مواضيع اليوم

عرفة ينهض من قبره.. حكايات تصل الماضي ببؤس الحاضر

حنان بكير

2011-06-23 18:36:08

0


" عرفة ينهض من قبره"
حكايات... تصل الماضي ببؤس الحاضر!

" عرفه ينهض من قبره"، هي رواية الشاعر المصري حسن توفيق، وهي اضافة جميلة في حديقة انتاجه الأدبي الغزير والمتنوع.. من الشعر، و الدراسات والابحاث الأدبية، المقامات وأدب الرحلات.. ظاهر الرواية بحر هادىء، لكن الغوص فيه، مليء بالتيارات المتلاطمة.
" يسمونني المجنون. كل من يعرفني من اولاد حارتنا يقول بمجرد ان يرى وجهي: جاء المجنون! التصق بي الاسم حتى كدت أنسى اسمي الحقيقي. أتذكر ان ابي كلفني بشراء ستة أرغفة من المخبز القريب من بيتنا. خرجت في الظهيرة وعدت عند العصر. لم أكن ولدا كسولا يحب اللعب لكي أتأخر الى هذا الحد. كل ما فعلته يومها اني انتظرت أن يأتي دوري في الشراء، لكني لاحظت ان كثيرين غيري يأتون بعدي وينصرفون قبلي، بعد ان يحصلوا على ما يريدون. حين خفّ الزحام قليلا، قال لي البائع العجوز: انت ولد مجنون، لأنك ظللت واقفا في مكانك ولم أتنبه لوجودك الا الآن. لماذا لم تصرخ لتناديني؟ لماذا لم تمد يدك وتلوح بها لكي أراك كما يفعل سواك؟ قلت كنت انتظر دوري. قال باشفاق: ستظل متأخرا دائما لو انتظرت دورك، ليس هناك طابور ولا يحزنون.... وحين عدت للبيت وبخني ابي توبيخا قاسيا على تأخري الشديد، ثم ما لبث ان ضحك وهو يقول: من حق الناس ان يسموك المجنون، ما دمت تحب الوقوف في طابور ليس له وجود."
هكذا يبدأ الكاتب روايته، وتدرك للتوّ انها رواية نقدية لاذعة. ففي أحد المقاهي ينظر الى كوب الماء المائل للصفرة والعكر ايضا فيقول : ماذا جرى للنيل؟ ألم يكن الاجداد القدماء يقدسونه ويسمونه المعبود حابي؟ على كل حال فالذنب ليس ذنب حابي، بل ذنب الذين لم يعودوا يحترمونه! والقطط التي كانت رمزا للجمال واقامة التماثيل لها، ها هي الآن تتقافز من تل الزباله! عرف المجنون بمشاكسته ومناكفته بطرحه للأسئلة الكبيرة و الناقدة منذ صغره.
الرواية رمزية بشخصياتها وأحداثها، فلا يمكن المرور عليها مرّ الكرام وهي ليست لقراءة التسلية.. فكل جملة او حوار، يحمل في طياته الوجع الكوني، ومعاناة الانسان نتيجة الظلم والجهل واستغلال الدين، من هنا تعتمد الرواية على الرمزية في نقد الظواهر السلبية، والمنافحة والصراخ بترسيخ الحق والعدالة والمحبة وكل القيم الانسانية المتفق عليها عالميا.
تستند الرواية في اطارها الفني العام، على شخصيات رائعة نجيب محفوظ" أولاد حارتنا". وهي الرواية، التي اعتبرها ه النقاد، الأكثر تطرفا في عدائها للأوساط الدينية والمحافظة، فيما يقول نجيب محفوظ ".. فقصة الأنبياء هي الا طار الفني ولكن القصد هو نقد الثورة والنظام الاجتماعي الذي كان قائما ".
وللتذكير فقط، فان ابطال الرواية هم : الجبلاوي، بتسكين الباء، هو الله
أدهم هو آدم. / ادريس هو ابليس. / جبل هو موسى. / رفاعة هو المسيح، الذي رفع الى السماء./ قاسم وهو محمد. أبطال ثلاثة ترمز الى الديانات السماوية الثلاثة..
وتظهر الشخصية الرابعة وهو " عرفة" ويرمز الى العلم والمعرفة. أما الحواري فهي الكون.
المجنون وهو الراوي في أكثر الاحيان، مولع بسماع حكايات الحواري، حدّ التوحد مع شخصياتها، ومكان سرد تلك الحكايات هي المقاهي. ونجيب حرفوش هو المدون الذي طلب منه تدوين تلك الحكايات، خوف ضياعها، وهو صديق للمجنون، يلجأ اليه كلما عنّ على باله طرح اسئلته الكبيرة والتي غالبا ما تبقى معلقة بلا اجابات.
يرى المجنون ان التاريخ من بداية الخلق مليء بالدم "والحكايات مليئة بالقتلى والقتلة، لدرجة اني احيانا اتصور ان جذور الاشجار لا ترتوي من الماء بل من الدم". يمر الكاتب بقتل احد اولاد ادهم لأخيه/ قابيل وهابيل.. وصرخة ادهم.." نحن أسرة الظلام. لن يطلع علينا نهار! وكنت أحسب الشر مقيما في كوخ أخي ادريس، فاذا به في دمنا نحن. ان ادريس يقهقه ويسكر ويعربد، أما نحن فيقتل بعضنا بعضا".
بعد عودة المجنون من سفره، وقد عرف بحبه للأسفار والتعلم والفضول في كشف اسرار ثقافات الحواري الأخرى، يصيح المجنون ".. هي فوضى تتمدد.. هي فوضى.. لكني لم أتبين ملامحها المقززة الا حين هجرت حارتنا لأول مرة... بدأت أحاول ان افهم لماذا يتقدم سوانا ولماذا نغوص نحن في الوحل؟! وحين رجعت عرفت معنى ان يرضى كل انسان بما يحيط به من فوضى وكلنا نقنع بها، وشيئا فشيئا نتحول نحن أنفسنا الى كتل فوضوية تتحرك على الارض، دون ضابط او رابط، نفتح عيوننا كل صباح لنشتم اولادنا..." . هي اذن مأساة الانسان الذي يرتحل الى الحواري/البلدان/ المتقدمة فتهزه من الاعماق ما نحن غارقون فيه.. وتبلغ مأساته حدها في قوله: " في الغربة حين أهجر حارتنا يداهمني الشوق، وفي الحارة حين أعود اليها ينغرز في روحي الشوك"!
لم هذا الصراع بين تلك الحواري المتجاورة، بدل الألفة والمحبة؟ يجيب الكاتب " هنا تتجاور البيوت، اما القلوب والعقول فانها لا تتحاور فيما بينها، لغة الحوار هي الشتيمة والضرب والركل، بل هي لغة القتل، لأن العقل في حالة نوم عميق".
المجنون/ الراوي، يقيم في حارة قاسم، لكن اصدقاءه، من كل الحواري التي تتشابه في أمور كثيرة، وتختلف في أمور أخرى.. يشير الكاتب الى ظاهرة المخبرين بوصفهم بالأشباح.." مرعبة هي اشباح الاحياء من الناس.. أما الموتى فان اشباحهم لا تعني لي شيئا.." ظاهرة المنافقين لأصحاب السلطان ظاهرة عامة وشائعة في كل الاوساط والحواري، لكنهم لا يسلمون من نقد المجنون ".. وها هم الأعوان والمنافقون والذين يجيدون التطبيل لأي طاغية يلتفون حوله، طمعا في حظوة او خوفا من عقاب.." وهنا يستذكر قول المعلم عرفة ".. ان الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة.. ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت.." ويصرخ المجنون مع معلمه عرفة ".. بل أتمنى أن لو استطعت ان أقتل الخوف الكامن في قلوب الخائفين، لكي يصبحوا أحياء حقا، لا أحب الحرب، بقدر ما احب الحب، واجمل حب، في نظري، هو حب الحياة بشرط ان تتحقق العدالة فيها بين الناس..". فالعدالة برأيه هي السلاح العجيب الذي أثبت تفوقه على النبابيت" السيوف" وعلى أقوى العضلات.
المعلم عرفة" العلم" يقضي عليه ناظر الوقف وتتضارب الروايات حول حقيقة موته. رواية تقول انه مات وشبع موتا مع زوجته، بعد ان دفنا أحياء.. ورواية تقول، انه نجا بطريقة او اخرى. ناظر الوقف أرعبته فكرة نجاة عرفه، وأقضت مضجعه، فأمر بقمع كل من يقوم بنشر هذه الرواية، في اشارة خفية الى قمع حرية التعبير والارهاب الفكري. كما أن عرفة قد اصبح مجهول المصير، فهو ايضا مجهول النسب، في اشارة الى ان العلم والمعرفة، لا هوية لها ولا دين. وعرفه لم يكن قاسميا او جبليا او رفاعيا..
كلما ضاقت الدنيا في وجه المجنون، خرج الى جبل المقطم للتأمل والقيلولة. يستذكر قول احد أصدقائه:" أليس من المحزن ان يكون لنا جد مثل هذا الجد "الجبلاوي" دون ان نراه او يرانا؟ أليس من الغريب ان يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وان نعبش نحن في التراب؟" ما كان يشغل بال المجنون هو كيفية اختلاط الاساطير والخرافات، بما يكون قد حدث فعلا في هذا العالم! وعن انواع المؤمنين وموقف الناس من هذا يقول ".. وهكذا ومضت في خيالات المجنون اسماء عديدة من أدهم الى قاسم مرورا بجبل ورفاعة وسواهم ممن اسهموا في صنع أحداث خطيرة ومثيرة، عاشها من عاشوها، وجاء بعدهم من جاؤا ليذكروها، ما بين مصدق لها على طول الخط، او مكذب لبعضها او مندهش مما ورد فيها، أو غير مبال بها، الى ان شهدت الحارة قدوم عرفة." شاهد المجنون، في احدى المرات وهو على قمة المقطم، الحنش وهو صديق المعلم عرفة، وهو يجمع اوراق كراسة معلمه المتناثرة. وفي اليوم الثاني، يلحظ خروج المعلم عرفه مع زوجته، احياء من القبر، في اشارة الى احياء العلم والانتصار له، فالحداثة والعلم قد قاما من بين الأموات، وهي بشارة المجنون بالتغيير وسيادة العقل. وتنشأ صداقة متينة بين المجنون وعرفه.
هل كانت فترة غياب عرفه هي انتكاسة النهضة العلمية والفترة الذهبية للمجتمع العربي، وخاصة بعد ثورة 1919 العلمانية في مصر؟ وان عرفه سيعود لنشاطه بعد ان يستريح قليلا من تعب تلك النكسة ما يعني الأمل في مرحلة تنويرية جديدة !!
يصاب المجنون بالهلع، حيث أخرجته من انسجامه كتلة سوداء تتحرك امامه بثبات وهدوء. ثم ما لبث ان سخر من نفسه حين


ايقن ان تلك الكتلة السوداء التي أرعبته، ليست شبحا بل امرأة تلتف بالسواد من رأسها حتى قدميها، ثم تتابعت الكتل السوداء، المتحركة تحيط به من كل الجوانب.. غريب! فحتى عهد قريب لم تكن النساء على هذا النحو. " ماذا جرى؟ إن النساء على عهد قاسم نفسه لم يكنّ هكذا؟" فذلك النقاب الأسود الذي يلف المرأة ويحجب عنها نور الحياة، هو مستجد أو مستورد!
في الفترة التي ظهر فيها عرفه قبل انتكاسته، لم تكن عبقريتنا قد أبدعت النظام" الجمهوملكي"، وهي توريث الرئاسة، فالمعروف ان الملكية هي التي تورث!! فيقول الكاتب عن ناظر الوقف ساخرا:" جلس الناظر قدري معتدا ومزهوا بنفسه، وقد تغير لون شعره الأشيب بفضل الحنّة السوداء، كأنه يرد على الإشاعات التي أكدت ان صحته تتدهور وان أمراض الشيخوخة قد تجمعت لتتحالف ضده، وخلف الناظر مباشرة جلس حفيده كمال! فيأتي المجنون بصوت صديقه الشاعر:
لاتحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد
وخلف كل ثائر يموت.. أحزان بلا جدوى
ودمعة سدى...
وفي يوم مقتل الناظر، الذي اشتبه بظهور الحنش تلميذ عرفة وقتله له، وفي مناسبة توريث الحفيد كمال، مات الملك عاش الملك، يصيح الناس بصوت الشاعر:
هناء محا ذاك العزاء المقدما فما عبس المحزون حتى تبسما!!
يؤمن المجنون بقدرة الشعوب على التغيير، ويدعو الى عدم الاستهانة بقدراتها".... ترى الناس ظلالا في السفوح كما تقول! لكن هذه الظلال التي تراها تحتنا يمكن ان تصنع شيئا، يمكنها ان تخترق اسوارا، أو ان تحطم جدرانا يتحصن داخلها الظلم الذي يتحكم في الحياة ويجعلها لا تطاق.." هؤلاء الذين وصفهم في الزمان الاسود، يساقون بلا كرامة ولا سيادة، تنهكهم الفاقة وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات."
ينهار الجبل على أكواخ الفقراء ومن لاذ منهم في مغاور الجبل. فتتحول الاكواخ الى مقابر جماعية للأحياء.. انه القضاء والقدر !! يقول الناظر الذي جاء لتفقد الانهيارات، " .. ماذا كان بوسعي ان أفعل؟ أقول للجبل لا تهتز وللصخور لا تتساقطي فوق البيوت؟" حقا انه القضاء والقدر !! يسخر الكاتب بمرارة ! لكن الناس ترى في انهيار الكتل الصخرية أفظع من افظع كابوس، وان القتل بالنبابيت أرحم!! كلها خيارات لا ترحم..
وهناك ايضا، قتلة معروفون، دون ان يجرؤ احد على القبض عليهم، او حتى الاشارة اليهم، وتقيّد الجرائم ضد مجهول، والى متى سوف يظل القاتل مجهولا؟ فالناس ظلوا يتنفسون الرعب مع الهوا، وكل منهم يتوقع ان يحدث له ما حدث لمن سبقوه من ضحايا. كيف لأسئلة المجنون ان تجد الأجوبة..
عرفة الساحر حاول بسحره ان يحرر الناس من الخوف والتخلف، كما أراد رفاعة/ المسيح، اخراج العفاريت من صدور الناس لكي يشفوا من العلل والأمراض، لكن الجناة أخرجوه من الحياة كلها! في حوار بين المجنون وعرفة، يعقد الاول حوارات حول مفهوم تطهير الروح وتطهير الابدان عند كل من رفاعة وقاسم.. وحول الاختلاف في موت رفاعة.
ان شخصية مثل شخصية المجنون ، لابد الا أن تنحاز للمرأة، ويستغرب لماذا يعطي الرجل لنفسه حرية ان يفعل ما يشاء، بينما يمنع المرأة من ان تتساوى معه؟ متى يكف الرجال عن الانانية؟ ولا بد من الا شارة الى موضوع النساء القبطيات اللواتي"أسلمن" ".. ناس لهم وجوه كالصخر يخطفون بنات صغيرات من حي رفاعة. بعد وقت قصير يقولون ان قلوب البنات أصبحت تميل لكل ما قاله قاسم".
يرعى المجنون عرفة، ويحاول حمايته، بالطلب من صديقه مدحت من حارة رفاعة، ان يستضيف عرفة في بيته الكبير المشيّد في الخلاء، بعيدا عن الحواري، حيث يصادف وجود ضيوف آخرين من أقارب مدحت وبعض اصدقائهم.. وقد يكون هذا البيت هو تلك المساحة الحيادية او المشتركة التي تقف عليها مختلف الثقافات..
في بيت مدحت الكبير، حيث تتصدر الصالة لوحة كبيرة لرفاعة/المسيح، تصور آلامه قبل القتل، يجمع الكاتب شخصيات من مختلف الحواري " جهشان الرفاعي أحد اقارب رفعت والذي غادر الحارة على أثر خلافات وبعد ان ازدادت الامور تعقيدا.
وهو يعيش في حارة الخزف او الفخار، يفهم من الحوارات ان المقصود هو لبنان، وربما اعطاه هذا الاسم الرمزي، لحساسية الأوضاع فيه، ما يجعله سريع العطب.
اسكندر غالي، هجر حي رفاعة وهو صغير، ربما كان الغرب وجهته، كما سيبدو لنا من نصيحة أسداها للمجنون. هادي ما شاء الله، من حارة الطوفان ويفهم من النص انها العراق.
اسمهان الطرزي، تنتمي للطائفة الدرزية... لميعة الصابي، من الصابئة... غولدا جبيل تلك المرأة الغامضة من أتباع جبل اي موسى.
في هذا البيت الكبير الذي اتسع لكل الاطياف الدينية والعرقية، ومن مختلف الحواري، تدور أحاديث وسهرات لا تخلو من شجون وهموم، كل يحكي معاناته ونقده لحارته، فاذا بهم كلهم في الهم شرق ! تتشابه الاشكالات والتخلف والطائفية وتحقير المرأة والقمع والاذلال باسم الحرية، حتى أصبحت الحرية على حد قول المجنون ".. الحرية تحولت الى قطعة رخوة من العجين كل واحد منا يستطيع ان يفردها امامه.. الحرية ان نذل سوانا، ان يدوس القوي المتجبر على رقبة اي ضعيف يصادفه... انهم لا يرتكبون الخطايا، فهم يمارسون الحرية.."
تدور سهرات هادئة في حديقة البيت وفي جو من الوئام والتفاهم، رغم وجود تباين في بعض الاراء، اعتقد انه يعكس الصورة التي يجب ان يكون على شاكلتها الحوار المتمدن والحضاري بين مختلف الاطراف.. اسكندر غالي ينصح المجنون بالرحيل، نحو الغرب، على الارجح حيث يكون بامكانه ان يجد فرصا جديدة تعود بالنفع على حارته لأنه".. لا كرامة لساحر في حارته خصوصا اذا كانت هذه الحارة هي حارة الجبلاوي". يتردد المجنون ور بما في اشارة الى وضع المسلمين في الغرب".. اذا عرف الآخرون اني من أبناء حي قاسم وكلهم متهمون بأنهم يحبون القتل؟" أجابه اسكندر ببساطة" اذا عرف هؤلاء الآخرون انك تعشق عملك، فلن يسألك أحد من اين أتيت".
يتحدث اسكندر عن حارة الخزف وعن المشاكل الحدودية مع ابناء جبل، وعن المشاكل بين أبناء الحارة".. حين يكون النسيم منعشا يتعاون أبناء كل الأحياء وينسون خلافاتهم، لكن الويل للجميع اذا هبت عواصف حادة من الشرق او من الغرب على حد سواء".
هادي ما شاء الله ، جاء من حارة الطوفان، والتي سميت بهذا الاسم بسبب الطوفان الذي مرّ عليها، يعترض المجنون على التسمية، وتساءل لماذا لا تسمى بحارة الحدائق التي اشتهرت بها؟ " لأن الحزن أبقى، أما الفرح فعمره قصير" يجيب هادي، الذي كان يبشر بظهور المهدي في حارته،" .. وبالتأكيد فان الفرج لن يهل علينا وحدنا. صحيح انه سيأتي من حارتنا اولا، لكنه لن يغفل عما يجري ويحدث في حواري غيرنا" يعلق المجنون " ألا يكفي ما حدثتنا عنه من ظلم واضطهاد لكي يتعجل الفرج في عودته من بعد طول غيبته؟"
