرنب المنتظرة لمشترين جائعين...

(إلى المدينة الأم )...

أراك تختار الترامواي، تفضله على وسائل نقل أخرى لم تكن موجودة في الثمانينات. يمتد أمام المحطة صف طويل من الميني باص أو "مارشروتكا"، وبعض الحافلات الكبيرة. يمر الترامواي رقم 10، يحملك صعودًا إلى الربوة التي تقع عليها مدينة روستوف على الدون، على الضفة اليسرى لنهر الدون الذي يفصل بين أوروبا وآسيا. أنت في الجزء الأوروبي من روسيا الفدرالية.
ينحرف الترامواي باتجاه شارع ماكسيم غوركي، الكاتب السوفييتي الكبير، يستلم الشارع من بدايته قاطعًا المدينة. بعد قليل سيمر مبنى سيرك روستوف الشهير عن يمينك. بجانب المحطة الصغيرة التي يتوقف المشهد لثوان. ما يزال يجتمع بعض سكان الحي الهادئ بالقرب من خزان كبير للجعة، يحمل كلٌ منهم كوباً خشبياً كبيراً يملؤه مرة تلو أخرى من صنبور الخزان. يجلس الأصدقاء والجيران إلى مقاعد خشبية مظللة بشرفات السيرك، ترى ساشا لا يزال يحمل غيتاره كل ليلة إلى تلك الزاوية مؤدياً بصوته المبحوح أغان تعود إلى بداية الثمانينات موقعة باسم فيكتور تسوي، ذلك المغني الشاب الذي قضى نحبه بحادث سير غامض قبل أن تتغير الدنيا وينهار نظام ويحل محله آخر. فقد ساشا كثيراً من وزنه وشعره، ازدادت سماكة زجاجتي نظارتيه وبحة صوته، لكنه ما زال يغني : "فئة الدم على الكم، الرقم العسكري على الكم، تمنَّ لي التوفيق في المعركة، تمنّ ألا أبقى بين هذا العشب..." . هناك حيث يتجمع الرفاق ويتفرقون مع ساعات الفجر الأولى.

يقطع الترامواي شارع بوديونوف، القائد العسكري الذي حسم معارك مهمة في الحرب الكبرى، لن يمكنك أن تلحظ تمثاله النصفي الذي يتوسط شارع بوشكين إلى يمينك. بقربه تقع صالة سينما "روسيا" التي عرضت شاشتها أول أفلام أميركية وصلت إلى المدينة، كانت الصالة تكتظ بالمشاهدين ليروا توم كروز بفيلم كوكتيل، وآخرون في الخارج ينتظرون دورهم، أو يتمشون في حديقة غوركي الرائعة الجمال والتنسيق الممتدة إلى شارع "إنغيلس"، الذي تحول اسمه إلى "بولشايا سادوفايا".
تظهر على يمين الشباك مكتبة الدون الكبرى. صرح علمي عظيم يتألف من مبنيين كبيرين أحدهما يستعمل كمخزن للكتب ولا يدخله الزوار أو نور الشمس. أما الآخر، ذلك الذي يقصده آلاف الطلاب والأدباء والمهتمين يومياً فهو مبنى مؤلف من خمس طبقات، ذو سقف زجاجي يسمح لأشعة الشمس الخجولة بالوصول إلى طابقه الأرضي المزين بباحة واسعة كثيرة الأشجار. مبنى المطالعة يبدو كخلية نحل لا تهدأ. يقف الترام عند محطة "تياترالني". تترجل منه إلى الشارع الواسع ناحية المسرح الكبير. مسرح المدينة الذي بني على شكل جرار زراعي ضخم يضم عدداً كبيراً من صالات العرض والتعليم المسرحي. تمتد أمامه ساحة كبيرة تستعمل عادة للعروض الكبرى كيوم المدينة، ويوم النصر، الذي يصادف التاسع من أيار/مايو.

(مع دون شولوخوف)....

ولد الكاتب الروسي الكبير ميخائيل شولوخوف (1905-1984) في بلدة فيشينسكايا القريبة من روستوف، وهو صاحب رواية "الدون الهادي" التي اعترف بها النقد كأعظم روايات القرن العشرين، منح عنها جائزة نوبل للأدب عام 1965، وله أيضاً رواية "الأرض البكر" عن تجربة تحويل الريف الروسي إلى الزراعة الجماعية، وفصول من رواية لم تكتمل عن حرب الشعب الروسي ضد الفاشية بعنوان "حاربوا في سبيل الوطن"، والقصة الطويلة "مصير إنسان".
تلك التحفة القصيرة الهائلة العمق والألم والمأساوية، ومن قبل ذلك مجموعة قصصية كبيرة شكلت بداية طريق شولوخوف الإبداعي بعنوان "قصص من الدون" عن الحرب الأهلية في روسيا، التي عصفت بسهوب نهر الدون فيما عربد لهيبها في كل أنحاء روسيا المترامية وأهلكت وشردت ملايين من البشر ودمرت الوشائج الاجتماعية للشعب الروسي وتقاليده القومية والدينية العريقة، واتسمت بقسوة وعنف هائلين لم يسبق لهما مثيل. أحبّ شولوخوف الدون كما لم يحبه أحد. الدون الذي يشكل الشريان الحيوي لشعب الكوزاك الذي يعيش على ضفافه ومنه ينحدر الروستويون وجيرانهم من أهل الكوبان أو مدينة كراسنودار.
الدون صفحة ماء هادئة لطيفة تعانقها أشعة الشمس الأولى بفرح خريفي غريب، على هذه الصفحة تستقر أوراق أشجار ذهبية اللون استحالت شاحبة محمولة ببطء نحو الجسر العالي الذي يربط ضفتي النهر، يربط أوروبا بآسيا.
السهوب الممتدة من وراء النهر إلى ما نهاية، ذلك الفضاء البعيد الذي يسبح فيه النظر، خضرة ما بعدها خضرة تحتل مساحات كلها وراء النهر. إلى اليسار من بعيد تظهر بلدة "أكساي" وميناؤها الصغير، إلى اليمين يمتد النهر الواسع إلى أن يصب في بحر آزوف. قلة من الكوزاك لا يزالون يحتفظون بعاداتهم القديمة في روستوف، لكن القرى والبلدات المحيطة تزخر بهم وبتلك العادات المستعادة بعد انهيار النظام السوفياتي. هناك في الأفق الشرقي، في "ستارو تشركاسك" و"تاغنروغ" و"ميلوروفا" لا يزال بعضهم يسرق الوليد الجديد من بين يدي أمه كي يعمده في النهر العظيم، ليعيده طاهراً مدى الحياة، فالدون أبُ للجميع، والجميع عند الكوزاك للدون. كما تقول الأغنية التي ما يزال يرددها الناس هنا. مرت على النهر العظيم مآس كثيرة سطر بعضها شولوخوف في رائعته، وعادت الحرب لتحط رحالها في المدينة وجوارها مع الحرب العالمية الثانية. بعض اللافتات المعدنية تشير إلى دخول الغزاة أكثر من مرة إليها بين كرّ وفرّ.

(مع الناس)...

تسير على الكورنيش النهري بمحاذاة سفن كبيرة بعضها تحول إلى فنادق ومطاعم، أفراد قليلون يتحركون في الاتجاه نفسه بينهم رياضيو الصباح الباكر، بعضهم الآخر صيادون يبحثون عن أسماك الشبوط التي تكثر على الضفة الأخرى من النهر بعيداً عن زيت المحركات الكبيرة لعبارات النهر. تحت الجسر الكبير عبارة "ف. تسوي أنت في قلوبنا إلى الأبد"، إلى اليمين يمتد درج لا ينتهي صعوداً ليلتقي بشارع "بوديونوف" حيث سوق المدينة أو "رينوك". في الممر تحت الأرضي الموصل إلى السوق تسطر الفسيفساء الرائعة الألوان ملحمة شولوخوف، فيظهر غريغوري ميلوخوف فوق صهوة جواده معاكساً أكسينيا التي تحمل دلوين مملوءين بماء النهر مربوطين إلى خشبة كبيرة. يبدأ الناس نهارهم فتدب الحياة في المدينة، يتوافد الباعة إلى السوق حاملين غلال الريف والسهوب، وعندما تسطع الشمس فوق الشارع العريض تكون المدينة قد غرقت في بحور من الوافدين والسكان المحليين منتظرة الليل والسكون... لترتاح إلى النهر الذي يعبر مرطباً جنباتها، كما في رواية شولوخوف.

نشر في إيلاف بعنوان "في روستوف... العروس النائمة على ضفة الدون الهادئ"، بتاريخ: 21 آب/ أغسطس 2007.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !