تأليف: غودون توماس - عرض وترجمة: بشير البكر.
وكالة الاستخبارات "الإسرائيلية" "الموساد"، جهاز عريق، وشهرته تجاوزت المنطقة الجغرافية للكيان الصهيوني نفسه، وأصبحت أسطورة أحيانا. "إنها قوة سرية تتيح ل"إسرائيل" أن تمارس الضغوط على الأقوياء، بمن فيهم وكالة الاستخبارات الأمريكية.
وأيضاً اصطياد النازيين واختراق الحكومات، وتصفية "الإرهابيين" وضبط المعلومات الأساسية، وأيضا أخطاء في الحسابات وحالات كذب عاشتها الموساد".
هذا هو ملخص الكتاب/ التحقيق الذي يحمل عنوان "التاريخ السري للموساد من 1951 إلى يومنا" ل"غوردن توماس"، الكاتب المتخصص في عالم التجسس، والذي نشر 37 تحقيقا ترجمت في العالم بأكمله، في محاولة للتقرب من عالم هذا الجهاز الذي لا يشبه غيره من الاستخبارات العالمية، والتابع لدولة لا تشبه غيرها من دول العالم الأخرى.
بولارد هرّب 1000 وثيقة أمريكية سرية إلى "إسرائيل"
يبتدئ الكتاب بفصل معنون ب"الجانب الآخر من المرآة". المكان هو غرفة في شقة في المقاطعة الباريسية الرابعة والقريبة من "مركز بومبيدو". والموساد يمتلك عشرات من الشقق من هذا النوع، مشتراة أو مستأجرة، في كل كبريات المدن العالمية. معظمها يبقى شاغرا إلا حين يتطلب الأمرُ استعمالا طارئا. هذه الشقة كانت القاعدة العملياتية لمهمة ابتدأت منذ يونيو/ حزيران، 1997 هو تاريخ وصول "السيد موريس" إلى باريس.
تخرج في مدرسة الموساد سنة، 1982 وعمل في أوروبا وجنوب أفريقيا والشرق الأقصى. في حياته العادية يظهر بمظهر رجل أعمال، أو صحافي مستقل أو وكيل تجاري". الأمور التي كانت تعيشها وكالة الاستخبارات "الإسرائيلية" كانت سيئة، إذْ كانت التعيينات والتطهيرات قد وصلت إلى حد خلخلة هذه المؤسسة، وقد تعقدت الأمور مع تعيين بنيامين نتنياهو رئيسا للوزراء في "إسرائيل". وعلى الرغم من المعرفة الدقيقة للملفات المتعلقة بالموساد، فإنه قرر حشر نفسه حتى في الإجراءات العملياتية.
بل حتى زوجته حشرت أنفها في موضوع الموساد، فقامت باستدعاء كبار الموظفين إلى بيتها، وأمطرتهم بوابل من الأسئلة على غرار الاهتمام الذي كانت تبديه هيلاري كلينتون بوكالة الاستخبارات الأمريكية.
يستطيع هذا العميل "الإسرائيلي" أن يرصد شخصية جوهرية، تشتغل في فندق "ريكس" الباريسي الذي يملكه المليونير المصري محمد الفايد، وهو "هنري بول"، الذي سنعرف لاحقا بأنه هو سائق سيارة المرسيدس التي كانت تقل الأميرة ديانا ودوي الفايد حين الحادثة التي أدت لمقتلهم جميها، ويكتشف أن له رغبات في الحصول على الأموال من خلال بيع معلومات عن مرتادي الفندق لمصوري مجلات الإثارة "الباباراتزي".
تتوطد العلاقات بين الرجلين(الجاسوس "الإسرائيلي" ورئيس الحرس في فندق ريتز)، ويبدأ في التحدث من دون أن يطلب منه الجاسوس "الإسرائيلي" ذلك. يصف الفندق وطريقة العمل ومرتاديه الكثير. يتحدث عن الزبائن العرب بطريقة أقل ودية: لكن قبيل أن يبدأ الجاسوس في جلب المعلومات من العميل الجديد يأتي الخبر الصاعق، والمتعلق بمقتله مع الأميرة ديانا وعشيقها المصري دودي الفايد.
ولكن العلاقات ما بين "الموساد" وبول هنري ظلت لغزا، فيما اعتبرت "الموساد" أن الأمر يندرج في إطار ما تسميه ب"أشياء تخص حدودها". أما فيما يخص محمد الفايد فقد اتهم، بعصبية، أجهزة مخابرات غير محددة بأنها استهدفت ديانا ودودي. وعلى الرغم من أن صحافيين من مجلة "تايم" تحدثا عن ارتباطات بين هنري بول والمخابرات الفرنسية، فإنه لم يتطرق أحدٌ للعلاقات الممكنة مع الموساد.
يُوردُ المؤلف الصورة النمطية التي تروج في الغرب عن العرب، فها هو هنري بول يصرح أمام الجاسوس "الإسرائيلي": "إن معظم العرب بذيئون ومتعجرفون، وإنهم يريدون من عمال وخدم الفندق أن يسرعوا لتلبية مطالبهم حال يطقطقون أصابعهم". يتدخل العميل، ويقول، كي لا ينفضح، "ولكني سمعت، أيضا، أن الزبائن اليهود مراسهم صعب"، لكن هنري بول، يُعقّب بأن اليهود زبائن جيدون.
نعرف أيضا أن نظام المراقبة إيشلون Echelon، وهو نظام التنصت الأكثر تطورا للنازا NSA (وكالة الأمن القومي الامريكية) وضع الأميرة ديانا تحت المراقبة المستمرة بسبب نضالها ضد الألغام المضادة للأفراد، وهو ما كان يهدد مستقبل الكثير من العمال الذين يشتغلون في هذا الميدان.
كما نقرأ كيف أن المؤلف التقى بمحمد الفايد في متجره الشهير في لندن "هارودز"، فيقترح عليه منح مليون من الدولارات مقابل المعلومات التي يتوفر عليها جهاز الموساد، متهجما على الملكة وعلى الأمير فيليب وشخصيات أخرى واصفا إياهم "بالعاهرات والقوادين" ومتهما جهاز الاستخبارات البريطانية بالقتلة".
يضيف الفايد بأن عملاء الموساد يعرفون الحقيقة ويطالب المؤلف بإحضارهم: "أحضرهم إليّ وسوف أجعلك رجلا سعيدا..." ولم ينس الفايد التحدث عن السائق هنري بول، الذي كان يحبه كثيرا كما كان يحبه ابنه دودي.
يقنع المؤلّف العميل "الإسرائيلي" الشهير "بين ميناشي" Ben Menache بالعمل مع الفايد، ولكن "ميناشي" يطلب مبلغ 750000 دولار سنويا بالإضافة إلى مبلغ آخر مقابل الأعباء الأخرى. لكن العقد لم يتمّ لأن الفايد كان يلحّ على معرفة "الأدلة" قبل أن يوقع على الصكّ.
يعقب المؤلف على طريقة اشتغال الموساد من خلال تسخير العميل موريس لهنري بول بالقول، إن العديد من زملاء "موريس" رأوا فيها: "علامة إضافية على أنه لا يوجد أحدٌ متحكم فعلا في الموساد، وبأن الموساد ينطلق في عمليات مجازفة ومتهورة من دون مراعاة النتائج المتوقعة على المدى البعيد بالنسبة له كما بالنسبة ل"إسرائيل" وللسلام في الشرق الأوسط، ولا بالنسبة للعلاقات ما بين "إسرائيل" وأقدم وأوفى أصدقائها أي الولايات المتحدة".
لا أخلاقية
فصل "قبل تاريخ" يعتبر من بين الفصول الأخرى التي تذكر بالطرق اللأخلاقية، التي يلتجئ إليها عملاء الموساد من أجل الوصول إلى أهدافهم. من بينها القصة الطريفة التي تتعلق باستدراج رجل دين يهودي مبجل إلى باريس من لندن، بدعوة مشاركته في حفل ختان شخصية مرموقة، لإرغامه على التصريح بمكان تواجد طفل مختطف: "يتم استقباله في المطار من قبل شخصين لابسين لباسا أسود وهو لباس المتديّنين اليهود الأرثوذوكس. واللذين كانا في واقع الأمر من عملاء الموساد. التقرير الذي كتبه هؤلاء إلى قادتهم لا يخلو من سخرية سوداء: "تمت قيادة الحاخام إلى ماخور في منطقة "بيغال" الباريسية، من دون أن يشك قيد أنملة في الهدف. ألقت عاهرتان مدفوعتا الثمن نفسيهما على رقبته في الغرفة التي كان يتواجد فيها. وتم تصويره في هذه المشاهد.(...) أريناه الصور وطلبنا منه مكان الصبي، ولكنه أقنعنا بأنه ليس على علم بالموضوع، فكان أن مزقنا الصور أمام ناظريه".(64-65)
أمثلة أخرى كثيرة أوردها المؤلف على الجرأة واللأخلاقية، التي يمكن اللجوء إليها من أجل الوصول إلى المآرب. الغاية تبرر الوسيلة. والأمور بالنتائج.
ولكنه يجب ألا نغفل وجود مهنية عالية وتقدير كبير للمسؤولية والمحاسبة. وقد كانت "إسرائيل" على خلاف الكثير من المخابرات الأخرى، ومن بينها الأمريكية(التي تركز كثيرا على التكنولوجيا) تركز على العامل البشري(المعلومة ارتكازا على العامل البشري).
اختطاف "ميغ 21"
يأتي شخص، تحت اسم "سلمان"، إلى السفارة "الإسرائيلية"، ويقدم لها اقتراحا مهما ومغريا وجريئا". يطلب منهم مليون دولار نقدا، ويدعي قدرته على تسليم "إسرائيل" طائرة من نوع "ميغ 21" روسية، من أكثر الطائرات حينها تطورا، وأضاف بكثير من اليقين: "ارسلوا أحد عملائكم إلى بغداد، وليس عليه سوى الاتصال برقم الهاتف ويسأل عن جوزيف، ولا تنسوا أن تجهزوا مليون دولار".(69)
ناقشت الإدارة "الإسرائيلية" القضية، وتساءلت حول ما إذا كان سلمان عميلا مزدوجا، ويشتغل مع السلطات العراقية، ولكن فكرة الحصول على طائرة روسية متقدمة أصبحت حلما لا يُقاوَمُ.
يكشف لنا المؤلف أن الموساد مؤسسة وطنية، وهي مصدر فخر لكل "الإسرائيليين"، وموظفوها أحيانا يمكنهم ألا يناقشوا القرارات مع القيادة السياسية، أو أنهم يخبرونها في الدقائق القليلة قبل الحسم واتخاذ القرار.
"في اللحظة المناسبة تم إخبار بن غوريون ورئيس الأركان إسحاق رابين، فما كان من الرجلين إلا أن أعطيا موافقتهما. ولكن المسؤول الاستخباراتي حرص على التذكير باستعداده لسحب كل العملاء من العراق: "في حالة الفشل، أحرص على وضع رأسي وحده على النطع. لقد دفعت خمس مجموعات. الأولى مكلفة بالاتصالات بين بغداد وبيني. التعليمات التي تلقيتها تتمثل في عدم قطع الصمت إلا في حالة خطر داهم. أما إذا لم يكن من خطر فأنا لا أريد أن اسمع عنها بأية حال من الأحوال. المجموعة الثانية يجب أن تتوجه إلى بغداد من دون أن يعلم بوصولها أحد، لا من قبل العميل "بايكون" ولا من قبل أفراد المجموعة الأولى. وكان دورها يتمثل في وضع العميل "بايكون" تحت المراقبة في حالة ما إذا كان يلعب دورا مزدوجا، وأيضا مراقبة جوزيف، إن أمكن. دور المجموعة الثالثة ينحصر في مراقبة العائلة، في حين تقوم المجموعة الرابعة بإجراء الاتصالات مع الأكراد المسلحين من طرف "إسرائيل"، المفروض أنهم سيقومون بلعب أدوار في ما يخص المرحلة النهائية من العملية. أما المجموعة الخامسة فهي من تقوم بالاتصال مع الأتراك والأمريكيين. إذْ أن طائرة "ميغ 21" كي تغادر التراب العراقي، يتوجب عليها أن تجتاز المجال الجوي التركي قبل أن تصل إلينا. الأمريكان الذين يتوفرون على قواعد في الشمال التركي يتوجب عليهم ممارسة ضغوط على الأتراك من خلال إيهامهم بأن هذه الطائرة متوجهة إلى أمريكا".(74-75)
في يوم 15 من شهر أغسطس/ آب سنة 1966 ومع إشراقة الشمس، انطلق الطيار "منير" في قيادة طائرة "الميغ 21" في مهمة روتينية وما أن ابتعدت عن القاعدة حتى ضاعفت من قوة محركاتها، ووصلت إلى الحدود التركية قبل أن يتلقى الطيارون الآخرون الأوامر بإسقاطها. بعد ذلك رافقتها طائرات فانتوم من الجيش الأمريكي، حتى رست في قاعدة تركية حيث تم تزويدها بالوقود.(...) لاحقا، بعد ساعة، كانت "الميغ" تحط في قاعدة عسكرية في شمال "إسرائيل".
بهذه العملية استطاع الموساد إنجاز دور من الطراز الأول على صعيد التجسس العالمي. وفي عالَم الاستخبارات "الإسرائيلية" الصغير سيتم من الآن فصاعدا تقسيم تاريخ الخدمة إلى "ما قبل العميل أميت" Amit و"ما بعد مايير Meir".(76-77)
ليس من المبالغة القول إن كثيرا من شهرة وسمعة الموساد كان فيها مبالغة، ولكن الجدية والمهنية التي تسود بين أفرادها غير قابلة للدحض ولا للتشكيك. ومن بين من صنع الموساد ومن يعود له الفضل في قوتها وجبروتها وقوتها وعجرفتها يظل اسم "مايير أميت" Meir Amit ماثلا للعيان. وكان هذا الرجل الذي تقاعد عن العمل في شهر مايو/ أيار من سنة، 1997 يجيب دائما على منتقديه بسبب ما يلاحظونه من "قفزاته الخيالية "بالجملة الشهيرة: "تذكروا طائرة الميغ 21 التي سرقناها من العراقيين".
من بين مزاياه العملية التركيز كثيرا على العامل البشري في الأرض. وهو ما أتاح عليه اختراق المخابرات المصرية وكذلك المخابرات السورية.
التجسس على العرب
كان "أميت" يثير رعب وبارانويا أعدائه، إذ أنه جنّد عددا لا سابق له من المخبرين والعملاء العرب. وكان ينطلق من مبدأ بسيط مستقى من قوانين الاحتمال، ويتمثل في أنه كلما كان عدد المخبرين كبيرا كانت الحظوظ كبيرة في الحصول على معلومات مفيدة. و"قد ساهم العديد من العرب الذين تمت استمالتهم في إلحاق الكثير من الخسائر في أوساط منظمة التحرير الفلسطينية بمدّهم لنا معلومات عن مخابئ أسلحتهم ومواعيدهم وأجنداتهم. ومقابل كل "إرهابي" كانت الموساد تقوم بتصفيته كانت تمنح للعميل و"المخبر العربي" دولارا واحدا".(80)
طريقة العمل الاستخباراتية "الإسرائيلية" تحت إدارة "أميت" كانت مثيرة للانتباه والدهشة. فقد كان المطلوب من العميل مدّها بمعلومات شخصية عن الطيارين المصريين. من بينها المسافة التي يتوجب على الطيار المصري أن يقطعها ما بين قاعدته العسكرية ومكان تناول الطعام. والوقت الذي يتطلبه استبدال المجموعات والطواقم ما بين مجموعات الليل والنهار، وكم من الوقت يظل فيه الطيار المصري حبيسا في ازدحام السير في شوارع القاهرة. ومعرفة إن كان لهذا أو لذاك عشيقة.
كان مركز الاستخبارات في تل أبيب يتلقى كل أسبوع معلومات ثمينة من هذا النوع، وأيضا حول طريقة وتوقيت صيانة طائراتهم وطريقة حياة طياريهم وتقنييهم وميولهم إلى الشرب وإلى الجنس، ومن منهم له ميول نحو الغلمان أو المواخير.
كان "مايير أميت" يقضي أوقاتا طويلة من أجل معرفة، ضعاف النفوس، الذين يمكنهم أن يتعاونوا مع المخابرات "الإسرائيلية". وكان يقول: "الأمر ليس مسلّياً، ولكن يجب أن نعرف بأن التجسس عملٌ قذرٌ".(81)
وكانت طريقة العمل تتلخص في إرسال خطابات ورسائل إلى عائلات هؤلاء الطيارين والتقنيين، رسائل تطفح بمعلومات وتفاصيل وافرة ودقيقة وصريحة عن عاداتهم الحميمية: عادات تخص هذا الابن البارّ أو هذا الزوج الوفيّ، وهي رسائل كثيرا ما كانت أحيانا تدفع هذا الطيار أو ذاك إلى طلب إجازة مرضية. في حين أن العديد من الضباط يتلقون مكالمات تخصّ الحياة الشخصية لزميل لهم، وغيرها من التفاصيل التي كانت تتطرق لمناح عديدة من الحياة الشخصية.
وبفضل اشتغال الجواسيس والعملاء والمخبرين على عين الواقع، فسّر "أميت" لرؤساء القيادة الجوية "بأن أهدافهم العسكرية يجب أن تُضرب ما بين الساعة الثامنة صباحا والساعة الثامنة والنصف. وإذن فإن ثلاثين دقيقة كافيةٌ لتدميرها، وستكون القيادة العسكرية المصرية محرومة من قسم كبير من الأفراد المهيئين للردّ والتصدّي".(83)
وهكذا كان. إذْ أنه في الساعة الثامنة ودقيقة واحدة من يوم الخامس من يونيو، 1976 قام الطيران الحربي "الإسرائيلي" بإنجاز ضربة قاصمة بفعالية مرعبة، وفي ثوان فقط كانت السماء مصبوغة بالأحمر والأسود، بسبب النيران والدخان الذي يتصاعد من شاحنات الوقود ومن الطائرات التي تم تدميرها بسبب انفجار الأسلحة التي كانت على متنها.(83)
وعلى الرغم من أن القائد الاستخباراتي "الإسرائيلي" "أميت" غادر دهاليز وأروقة الموساد، فإن نظريته وطرق اشتغاله وكيفية تجنيده للمخبرين والعملاء، يهودا كانوا أم عربا أو آخرين، ظلت كما كانت ولم تُمس. من يستطيع تغيير نظام اشتغال أثبت، بصور مدهشة، نجاعته؟
"لا يمكن قبول أيّ عميل "إسرائيلي" يهودي إذا كان مدفوعا في المقام الأول بعامل الربح المادي. وكذلك فالصهيونيون المتحمسون، هم أيضا، ليس لهم مكانٌ في الموساد. لأن التعصب يمنع من رؤية واضحة لأهداف المهمات. إن مهمتنا تستدعي حكما واضحا وهادئا ودقيقا. الناس تريد أن تلج الموساد لأسباب عديدة ومختلفة. السبب الأول هو المكانة والبريستيج. ثم هناك الرغبة في المغامرة. البعض الآخر يتصورون أنه من خلال وُلوجهم أروقة الموساد يمكنهم أن ينجزوا صعودا اجتماعيا. "إنهم أناسٌ وضيعون وصغار يريدون أن يصبحوا كبارا. بينما يتخيل البعض الآخر أن الموساد يمكنها أن تمنحهم سلطات سرية. إن واحدة من هذه الأسباب لا يمكن أن تكون صالحة".(85)
"إسرائيل" لا تفرّط قط في عملائها اليهود. يرى "أنيت" أن "كل عميل يجب أن يحسّ بأنه يمكن أن يعتمد على الموساد من خلال دعمها ومؤازرتها الكاملة. يجب تعهد عائلته، مهما حدث. كما أنه يجب توفير الحماية لها. كما أنه يجب توفير الحماية له هو أيضا. فإذا ما علمت زوجته، مثلا، بأنه يتوفر على عشيقة، فيجب طمأنتها. وإذا كانت له بالفعل عشيقة فلا يجب بأي حال من الأحوال تأكيد الأمر لزوجته. تحسيس العملاء بأنه يمكننا أن نكون معهم ولهم وبأننا نشكل معهم عائلة واحدة. بهذه الطريقة فقط يمكننا الحصول على ولائهم، ويمكننا التأكد من أن العميل سيقوم بأي شيء نطلبه منه".(85)
الجاسوس ذو القناع الحديدي
الكثير من المراقبين لعمل الموساد متأكدون من استقلاليتها عن الصديق والحليف الأمريكي، بل إنها تتجسس على الأمريكان حتى في عقر دارهم. يورد المؤلف في الفصل المعنون ب"الجاسوس ذو القناع الحديدي"، تفاصيل مثيرة عن الاختراق "الإسرائيلي" للأمريكيين، وخصوصا على يدي "رافي إيتان" Rafi Eitan والعميل بولارد Pollard.
"عاد إيتان إلى "إسرائيل" لقطف ثمار النظام الجديد للموساد. هذه الثمار فاقت آماله الأكثر جموحا وجنونا. فهو لم يتأخر في الحصول على تفاصيل آخر تسليم للأسلحة الروسية لسوريا ولدول عربية أخرى، مع تحديد دقيق لصواريخ إس إس 21 وإس آ، 5 بالإضافة إلى الخرائط وصور الساتالايت للترسانة السورية والعراقية والإيرانية. ولمصانع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. هذه المعلومات منحته رؤية ممتازة عن مجموع الطرق الأمريكية في التجسس واستجلاب المعلومات، ليس في الشرق الأوسط وإنما أيضا في جنوب افريقيا. العميل "بولارد" نجح، ضمن ما نجح فيه، في إيصال تقرير لوكالة الاستخبارات الأمريكية يعرض البنية الكاملة لشبكة الجواسيس في هذا البلد(جنوب أفريقيا)، نجح في إيصاله ل"إسرائيل". كما نجح في إيصال تقرير حول تفاصيل تفجير جنوب أفريقيا لأول قنبلة نووية في 14 أيلول/سبتمبر من سنة 1979 في جنوب المحيط الهندي. وقد كانت حكومة جنوب أفريقيا تنفي دائما هذا الخبر. وقام أيتان بتسليم سلطات جنوب أفريقيا نسخا من كل الوثائق الأمريكية المتعلقة بجنوب أفريقيا، وقد تسبب الأمرُ بتفكيك فوري لشبكة المخابرات الأمريكية، مما اضطر 12 عميلا من الأمريكيين إلى مغادرة بريتوريا".(126)
يورد المؤلف تفاصيل أخرى عن إنجازات العميل "الإسرائيلي" بولارد: "خلال الشهور الاثنا عشر التي أعقبت انسحاب الأمريكيين من جنوب افريقيا، في تحويل المعلومات الهامة التي ترِدُ إلى المحطات السرية الأمريكية إلى "إسرائيل". وكانت الحصيلة أنه نقل أكثر من 1000 وثيقة "بالغة السرية"، إلى "إسرائيل"، حيث كان أيتان، شخصيا، يقوم بدراستها العميقة قبل أن يسلمها إلى جهاز الموساد. وقد أتاحت هذه المعطيات لناحوم أدموني، مستشار حكومة الائتلاف "الإسرائيلية" التي يترأسها شيمون بيريز، أفضل الطرق للردّ على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وهو ردّ كان في السابق مستحيلا".(126)
وقد جعلت هذه الظروف وهذا العمل الاستخباراتي من العميل بولارد عنصرا حاسما في السياسة "الإسرائيلية"، وكذا في اتخاذ القرارات الاستراتيجية. وقد سمح رافي أيتان للعميل بولارد الحصول على جواز سفر باسم "داني كوهن"، بالإضافة إلى منحه مرتبا شهريا مهما جدا. ولكنه في المقابل طلب منه تفاصيل إضافية حول نشاطات التجسس اللإلكترونية لوكالة الأمن القومي الأمريكية NSA في "إسرائيل"، وطلب منه معلومات حول طرق التنصت ضد السفارة "الإسرائيلية" في واشنطن، وضد المهمات الدبلوماسية الأخرى للدولة اليهودية في الولايات المتحدة.(127)
لكن العميل تم إيقافه في 21 نوفمبر من سنة، 1985 قبل أن يقوم بتسليم هذه الطلبات. وبعيد إيقاف بولارد، بساعات خمس، استطاع العملاء ياغور وسيلا وإيريت إرب الانسحاب من التراب الأمريكي والوصول إلى "إسرائيل"، حيث لفظتهم الأرض بين أقرانهم من العملاء الذين تعج بهم "إسرائيل".
ولكن "إسرائيل" وفية لعملائها، من اليهود، فقد مارست ضغوطا شديدة على الإدارة الأمريكية، من خلال العديد من المنظمات واللوبيات المنتشرة في الولايات المتحدة من أجل إطلاق سراح عميلها. سنة 1999 قام مؤتمر المنظمات اليهودية الكبيرة بمناشدة الإدارة الأمريكية إطلاق بولارد بدعوى أنه لم يرتكب خيانة عظمى "لأن "إسرائيل" كانت في تلك الفترة، ولا تزال لحد الساعة، أقرب حليف للولايات المتحدة".
العديد من مسؤولي وكالة الاستخبارات الأمريكية كانوا ضد إطلاق سراحه. كانوا خائفين من أن يُقْدِم الرئيس كلينتون في بعض شطحاته الدونكيشوتية على إطلاق سراح العميل "الإسرائيلي" قبل انتهاء ولايته الرئاسية من أجل إرغام "إسرائيل" على الدخول في اتفاق سلام مع العرب ومنحه النجاح الأخير في سياسته الخارجية. وهو نفس التخوف الذي انتاب رئيس الاستخبارت الأمريكية في حينها "جورج تينيت" Georges Tenet، حين قال للرئيس كلينتون: "إطلاق سراح بولارد سيثبط من معنويات الأجهزة السرية الأمريكية".
أما ما يخصّ رافي أيتان، الذي يراقب عن كثب، تطور الأحداث فهو يردد لرجاله: "حين سيصل جوناثان بولارد أخيرا، إلى "إسرائيل" سأشرب معه كأس قهوة". وفي انتظار إطلاق سراح عميله، فأيتان يواصل فرك أصابعه، مسرورا من العملية التي أشرف عليها بعنايته ضد الولايات المتحدة، وهي العملية التي جعلت من "إسرائيل" أول قوة نووية في الشرق الأوسط.
هكذا تم اغتيال أبوجهاد والشقاقي ومحاولة اغتيال مشعل
من بين الفصول الأكثر إثارة للرعب والتقزز من الوسائل التي تلجأ إليها الموساد، نقرأ فصلا حمل عنوان "المنتقمون"، وهو يتحدث بالطبع عن الصراع الدامي بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل". هذه المرة سيدخل إلى الحلبة إسحاق رابين الحاصل على جائزة نوبل للسلام. يقول المؤلف إن رابين كان يداوم، منذ ثلاث سنوات من رئاسته للحكومة "الإسرائيلية"، على حضور جنازات ضحايا العمليات الفلسطينية التي كانت تطال الكيان. بنفس طريقة اشتغال العملاء والجواسيس "الإسرائيليين" التي رأيناها في غير ما موضع. يورد المؤلف أنّه "خلال شهرين، قام مخبرو الموساد بمراقبة شاملة لفيلاّ أبو جهاد في "سيدي بوسعيد" بالقرب من العاصمة التونسية. طرق الإيصال ونمط ومستوى التسييجات وتنقلات الحرس.. كل شيء تمّ تسجيلُهُ والتحقق منه ومعاودة التحقق منه..." (162)
كما أن المراقبة طالت حتى أم جهاد، زوجة القائد الفلسطيني، فكانت تتعرض للمراقبة حين كانت تلعب مع أولادها، وحين تتوجه إلى صالون الحلاقة. وكان الموساد يتنصت على المكالمات الهاتفية بينها وبين زوجها. وضع الموساد أجهزة تنصّت في مخدعهما الزوجي، سجلت ادق اللحظات الحميمة بينهما.
يورد المؤلف تفاصيل اختراق الكوماندوس لفيلاّ القائد الفلسطيني وتصفية حارسيه، ثم مفاجأته وهو داخل غرفته منهمكا في مشاهدة شريط فيديو لمنظمة التحرير الفلسطينية وقتله بدم بارد. ثم تهديد زوجته ومطالبتها بالاحتماء في غرفتها. بعد العملية تبخر الكوماندوس في الهواء.
وعلى الرغم من انتقاد بعض "الإسرائيليين" لهذا الانتقام الوحشي، فإن الموساد واصلت تصفياتها واغتيالاتها. بعد شهرين من اغتيال أبو جهاد، كشفت جنوب إفريقيا عن قيام "إسرائيل" بتصفية رجل الأعمال "ألان كيدجر"، في جوهانسبورغ بدعوى أنه قام بتسليم إيران والعراق تجهيزات بالغة التقنية للمساهمة في صناعة الأسلحة البيوكيماوية. بعد ستة أشهر قامت الموساد بتصفية ثلاثة من أعضاء الجيش الجمهوري الإيرلندي. ويعود اهتمام "الموساد" بالجيش الجمهوري الإيرلندي إلى الفترة التي دعت فيها حكومة مارغريت تاتشر، في سرية تامة، "رافي إيتان"، لزيارة بلفاست، كي يشرح لموظفي الاستخبارات البريطانية العلاقات الوثيقة، التي تربط بين الجيش الجمهوري الإيرلندي وحزب الله.
يروي إيتان هذه القصة: "وصلتُ ذات يوم ممطر، وأعلمتُ البريطانيين بما كنت أعرفه. ثم توجهتُ إلى الرّيف الإيرلندي إلى حدود جمهورية إيرلندا الجنوبية. من دون أن ألجها خوفا من احتجاج حكومة دبلن، في حالة اكتشافي". (165-166)
كانت الزيارة مثمرة إذ إنه منذ هذه الزيارة استطاعت "الموساد" بالتنسيق مع الاستخبارات البريطانية تصوير مسؤولين من الجيش الجمهوري الإيرلندي مع قياديين من حزب الله في بيروت. (166)
الفصل يعج بمعلومات، لا عد لها ولا حصر، ومن ضمن ما تتضمنه مطاردة الزعيم الفلسطيني فتحي الشقاقي، زعيم تنظيم الجهاد الإسلامي، ويدخل الكاتب في تفاصيل عن تنقلاته وطريقة عيشه وعلاقاته الوثيقة مع الكثير من القادة العرب والمسلمين، إلى مقتله في مالطا على أيدي الموساد، بعد زيارته للجماهيرية الليبية.
"في هذا المساء الذي حان فيه مصيره بين يدي الموساد، كان الشقاقي يتواجد في بيته مع زوجته "فتحية". (...) وبينما كان يتمتع بوجبة الكسكس، قال لزوجته إنه لا يخاطر بنفسه في زيارته القادمة إلى الجماهيرية الليبية. وإنه بصدد الحصول على مساعدات إضافية من الرئيس القذافي. كان يأمل العودة بمقدار مليون دولار. وهو المبلغ الذي طلبه عن طريق الفاكس من الزعيم الليبي".
دامت المطاردة فترة من الوقت. وطوال هذه الأوقات كان عملاء "الموساد" على علم بتاريخ وصوله من العاصمة الليبية. وهنا بعض التفاصيل عن اللحظات الأخيرة من حياة هذا الزعيم الفلسطيني.
"وصل فتحي الشقاقي في هذا اليوم على متن سفينة طرابلس-لافاليت، محفوفا ببعض الحرس الليبيين الذين ظلوا على متن السفينة. وكان الشقاقي قبيل عودته من الجماهيرية قد حلق ذقنه. قدّم نفسه لمسؤولي الجمارك تحت اسم إبراهيم درويش بجواز سفر ليبي. وبعدها نزل في فندق "ديبلومات" وهناك جلس في مقهى الفندق وطلب العديد من كؤوس القهوة التي شربها مع تناول الحلويات العربية. وخلال هذه الفترة أجرى اتصالات هاتفية عديدة.
في صباح اليوم التالي وحين كان متوجّها إلى ممر الإقلاع، ومعه قمصان وعد ابنه بشرائها، ظهر رجلان يركبان درّاجة نارية وتوقفا في مستواه، وقام أحدهما بإطلاق ست رصاصات عن قرب، فمات الشقاقي على الفور.. (178).
بعد مقتل الشقاقي بأربعة أيام، عرف إسحاق رابين، الذي كان قد تحول من صقر إلى حمامة نفس المصير، ولكن هذه المرة على يد قاتل يهودي، وهو إيغال أمير.
محاولة اغتيال مشعل
مسلسل الاغتيالات لم يتوقف بعد مقتل رابين، فقد تولى الحكم بنيامين نتنياهو، كما أن العمليات الفلسطينية لم تتوقف. واكتشف "الإسرائيليون" هدفا فلسطينيا ثمينا يتوجب تصفيته، وهو خالد مشعل.
كان خالد مشعل في الأربعينات من عمره (41 سنة)، ذا هيأة صارمة، وكانت لديه لحية كثيفة. ويقيم بالقرب من قصر الملك حسين، ويبدو "جيدا في كل علاقاته"، كان أيضا زوجا صالحا، وأبا لسبعة أبناء، مثقفا، وخطيبا مُفوَّها، وعرف كيف يظل في الدوائر العليا من الحركة الإسلامية. ولكن المعطيات التي كان يتوفر عليها الموساد كانت تشير إلى أنه هو المحرّض على العمليات الانتحارية (الاستشهادية) ضد المدنيين "الإسرائيليين". (187).
يطلب نتنياهو من المسؤول "ياتوم" إرسال مجموعة لتصفية خالد مشعل الذي كان يتواجد في عمّان. يستعرض القائد ياتوم الأسباب التي تجعل من قتله بالأردن عملية غير مفيدة للكيان: "إن الاغتيال في الأردن سيدمر كل جهود التقارب التي أرساها سلفه رابين. كما أن مقتله في الأردن سيهدد نشاطات الموساد في هذا البلد، الذي يمرّ عبر أراضيه سيلٌ من المعلومات الثمينة التي تخص سوريا والعراق والتنظيمات الفلسطينية المتطرفة". ثم يقترح على رئيس الوزراء تصفيته حال مغادرته للأردن. هنا صرخ نتياهو في وجه جليسه قائلا: "تبريرات.. هذا هو كل ما تستطيع أن تقدمه إليّ. أنا أريد أفعالاً. الآن الشعب يريد أفعالا. قريبا سنحتفل بعيد روح "ها شاناه"، سيكون مقتله هو هدية السنة الجديدة". (186)
الكثيرون من المسؤولين "الإسرائيليين" حاولوا ثني رئيس الوزراء عن إعطاء الأمر بتصفية مشعل في الأردن، ولكنّه رفض، معلّلا ذلك برفضه كلّ شكل من أشكال الانهزامية.
فشلت العملية التي استخدمت فيها الموساد أول مرة سلاحا غير السلاح الناري. وقد أثبت فشل هذه المحاولة أن الموساد لا ينجح في كل ضرباته. وقد اضطرت "إسرائيل" ليس فقط إلى الاعتذار من الأردن ومليكه، بل وأرسلت ترياق المادة السامة التي رشّت بها الزعيم الفلسطيني.
يورد المؤلف أن الملك الأردني حسين صرح لرئيس الوزراء "الإسرائيلي"، بأنه يحس كما لو أنه رجلٌ تعرضت ابنته للاغتصاب من طرف أعز أصدقائه. وأنه قال لنتنياهو إنه يستطيع أن ينفي الأمر جملة وتفصيلا لأن عملاءه اعترفوا بكل شيء، وبأن الشريط في الطريق إلى واشنطن، حيث ستشاهده وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت من دون تأخير. (...) ظل رئيس الوزراء "الإسرائيلي" مشدوها وعاجزا عن الردّ والكلام، ولم يقل شيئا حين أصرَّ الملك حسين على ضرورة إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين وكذلك العديد من الأسرى الفلسطينيين. كانت المكالمة الهاتفية بين الملك حسين ونتنياهو من أسوأ لحظات هذا الأخير في حياته السياسية. (193).
حين كُشِفتْ، على العلن، تفاصيل العملية "الإسرائيلية" الفاشلة، أمام الرأي العام "الإسرائيلي"، تلقّى نتنياهو من الانتقادات، إنْ كان من الصحف "الإسرائيلية" أو الدولية، ما كانت ستدفع أيّ مسؤول "إسرائيلي" أمامه، إلى تقديم استقالته. وبعد ما يقرب الساعة أرسلت "إسرائيل" الترياق إلى الأردن وتمّ علاج خالد مشعل.
الحادث الفاشل جرّ مشاكل لنتياهو، كان في غنى عنها، حيث أن أولبرايت عنفته، كما أن كندا احتجت بقوة بسبب استخدام العملاء "الإسرائيليين" لجوازات سفر كندية، وهو احتجاج قارب قطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان.
بعد مرور أسبوع من الحادث أطلقت "إسرائيل" سراح الشيخ أحمد ياسين. أما فيما يخص العميلين الفاشليْن فقد أحيلا إلى وظائف بيروقراطية في مقرّ الموساد. وحسب عميل للاستخبارات "الإسرائيلية" فإن: "حظهما كبير في أن يتم الاحتفاظ بهما كحارسيْ مراحيض..".
الجاسوس الجنتلمان
في فصل آخر بعنوان "الجاسوس الجنتلمان"، يورد دلائل إضافية على التفرد "الإسرائيلي" في ما يخص العلاقات مع الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أن الكثيرين يعتبرون "إسرائيل" مقاطعة أو ولاية أمريكية، فالأدلة هنا في الكتاب وفي هذا الفصل، تشير إلى غير ذلك، تماما. إشارات إلى توتر وإلى سرقات متبادلة وتجسس ضد الآخر، وتفكير في مصالح كل بلد على حدة.
في هذا الفصل عن الجاسوس الجنتلمان بورتريه نادر ل"ديفيد كمحي"، والذي تبوّأ مناصب كبرى في هرم السلطة "الإسرائيلية". حين استلم آية الله الخميني ورجاله السلطة في إيران، الجار غير البعيد عن "إسرائيل"، أحس كمحي بصدمة كبيرة حين استنتج إلى أي درجة فشلت وكالة الاستخبارات الأمريكية والإدارة الأمريكية في تقدير صحيح للوضعية هناك.
حين تسلم رونالد ريغان السلطة في واشنطن أحسّ "كمي" بأن هذا الرجل ليس صديقا ل"إسرائيل" ولكنه، على العكس، مُحاوَرٌ يمكن خداعهُ إذا تطلبت الضرورةُ. تتبع كمحي عن قرب عمليات الاستخبارات الأمريكية في أفغانستان وفي أمريكا الوسطى. وقد صدمته العديدُ منها بسبب "طابعها الساذج والبطيء، وميلها البذيء نحو المجزرة". وهو ما جعل الجاسوس الجنتلمان يقلب بصره نحو مصدر آخر للخطر وهو لبنان وإيران.
يورد المؤلف بأن أول فكرة خطرت على بال كمحي حال توليه حقيبة الخارجية "الإسرائيلية"، هي مسألة بيع الأسلحة لنظام الملالي في إيران، بمباركة من الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت الرغبة من وراء ذلك هي إضعاف النظام العراقي، انسجاما مع التكتيك القديم جدا والذي يتعلق "بوضع العدوّ بين نارين". (222).
بعد ثلاث سنوات من هذه السياسة ومن هذه العلاقة مع إيران، جاءت تطورات لتغير من الوضعية، وعلى رأسها مقتل 241 من المارينز الأمريكان إثر انفجار شاحنة ملغومة في بيروت، ومن ثم الشكوك الأمريكية التي كانت ترى أن الموساد كان على علم بها، ومن جهة أخرى أن المخابرات الإيرانية ساهمت في إعدادها. فقررت أمريكا أن تطالب "إسرائيل" بوقف الإمدادات العسكرية لإيران على الفور، وقد تضاعفت الضغوط الأمريكية، خصوصا بعد احتجاز وموت ويليام بوكلي William Buckley، رئيس قسم الاستخبارات الأمريكية في بيروت. وفي تتابع للأحداث تم اختطاف سبعة أمريكيين في لبنان من قبل تنظيمات أصولية تدعمها إيران.
مع تولي الرئيس ريغان كان عليه أن يعيد الرهائن إلى بلدهم، وكانت تخاطره في البداية فكرة ضربة مباشرة لطهران، ولكن مستشاريه أقنعوه بالبحث عن خطة أخرى. يُورد الكاتب نقاشا جرى بين الرئيس ريغان ومستشاره "روبرت ماك فارلين" Robert MacFarlane :
- في نظرك، ما الذي يحتاجه الإيرانيون؟
- عليك أن تقوله لي، يا بوب.
- يريدون الأسلحة من أجل مواجهة العراق.
- إذنْ، امنحهم الأسلحة، وفي المقابل ليطلقوا سراح رهائننا.
كانت الخطة الأمريكية غير واضحة المعالم، أو أنها كانت تضع علاقاتها العربية في حرج ظاهر، وخصوصا مع الدول الخليجية، التي كانت قد بدأت ترتاب من السياسة التوسعية الإيرانية. ومن هنا اقترحت "إسرائيل" أن تقوم هي بإمداد الإيرانيين بالسلاح، حتى لا يبدو وكأن الولايات المتحدة قد أعادت علاقاتها مع إيران وتستمر، في نظر الرأي العام الدولي، السياسة العدوانية الأمريكية التي تطمئن الدول العربية الصديقة. وهكذا: "سيستمر الحصار الأمريكي على إيران، رسميا، كما أن إطلاق الرهائن الأمريكيين لن يقترن ببيع الأسلحة لإيران" (226).
بعد كثير من اللف والدوران وافق الرئيس ريغان على المبادرة، واقترح تعويض كل الأسلحة التي ستقوم "إسرائيل" ببيعها لأيران. ولكن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" آنذاك إسحاق شامير، شعر بأنه يجب اتخاذ احتياطات كي "تستطيع "إسرائيل" نفي أي دور لها في القضية حال ظهور مشكل ما" (227).
وكحلّ مسبق وتداركا مسبقا لأي مشكل طارئ، قرر وزير الخارجية "الإسرائيلي" الاستعانة بكثير من الشخصيات من بينها "عدنان خاشقجي"، البيتروملياردير، المشهور بعشقه للكافيار والنساء، وأيضا منوشهر طوربانيفير العميل السابق لجهاز الاستخبارات الإيرانية تحت حكم الشاه(السافاك)، وأيضا ياكوف نمرودي الملحق العسكري السابق ل"إسرائيل" في إيران.
يتحدث المؤلف عن دور خاشقجي في القضية: "اقترح خاشقجي مونتاجا، وهو تأسيس كونسورتيوم موجه لتعويض الولايات المتحدة في حالة ما إذا لم تحترم إيران تعهداتها، وأيضا تعويض إيران إذا لم تكن الأسلحة متوافقة مع الاتفاق. وفي المقابل يقوم الكونسورتيوم باقتطاع عُمولة تصل إلى عشرة في المائة على بيع كل الأسلحة المشتراة، بفضل أموال توفرها الولايات المتحدة. وهكذا يلعب الكونسورتيوم دور الواسطة من خلال ترك إمكانية نفي ما حدث للإيرانيين وللأمريكيين في حال ظهور شيء طارئ. ومن الطبيعي أن يُفلت هذا الكونسورتيوم من كل مراقبة سياسية وسيكون، بشكل حصري، مرتبطا بالبحث عن الربح" (227) .والشيء الذي يشغل بال الأمريكان و"الإسرائيليين" هو ألا يعلم الرأي العام الدولي بما حدث.
الترسانة التي سيبيعها هذا الكونسورتيوم لإيران ضخمة وتتضمن 128 دبابة أمريكية و200000 كاتيوشا و10000 طن من القذائف من كل الأنواع، و3000 صاروخ جو جو، و4000 بندقية وما يقرب من 50 مليون رصاصة، إلخ... وقد شاركت الكثير من الدول في تلبية طلبات الكونسورتيوم ومن بينها بولونيا وبلغاريا والصين والسويد وبلجيكا.
يعلل كمحي تغيّر استراتيجيته بالتأكيد على أنه "وجد نوعا من أرضية تفاهُم مع ياسر عرفات. إذْ إن زعيم منظمة التحرير الفلسطينية اعترف بنفسه بأنه شخصيا تنبّأ، قبل رُبْع قرن، "بالخطر الذي يمكن أن تشكله الأصولية الدينية في فجر الألفية الجديدة" (230). وينتهي البورتريه الذي وضعه المؤلف لكمحي بهذه الفقرة:
"من مكتبه الصغير، المطلّ على حديقة عايش نموّ محتوياتها، كان كمحي، من الآن فصاعدا، قادرا على التلفظ بهذا الحكم المتوازن: "لا يمكن أن أغفر لعدوّي القديم كونه كفل اغتيال مواطني بلدي. ولكني أيضا لن أسمح لنفسي أن أرْفُض لعرفات-ول"الإسرائيليين"- أخيراً فرصةَ وضع حدّ، إلى الأبد، للمجزرة" (230).
إن طرق الموساد من أجل جمع المعلومة وتصفية الأعداء واختطافهم عند الضرورة عديدة ومتنوعة ومن بينها استخدام عامل وسلاح فعّال وحيوي وهو المرأة والجنس. وفي الفضل الذي أعطاه المؤلف عنوان "جنس وكذب وبقشيش"، يروي، ضمن ما يرويه من التفاصيل قصة العالِم النووي "الإسرائيلي" "فعنونو"، الذي فجّر قنبلة من العيار الثقيل حين اعترف بامتلاك "إسرائيل" لترسانة نووية هائلة، لم تفصح عنها من قبلُ. ولأن الأمر صدر من داخل المؤسسة العسكرية ومن شخص يعرف جيدا ما تلفظ به، فقد كان لزاما على الموساد اختطاف هذا العدو الداخلي، الذي أصدر تصريحاته وهو متواجد في خارج دولة "إسرائيل".
أوكل الموساد المهمة ل"شيري بين توف" كي توقع فعنونو في شباكها. وهذا الدور معروف في الموساد ويتضمن أن تمرّر المرأة نفسها على اساس كونها إما زوجة أو صديقة لجاسوس "إسرائيلي" في مهمة، وتشتغل في العديد من المدن الأوروبية من دون أن تضاجع أيّا كان من "عشاقها" أو "أزواجها".
أخْبِرَتْ شيري بأن فعنونو تم تحديد مكانه في بريطانيا، وبالتالي فعليها أن تسقطه في شركها، لكن خارج المملكة المتحدة. فقامت بتهيئة حالها على أساس أنها سائحة أمريكية تسافر وحدها في أوروبا بعد طلاق مؤلم. وكي تضيف توابل من المصداقية والجدية في قولها كان عليها أن تذكر كثيرا من التفاصيل التي عاشتها، بصفة شخصية، مع طلاق والديها، ومن حين لآخر يجب أن تشير إلى أختها الموجودة في روما، من أجل هدف نهائي وهو جذب فعنونو إلى العاصمة الإيطالية. في الثلاثاء من سبتمبر/ أيلول من سنة 1986 التحقت شيري بتسعة عملاء "إسرائيليين" يشتغلون في التراب البريطاني، تحت رئاسة وتوجيه "بيني زييفي".
نزلت "شيري بين توف"، تحت اسم مستعار "سيندي جونسون"، في فندق ستراند بالاس في الغرفة رقم 320 في حين نزل رئيس فرقة الموساد المكلف برصد ومطاردة فعنونو في فندق مونتباتن في غرفة قريبة من غرفة فعنونو 105.
لاحظ الجاسوس تغير مزاج فعنونو فقد كان يبدي علامات توتّر، إذ كانت لندن بالنسبة له محيطا صعبا بالنسبة لشخص عاش في مدينة صغيرة مثل مدينة "بئر السبع". وعلى الرغم من مجهودات أصحابه فقد كان يبدو منعزلا ومحتاجا إلى رفقة نسائية. وقد كان نفسانيو الموساد قد فكروا، بشكل طبيعي، في هذه الإمكانية.
الأربعاء من سبتمبر/أيلول من سنة، 1986 ألح فعنونو كثيرا كي يسمح له حُماتُهُ وحراسه من مجلة "صانداي تايمز" بالخروج وحده. قبلوا على مضض. تتبعه، من دون أن يعلم بالأمر، أحد الصحافيين الذي فاجأه وهو يتحدث مع امرأة شابة. فيما بعد ستمنح الصحيفة هذا الوصف عن السيدة: "يهودية على الأرجح، عمرها يزيد قليلا على العشرين، طولها متر وسبعون سنتمترا، جسدها مستدير بعض الشيء، شعرها أشقر، أما الحذاء فكعبه عالٍ". انتهى الحوارُ في بضع دقائق، ولدى عودته إلى الفندق أخبر فعنونو حراسه بخبر التقائه بشابة أمريكية تدعى سيندي. وعبر عن رغبته في معاودة الالتقاء بها. عبر رجال مجلة "صنداي تايمز" عن قلقهم. لاحظ أحدهم أن الالتقاء بسيدة جميلة في المكان الذي جرى فيه اللقاء ليس مصادفة عادية. كنّس فعنونو هذه الاعتراضات. ما كان يعرفه عن سيندي كان يكفيه لمنحه رغبة في رؤيتها ليس في لندن وإنما في بيت أختها في إيطاليا.
سافر زيفي (مسؤول الموساد في بريطانيا) مع أربعة من عملائه في نفس الطائرة التي أقلّت فعنونو وشيري إلى روما. ركب فعنونو وشيري سيارة تاكسي تقلهما إلى الشقة في المدينة. وفي داخل الشقة كان الجواسيس الثلاثة ينتظرونه، وعلى الفور حقنوه بمادة مُشلّة. وفي المساء من ذلك اليوم وصلت سيارة إسعاف إلى العمارة وحملت فعنونو على نقّالة المرضى. أخبر أحد الجواسيس، وهو يتظاهر بانشغال البال، الجيران بأن وعكة صحية أصابت الرجل. غادرت السيارة روما وسارت محاذية الشاطئ في اتجاه الجنوب. وهناك كانت سفينة تنتظر فعنونو. بعد ثلاث ليال كانت السفينة ترسو في ميناء حيفا.
قضى فعنونو أكثر من أحد عشر سنة في السجن الانفرادي. بعدها تحسنت ظروفه قليلا، بسبب الضغوط الدولية القوية التي تعرضت لها "إسرائيل"، في مايو/ أيار من سنة 1998. لم يتلقّ فعنونو أي مقابل من مجلة "صنداي تايمز" نظير اعترافاته. بعد عشر سنوات على الحادثة، شيري التي زاد وزنها قليلا، واستدار جسمها بعض الشيء، ظهرت في أورلاندو. حسب الرواية الرسمية كانت تقضي عطلتها في "ديزني لاند" مع بنتيها.
وحين سئلتْ في نيسان من سنة 1997 من قبل صحافي يشتغل مع "صنداي تايمز"، لم تنف دورها في اختطاف فعنونو. خشيتها الوحيدة هي أن كل الدعاية "تلحق ضررا" ب"وضعيتها" في الولايات المتحدة (275).
العميل إسماعيل صفوان الذي اتهم باغتيال ناجي العلي
في يوم الثلاثاء الفاتح من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 1985 قامت الطائرات "الإسرائيلية" بتدمير المقر العام لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس. وقد جاء هذا الهجوم الجريء ردا على قيام الفلسطينيين باغتيال ثلاثة سياح "إسرائيليين" في لارناكا. هذا الاغتيال الذي أثار موجة سخط كبيرة في "إسرائيل".
بعدها قامت "إسرائيل" بالعديد من العمليات انتهى بعضها إلى نتائح مضحكة. ومن بين ذلك قصة السفينة "ليرجات" Learjet والتي جاءت لتنتقم من احتجاز الفلسطينيين للسفينة "أكيلي لاورو" يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول 1985 وقتلهم لراكب أمريكي، ولكن احتجاز السفينة الفلسطينية سيجعل "الاسرائيليين" يحصلون على صفر. كانت توقعاتهم وتوقعات الموساد تشير إلى أن السفينة تتضمن صيدا ثمنيا وهو يتمثل في القياديين الفلسطينيين الكبيرين: أبو نضال وأحمد جبريل. كان صيدا مضحكا حيث توَاجَه المحققون "الإسرائيليون" مع فلسطينيين عاديين ومرعوبين. ولكن مع ذلك فإن الموساد أراد من هذه الضربة الفاشلة أن يقدم صورة عن "عدم تفويت أي فرصة لتخويف العرب"، خصوصا وأن وسائل الإعلام العربية كانت قد بدأت تعبر عن الثقة في النفس.
كي تغسل الموساد فضيحة ومضحكة عدم توقيف أبو نضال وأحمد جبريل، قررت تنفيذ خطة جهنمية ستؤدي في نهايتها إلى تضييع حياة خادمة إيرلندية والحكم على عشيقها العربي بحكم سجن لم تعرفه السجون البريطانية من قبل، والتسبب في أزمة ديبلوماسية كان من بين الفاعلين فيها الوزير الأول الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني هيلموت كول، ووضع سوريا خارج المحفل الدولي.
ابتدات العملية من خلال محاولة مسبقة للإجابة عن بعض الأسئلة: "هل يمكن للخطة أن تنجح؟ هل يمكن للجمهور أن يصدق بأن الخطة سارت كما هي؟ وهل يمكن للحقيقة أن تظل مستورة إلى الأبد؟".
الخطة ترتكز على مجهود عميلين اثنين، هما عميل يهودي يشتغل في بريطانيا تحت اسم مستعار هو "توف ليفي"، والثاني مخبر فلسطيني يحمل اسم "أبو"، وقد أصبح الفلسطيني عميلا "إسرائيليا" بعد أن فاجأته الموساد وهو يبذر أموالا تلقاها من منظمة التحرير الفلسطينية وموجهة لقرية على الحدود الأردنية "الإسرائيلية"، هددته بكشف سره وهو ما يعادل الخيانة من قبل مواطنيه وأقنعته بالسفر إلى لندن. منحته جواز سفر مزوراً لرجل أعمال، وهناك تلقى التعليمات من قبل الموساد، وقد استطاع من خلال مشاركته في لعب القمار أن يتلقي بتجار سلاح أثرياء مرتبطين بمنظمة التحرير الفلسطينية وحصل منهم على معلومات قيمة أتاحت للموساد أن يلحق ضربات موجعة بالفلسطينيين (بفضل المعلومات التي قدمها "أبو" استطاعت "إسرائيل" اغتيال خمسة عشر رجلا من رجالات منظمة التحرير الفلسطينية). ولكن المهمة الكبيرة ل "أبو" كانت في استدراج شاب فلسطيني، "نزار هنداوي" وهو من أقاربه البعيدين، وقد استقر ببريطانيا على أمل التقرب من منظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي. وقد استغل "أبو" علاقة قريبه بفتاة إيرلندية سقطت حاملا من علاقاتها معه. يحتاج الهنداوي إلى الأموال فلا يجد سوى قريبه لمساعدته. ولكن "أبو" الذي بذّر أمواله في القمار، لم يجد ما يساعد به قريبه. يلتقي "أبو" برئيسه اليهودي "توف ليفي"، فيخبره بأن الوقت حان لتوريط السفارة السورية في لندن وأن "الإسرائيليين" يحتاجون إلى طعم. هنا يتدخل "أبو"، ويقول لرئيسه "الإسرائيلي" بأنه يعرف الطعم، وهو قريبه وصديقة قريبه الإيرلندية.
قررت الموساد القيام بضربة كبرى ترغم بريطانيا على قطع علاقاتها الديبلوماسية مع سوريا وإغلاق السفارة السورية في لندن. هنا يتوجه "أبو" عند قريبه هنداوي يمنحه 10000 دولار، جاءت من الموساد، وطلب منه في المقابل مساعدته في الدفاع عن القضية التي يؤمنان بها معا، وهي الحرب السرية ضد "إسرائيل".
يقرر هنداوي إرسال صديقته الحامل لزيارة أهله في "إسرائيل"، ويطلب منها أن تحمل معها هدية بعث بها أحد أصدقائه لخطيبته. في المطار اللندني، يوقف البوليس البريطاني الشابة الإيرلندية وهي تحمل في حوائجها مادة شديدة الانفجار. وعلى الفور تقرر بريطانيا تحميل سوريا مسؤولية ذلك وتقوم بقطع العلاقات معها. ويصدر الحكم على هنداوي بالسجن خمسة وأربعين سنة، على الرغم من أنه لم ينفكّ يقسم ببراءته وبدور الموساد في القضية. في حين أن "أبو" هُرّب إلى "إسرائيل".
الكثيرون من الساسة الغربيين والمراقبين لم يصدقوا الرواية البريطانية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جاك شيراك، الذي صرح لصحيفة الواشنطن بوست بأن النظام السوري لا علاقة له بمحاولة تفجير الطائرة التي حوكم عليها الهنداوي، وأضاف بأن الأمر يتعلق ب "مؤامرة خطط لها الموساد". وهو تصريح كاد يقضي على مستقبل شيراك السياسي.
في فصل معنون ب "رسم (كاريكاتوري) أكثر من اللازم"، يقول المؤلف إن الاتصالات بين الفلسطينيين (منظمة التحرير الفلسطينية) والأمريكان قديمة وهي تعود إلى سنة 1973 حيث يكتب هنري كيسنجر في مذكراته بأن الأمر يعود إلى الفترة التي أعقبت اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم من قبل منظمة "أيلول الأسود". اللقاء تم بين "ياسر عرفات" و"فيرنون والترز" نائب رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية. ونجم عن اللقاء "معاهدة عدم اعتداء"، ويعلق كيسنجر بأن الهجمات ضد الأمريكيين توقفت أوعلى الأقل من قبل المقربين من منظمة التحرير الفلسطينية.
"الإسرائيليون" غضبوا من الموقف الأمريكي، و"خصوصا حين علموا أن الشخص الفلسطيني المكلف بالتنسيق مع الوفد الأمريكي لم يكن سوى علي حسن سلامة، الملقب بالأمير الأحمر، رئيس مجموعة أيلول الأسود، والمخطّط لمجزرة ميونيخ التي استهدفت الرياضيين "الإسرائيليين"، ثم اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم.
ويستعرض المؤلف العلاقات الوثيقة التي كانت تربط علي حسن سلامة والمعلومات الثمينة التي قدمّها للأمريكيين وخصوصا تحذيرهم من مؤامرة دبرتها إيران لإسقاط طائرة كيسنجر، كما أنه أخبر الأمريكيين بمحاولة لاغتيال السفير الأمريكي في بيروت، كما أنه في أحد اللقاءات مع الوفد الأمريكي وقّع على "ضمان عدم اعتداد على كل الدبلوماسيين الأمريكيين في لبنان".
حاول "الإسرائيليون" إقناع الأمريكيين بوقف التعاون مع سلامة، الذي كان يمنح الأمريكيين فرصة معرفة كل ما يدور في الشرق الأوسط، بل وأصبح ضروريا لوكالة الاستخبارات الأمريكية، وحين قامت "إسرائيل" باغتياله لم يَرُقْ الأمر للأمريكيين وظلت العلاقات بين الأمريكيين و"الإسرائيليين" باردة خلال فترة طويلة.
السفير الأمريكي في بيروت كان حزينا على مقتله، وصرح: "أعرف أنه(سلامة) في أكثر من مناسبة، وبعيدا عن كل إشهار، كان مفيدا بطريقة استثنائية، بل ذهب إلى حدّ المساهمة، بنشاط، في أمن المواطنين والرسميين الأمريكيين. أعتبر مقتله خسارة".
يرسم المؤلف أجواء أعقبت مقتل حسن سلامة، وكيف أن بعض المقاطعات الباريسية كانت تعج بإرهابيين. ومن هذه المناطق تم تدبير هجمات على عدة مؤسسات يهودية في باريس، على مطاعم ومتاجر وأماكن دينية، وفي باريس تم التوقيع على البيان الأول الداعي إلى وحدة مقدسة للمنظمات الإرهابية الإسلامية ضد الأهداف "الإسرائيلية" في أوروبا. ويتحدث المؤلف عن ردود الموساد: "كانت ردود الموساد شرسة، إذ تسلل الكثير من العملاء إلى قلب الأحياء العربية وقاموا باغتيال المشبوهين في أسرّتهم". (415-416)
تقوم "إسرائيل" بتجنيد عميل فلسطيني، وهو إسماعيل صوان، فتساعده على الدراسة وتقوم بإرساله في بعثات كبيرة في العديد من العواصم الغربية كما أنها تقوم بإرساله إلى بيروت ثم طرابلس للتدرب على السلاح ثم تونس حيث القيادة الفلسطينية، وبعدها تبعث به الموساد إلى باريس (في نفس الوقت يرسل على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية لتعلم اللغة الفرنسية)، لترصد خطوات كارلوس الذي كان قد مرّغ العديد من وسائل الاستخبارات الغربية في الوحل. ثم يرسل إلى بريطانيا للمساعدة على تصفية القائد الجديد للقوة، 17 وهو عبد الرحيم مصطفى، الذي كان قد اتخذ من لندن قاعدته.
مهمة العميل الفلسطيني اسماعيل صفوان كانت تتمثل في استدراج القائد الفلسطيني خارج بريطانيا، ومن الأفضل إلى الشرق الأوسط، حيث يستطيع العملاء "الإسرائيليون" تصفيته. يتعرف العميل إلى القائد الفلسطيني ويستطيع خلق علاقة ودية معه، ثم يتواعدان على الالتقاء في الهايد بارك، وهناك يقوم العميل "الإسرائيلي" الآخر "بشار سمارة"، بتصويره.استمرت الاتصالات بين العميل والقائد الفلسطيني ما يقرب العام. في هذه الأثناء يتعرف اسماعيل صوان على بريطانية ويعبر عن رغبته في الاقتران بها. ولكنه لم يكن يتوفر على شاهد زواج. يتوجه إلى مقر منظمة التحرير الفلسطينية في لندن، وهناك يلتقي القائد مصطفى، وهو يمسك بنسخ عديدة من مجلة "القبس" الكويتية التي كانت تطبع في لندن، وكان كل عدد يتضمن صورة كاريكاتورية للقائد ياسر عرفات. كانت الصحيفة تناصب منظمة التحرير الفلسطينية العداء. الصور كانت من ريشة الرسام الفلسطيني ناجي العلي، أهم الرسامين الكاريكاتوريين العرب في هذا المجال، وكان يقيم في لندن، وكان يبدو أنه يناصب عرفات عداء جارفا.صرخ القائد الفلسطيني أمام الجاسوس "الإسرائيلي" اسماعيل صفوان بأن الرسام يستحق الموت، وإعطاء درس لأسياده الكويتيين. في بداية أمسية 22 يوليو/ تموز من سنة، 1987 يفتح الجاسوس صفوان التلفاز فإذا به أمام صورة ناجي العلي، الذي تعرض للاغتيال في لندن أمام مكتب صحيفة "القبس". تساءل صفوان عمن يكون قام بارتكاب الجريمة: "لن تكون الموساد، ولا القوة، 17 لأن قتله خلا من كل مهنية..." يفكر العميل في تهريب زوجته والالتجاء إلى تل أبيب. يطرق شخص عليه الباب ويقول له بأن القائد مصطفى يطلب منه الاحتفاظ بحقيبتين وإخفاءهما على وجه السرعة. يقرر العميل الفلسطيني الاتصال بالموساد، لا أحد يجيب. يهاتف السفارة "الإسرائيلية" لا أحد يرد. يتصل بعملاء آخرين، ولا من مجيب. أخيرا يعلن له صوت مجهول بأن عليه أن يغادر إلى "إسرائيل".في "إسرائيل"، وبعد يوم واحد من وصوله يأتيه الأمر بالعودة إلى لندن، لأن كل شيء أصبح تحت السيطرة، ولا داع للخوف.ومن دون حذر يقرر العودة إلى لندن يوم الرابع من أغسطس/ آب من عام، 1987 وفي المطار يتم توقيفه من قبل رجال الأمن البريطانيين، ويتهم باغتيال ناجي العلي. وحين يصرح بعمالته ل "الإسرائيليين" يضحك المحققون البريطانيون في وجهه.
يقول المؤلف إنه "تمت التضحية بالجاسوس الفلسطيني كي تحصل "إسرائيل" على أفضال حكومة تاتشر. إذ إن الأسلحة التي تم العثور عليها في بيته ستقضي على الجهود التي سيقوم بها لإقناع المحققين بأنه اشتغل لفائدة "الإسرائيليين". صحيح أن إيقاف العميل كان خسارة ل "الإسرائيليين"، لأنه قام بأعمال جيدة، على الرغم من أنه لم يقم بكل ما كان يرجى منه. ولكنه كانت علامة من "الإسرائيليين" على إرادتهم على التعاون مع السلطات البريطانية. العثور على الأسلحة في بيت العميل صفوان يمكنها أن تقود إلى تخريب العلاقات البريطانية الفلسطينية، وإظهار عرفات وهو يلعب دورا مزدوجا في علاقاته مع البريطانيين. على كل حال بإمكان الموساد العثور على صفوان آخر تستميله بوعود جميلة وكاذبة". (438-439).
الكتاب عبارة عن تفاصيل عديدة تريد أن تحيط بتاريخ الموساد، والتفاصيل لا يمكن التطرق إليها جميعا، لأنها تدخلنا في متاهات لا يمكن للقارئ أن يفهمها بسهولة. ولربما كان لزاما على دوائر الأمن القومي العربي أن يتنبهوا لها، لأن تكشف طريقة اشتغال وكالة الاستخبارات "الإسرائيلية".
يقوم المؤلف في الفصل الذي حمل عنوان "انطلاقات جديدة"، بتوضيح كيف أن جهاز الاستخبارات "الإسرائيلية" لا يتورع عن التجسس حتى على الحليف الأمريكي. وقد تسببت فضيحة العميل بولارد في انتكاسة العلاقات الأمريكية "الإسرائيلية". ويعزو "الإسرائيليون" المسألة إلى عدم أخذ الأمريكيين للتحذيرات "الإسرائيلية" من هجوم مُرتقب للقاعدة على أمريكا، سبق تفجيرات عام 2001 محمل الجد. كما أنه في هذا الفصل الشيق يكشف المؤلف عن فشل ذريع للموساد في وضع حد للعمليات الانتحارية(الاستشهادية) التي بدأت منظمات فلسطينية من بينها كتائب الأقصى وحماس والجهاد الفلسطيني في تنفيذها. كانت الموساد تعرف مصادر التمويل لهذه المنظمات الفلسطينية: "الأموال تأتي من إيران. من دمشق وأثينا، ويتم تبييضها وغسلها من قبل بنوك مركزية. ثم يتم إرسالها إلى حساب بالقاهرة عبر الطرق الالكترونية. ثم تحمل إلى غزة كي يتم توزيعها من طرف لجنة الجهاد" (541). حاول مايير داغان، وهو مسؤول رفيع في الموساد، أن يجعل من أولوياته العثور على الهدف النهائي لهذه الأموال على أمل وصول الموساد إلى من يُهيّئون الاستشهاديين، ولكن المهمة كانت مثيرة لليأس. لأن الاستشهاديين يشتغلون تحت شكل خلايا صغيرة جدا، في عالَم مخيمات اللاجئين المغلق، يصعب جدا تجنيد مخبرين من أجل الاستخبارات "الإسرائيلية". وكل من يتم إيقافه من هؤلاء تتم تصفيته. (541)
ينتهي هذا الفصل بهذه النهاية اليائسة من اعتراف المسؤول الاستخباراتي "الإسرائيلي" مايير داغان: "حين لا تتعرض "إسرائيل"، خلال فترة طويلة، لأي عملية استشهادية، فهذا يعني أن العملية القادمة قريبة". (543)
يتطرق الكتاب أيضا إلى تاريخ العراق ويصل إلى مرحلة ما بعد صدام، تحت عنوان "بعد صدام"، ويعج بالتفاصيل، خصوصا المرحلة التي سبقت الغزو الأمريكي لهذا البلد وإسقاط القيادة العراقية. يتحدث عن الكثير من الفاعلين العراقيين وغيرهم، ويرسم صورة عن شخصية لعبت دورا ما في تضليل الأمريكيين، وهو الجلبي.وينتهي الكتاب الكبير الحجم(664 صفحة)، بخاتمة اتخذت عنوان: "حصيلة مؤقتة".. نقرأ فيه:"إن محكيا يتطرق لأجهزة الاستخبارات يعكس بالضرورة الوعي الباطن لأمّة ما. إن العملاء الذين يشتغلون على الأرض والتحليلات ومديري الأقسام وزعماء الموساد قدموا آراءهم حول اشتغال الموساد وسيرورة القرار وعلاقته مع الأجهزة الاستخبارية الأخرى. ولا أتذكر أن أحدا منهم كذب عليّ. (...) إن الموساد يعتبر جهاز الاستخبارات الوحيد في العالم الذي يتوفر على وحدة اغتيالات، وكتيبته تواصل عمليات القتل. يكرر مايير داغان، أحد زعماء الموساد، جملته: "إننا نُحارب الشرّ بالشرّ". الحقيقة الكبيرة في هذه الفترة تتلخص، بالنسبة لحرب الرئيس بوش الدولية على الإرهاب التي أطلقها بكثير من التفاؤل بعد تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول ضد بُرْجي التجارة العالمي والبنتاغون، في أن كل أجهزة الاستخبارات يتوجب عليها أن تراقب باهتمام كيفية اشتغال الموساد. بالتأكيد إن الموساد يتعامل مع أعدائه من دون شفقة. ولكن حين تفشل إحدى مهماته يُعامل في معظم الأحيان أعضاءه بقسوة لا يفعلها أي جهاز آخر ما عدا الاستخبارات الصينية. إن هذا الكتاب ليس إطراء على الموساد. ولكني أتمنى أن يواصل هذا الكتاب "قول الأشياء كما حدثت، وكما لا تزال عليه" (636).لا يمكن لقراءة تقديمية لهذا الكتاب أن تتطرق لكل القضايا التي يتناولها المؤلف، والتي تتشعب وتتنوع، إذِ إن الموساد جهاز يتجسس على العالم بأسره. الكتاب يتطرق للصراع القاتل ضد الفلسطينيين وضد العرب، ويكشف دور الموساد في تدمير طيران مصر إبان عهد عبد الناصر، كما أنه يتناول مطاردة قراصنة الجو الفلسطينيين والمتعاونين معه، كما أنه لا يخلو من تفاصيل تتطرق للحرب ضد العراق، وأيضا محاربة القاعدة وغيرها من التنظيمات الجهادية، وغيرها من المواضيع.
الكتاب محاولة لتقديم الرؤية "الإسرائيلية" من الداخل، ولعلّنا نقرأ، في القريب، روايات للحدث، نفسه، من أطراف عربية وأطراف أخرى كانت معادية، يوما ل "إسرائيل" حتى تكتمل الصورة وننتهي من وضع بوزل نهائي للحدث وتداعياته وحقائقه. الحقيقة أحيانا تخرج حتى من أفواه الخصوم والأعداء.
التعليقات (0)