أسمهان الطرزي، تعجز عن الاجابة عن كثير من الاسئلة حول كتابها المقدس، كما فعلت لميعة الصابي.. ببساطة لأنها لا تعرف شيئا عنه. ".. اجداد اجدادي لم يحبذوا ابدا ان تتعلم النساء ولو شيئا بسيطا مما هم ملمّون وعارفون.. هم يعشقون الاسرار.." في اشارة الى مذهبها الذي يمنع عنها اي إلمام عن كتابها.. وربما هي من بيئة تعاني فيه المرأة من الكبت والحرمان من حقها كأنثى.. في مونولوج مع نفسها ".. انا امرأة ناضجة. انا شجرة مثقلة بالثمار، لكني حرمت نفسي من متعة الحياة ولم اسمح لأي رجل ان يقطف ولو ثمرة واحدة. ان ثماري تعربد في حديقة جسدي، تكاد تتمرد، توشك ان تجنح، انها تحس بالهوان، لأني لم امنحها سوى الحرمان، لكن انوثتي بكل ثمارها اصرت ان تعلن عن نفسها، لا مع رجل من الرجال، بل مع امرأة" !!
جولدا جبيل، تلك المرأة المريبة من أتباع جبل، تغري وتعقد علاقة جنسية مع عرفة وتسرق له كراسة سحره! وفي علاقتها هذه، تكرر لعرفة، بأنها تفضل ان تكون في علاقتها الجنسية فاعلا وليس مفعولا به، وبامكانه ان يكون فاعلا مع اي امرأة اخرى سواها!! حوارها مع عرفة يشير الى اسرائيليتها، وحين قررت الر حيل دون ان تعلم احدا ، قالت له بان شبانا متوحشون هاجموا اختها، وقالوا لها ان تخبر اهلها..
ايها المارون بين الكلمات العابرة / آن أن تنصرفوا / وتقيموا اينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا... " ثم يعقدا حوارا رمزيا يفهم منه انه الصراع الاسرائيلي الفلسطيني.
المجنون/ الراوي، يمسك بكل خيوط الرواية وشخصياتها، دون مصادرة ادوارها او حضورها، بل هو كثيرا ما ينأى بنفسه، ليكون مستمعا ومحركا لهم باستثارتهم باسئلته الكبيرة والفضولية. يقول عنه صديقه " لا انه ليس بمجنون. هو بالحزن مسكون". كتب في احدى اوراقه التي قرأها عرفة، عن رحلته الى حارة الفرنجة، وكيف طوروا انفسهم من السيء الى الحسن والأحسن، وتيقن ان " العقل الانساني واحد، رغم اختلاف الناس في الوان بشرتهم وافكارهم ولغاتهم".
حان موعد الرحيل من البيت الكبير.. كان المجنون آخر من يغادر، وقد ترك كل واحد رسالة شكر له، جلس في الحديقة يقرؤها..هادي العراقي يشكره ويدعوه لزيارة حارة الطوفان لكن ليس الآن، لأنه لا يضمن له رجوعه سالما.. قد يقتلك قاتل لمجرد انه يسألك عن اسمك فتقول له اسمي عمر. قاتل آخر قد يقتلك اذا عرف ان اسمك علي. وللقتل عندنا مدارس. هناك مدرسة تفصل رأس الانسان عن جسده. هناك مدرسة اخرى تقطع أجساد المخالفين بالسواطير والمناشير...
عرفه كتب من ضمن ما كتب للمجنون" عرفت منك ومن ضيوف مدحت ما لم أكن أعرف، لا لأني لست محبا للمعرفة، ولكن لأن حارتنا التي انغلقت على نفسها لا تتيح لنا حرية أن نعرف سوانا، ولا ان نتعرف على ما يجري في الحواري البعيدة بل القريبة من حارتنا." أشار عرفه في ورقته الى ما حدثه المجنون عن رحلاته الى الحواري القريبة والبعيدة الملأى بالعجائب والغرائب.. من حارة النمل الأصفر لكثرة اعدادهم التي لا تحصى، وهي الصين.. حارة النحل التي لا يتعب اهلها من كثرة العمل، وهي اليابان، ثم الحارة التي أسماها بحارة البقر، لأن حيا من احيائها يعشق الابقار... وهي الهند.
حان موعد رحيل المجنون، يخرج من البيت، حاملا من اخبار الحواري ما يزيد من سوداوية الافق وانسداده، في وجه العلم والعصرنة.. مرّ في الحارات متأملا.. في حي رفاعة يرى نساء يتركن لشعرهن حرية ان ينسدل بحرية على أكتافهن، ويتركن للنسمات حرية العبث بخصلاته.. يسير في شوارع حي قاسم، حيث الكتل المكورة والمجللة بالسواد.. و" .. وسيلاقيه رجال يطلقون عليه وابلا من نظراتهم،حتى لا يتعكر مرأى النهار في عينيه. قد يضحك دون صوت وهو يرى الى اي حد يتفنن هؤلاء الرجال في ترتيب شعر ذقونهم ولحاهم. ربما يردد في اعماقه صوت حكيم قديم:
أغاية الدين ان تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟!"
ينفجر المجنون في ضحكة هستيرية ساخرة، حين استذكر هؤلاء الرجال الذين يذهبون الى بيوت الراقصات، ليقنعوهن، بأن يتحولن الى كتل مكورة سوداء، لقاء مبلغ من المال يدفعونه لهم، وان يقنعن نساء أخريات بالتحول ايضا والسخرية، كما يراها المجنون هو في عودة هؤلاء الراقصات الى طبيعتهن بعد ان ينفقن المال المدفوع لهم.. وهذه اشارة واضحة للفنانات اللواتي يتحجبن بعد نزول الوحي عليهن، ولكن المجنون يكشف لنا ان الوحي ما هو الا المال معبود العصر..
وليس حال هؤلاء الا بسوء اؤلئك الذين يدربون الأولاد على صناعة، وعدم التشبث بالحياة وفرص الهجرة المفسدة.. ومثلهم في السوء أيضا اؤلئك الذين يرون في المال والنساء زينة الحياة الدنيا، فانبروا يسرقون في السر والعلن! استعراض تلك الصور القاتمة، ترعب المجنون فيتساءل اين اختفى عرفه؟؟ " هل تمكن عرفه من الاختفاء في مكان ما، لكي يظهر فجأة قبل ظهور الفرج الذي يترقبه هادي ما شاء الله؟" هذه الرؤية التي مرت بخاطر المجنون شرحت قلبه، ان سباق عرفه والفرج الذي ينتظره هادي، انما هو السباق بين العلم وطوفان المد الأصولي الذي يضرب كل حواري المنطقة! تلك الرؤية جعلت المجنون "مجنونا" يضرب الار ض بقدميه ويصيح " اذا كانت حارتنا- كما نتصور- هي أصل الدنيا، فهل يجوز ان تتقدم الدنيا كلها، بينما تظل حارة الجبلاوي وحدها غارقة في الماضي ومتخلفة عن سواها من الحواري؟" ثم استذكر ما قاله أغلى أصحابه الغائبين:
يا أهل الحارة / يا أهل الحارة/ هذا قولي:/ انفجروا أو موتوا/ رعب أكبر من هذا سوف يجيء/ لن ينجيكم ان تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت/ او ببطون الغابات/ لن ينجيكم ان تختبئوا في حجراتكم.../ او تحت وسائدكم، أو في بالوعات الحمامات/ لن ينجيكم ان تضعوا أقنعة القردة/ لن ينجيكم ان تندمجوا أو تندغموا../ حتى تتكون من أجسادكم المرتعدة/ كومة قاذورات/ فانفجروا أو موتوا انفجروا أو موتوا.."
ما يميّز اسلوب الكاتب في هذه الرواية، عن كتاباته النقدية السابقة هو جديّتها وان كانت مبطنة بالسخرية، ما يفضح عمق الألم الذي يكابده الكاتب، جرّاء السائد من الأوضاع الغير طبيعية وهذا ما سبب له هذا الحزن العميق الذي يسكنه وتفضحه عيونه، وما يجعله في انحياز فاضح للعلم والحداثة.. ان السجع العفوي الغير متكلف، والذي هو من سمات نثر الشاعر حسن توفيق، لا تخلو منه الرواية، وكذلك الصور الأدبية الرائعة، كما في قوله ".. على الأرض جلسوا جميعا متلاصقين كأنهم تحولوا فجأة الى أجنة متداخلة في رحم واحد"..
الرواية هي اضافة أدبية جديدة، وصرخة في وجه الظلام.. هل تتحقق رؤية المجنون بظهور عرفة، قبل الولوج في الرعب الأكبر القادم ؟؟!

 

 

 

 

 

 

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !