عرب أوروبا بين الأمس واليوم
في زمن ليس بالبعيد كان،لمن لا تروق له الحياة في قطره العربي،له أن يحلم بحياة أفضل في أرض الله الواسعة...ولم يكن مطلوبا منه لتنفيذ حلمه إلا أن يتحلّى بقدر من الجسارة وروح المغامرة...أن يُقرّر ويُخطط ثم يـعزم على التنفيذ،وبالمقابل كانت أوروبا الغربية في مقدّمة المستهوين لحلمه والمكفكفة لدموعه والحاضنة لأشواقه وتطلّعاته...كان متاحا للعربي أن يعيش في أوروبا مرتهنا لجهده البدني يرتزق منه أو مستثمرا لماله فيما ينفعه ولا ينفعه أو متعطّشا للعلوم والمعارف ناهلا منها ومشبعا لنهمه الفكري أو مبدعا تُثري محاضن الإبداع مواهبه وتحوّلها إلى منافع للناس بعد أن تكون قد أغدقت عليه من رغد العيش الكثير،أو لاجئا تستقبله(حتى إن كان من فصيلة الخميني) وتصون كرامته وتوفّر له هامشا واسعا من الحرية...أو حتى صعلوكا تجتهد في ترويض بدائيته ووحشيته وتليينها دون أن تحرمه من ممارسة صعلكته وإن استقرّ به المطاف في أوكار الرذيلة والإجرام،إذ لا يُحاسب على جرائم كان محروما من ممارستها في وطنه ولا يُتّهم بتهمة بلا أدلّة إدانة ثابتة حتّى إن كان أتى فعلها وغنم منها مأربه،وهي ليست ميزة يستفيد منها دون غيره ممن يتشكّل منهم نسيج المجتمعات الغربية بل هي فضيلة تشريعات حذرة من الظلم...
في ذلك الزمن الذي كان الغرب قبلة المهاجرين العرب،كان الحال غير حال اليوم...
كانت أوروبا تتعاظم بالآخر...تهجم عليه في عقر داره تستعمره وتسترخي في أكواخه وعلى أرائكه وتنام هانئة في فراشه مستبيحة ما طاب لها من متاعه...استمرّ تعاظمها في حاجتها إلى الآخر في عقر دارها تغريه بوليمة حداثتها وتستدرجه لقبس فكر يتوهّج في أوصالها متحدّيا صقيع ثلجها المزمن،كانت بحاجة إلى الآخر دون انشغال بعرقه ولونه وديانته،فما كان يشغلها قدرته على العطاء بدنيا أو فكريا(أو الاثنين معا،بداهة،)،وكانت لها مشاعر حميمية تجاه العرب...قد تكون عشقا لعبق الشرق وقد تكون حنينا لعهودها الاستعمارية،وقد لا تخلو من نوايا تخفي الثأر من رمز لتفوّق حضاري أفل...المهمّ أنّ المهاجرين العرب استجابوا لإغراءاتها وأقبلوا عليها إقبالهم على أحلامهم،وتطوّعوا بغبطة وحماس على حقنها بدماء فتوّة شبابهم وأفرغوا فيها كلّ طاقات كبتهم الخلاق منه والذّميم،ولوّنوها بألوانهم وتلوّنوا بألوانها...
ما كان الغربيون والغربيات يستهجنون،غالبا، همجية عربية تتقيّأ في بالوعاتهم ولا يُجافون هويّتها،بل يستلطفون منها الكثير مما تُفاخر به أو تستحي منه وتتبرّأ ،لأنهم شغوفون بما يُخالف المألوف في عاداتهم ونمط عيشهم بصخبه ورتابته فتُلوّن سماءهم المكفهرّة بخيوط من لون أشعّة الشمس يُولعون بها ولعهم بالمثابرة وإيقاع نسق حياتهم اللاهث وعلمانيّتهم التي أسسوها على نكهة الاختلاف والتّنوّع والتعدّد(إلا من نعمة تعدّد الزوجات شرعا)...
أما اليوم فحال العرب المهاجرين في الغرب هو غير حالهم بالأمس...
فجأة استفاقت أوروبا على أجراس كنائسها تبحث عن هويّتها،والمتمعّن اليوم في النوايا العنصرية المبيتة التي تقود الحوار حول الهوية في الدول الغربية ينزعج من جلبة لا يُراد منها إلا إقصاء الآخر في بيئة حضارية بنت صرح عظمتها وتفوّقها على التنوع والتعدد...أصبح الانتساب لوطن في دولة غربية لا يقوم على خدمة الوطن والولاء له فحسب بل يُعنى بتفحّص الأصول والجذور ويستنكف أو يستريب أو يُقصي من ليست هويّته...غربية.ا..
وعبثا تحاول أن تبحث في معاجم القوانين الغربية الطازجة أو التي تُدوّن حاليا أو التي هي مسودات لمشاريع قوانين على تعريف للهوية أو الانتساب لوطن أوروبي بما يعنيه هذا الانتساب من عدالة في الحقوق والواجبات بين مواطنيه الحاملين لنفس الجنسية... والحقوق والواجبات لا معنى لها إن كان المواطن يشعر بغربة مفروضة عليه في وطنه حتى إن فرضتها أغلبية تزدري بقناعات أقلّيّة.
إنّ الذي يجنح إلى البحث المتريّث عن الحقيقة من خلال دعاوي التنظير للهوية الغربية كما هي تتشكّل على أرض الواقع،يُعييه تشبّثه بالموضوعية وخشيته من أحكام متسرّعة قد لا تكون منصفة،فتطول معاناته في البحث والتقصّي وهو لا يُحرز على ضالّته،وليس له من عذر "لغبائه" سوى نزاهته العلمية...أما الذي يدّعي أنّ الغرب ما يزال متشبّثا ومحافظا ومنحازا لنفس القيم الفكرية التي أسس عليها حضارته فهو مضلل أو أحمق أو واهم،إذ الحقيقة تنكشف،رغما عن كلّ الأقنعة التي تتخفّى بها،لتقول أنّ الغرب لم يعد يحتمل الآخر،والآخر المقصود،تخصيصا، هو الذي تشي جذوره أنّه وافد من بيئة إسلامية يعتنق غالبية سكانها الدين الإسلامي،حتى إن كان مسيحيا أو ملحدا أو مسلما غير ملتزم بفرائض دينه...ولاختصار عملية الفرز فالعرب جميعا غير مرغوب فيهم ولا يجب أن تشملهم مشاريع الهوية الغربية التي ما كان لزاما أن تطرح لولا هذا الحضور الإسلامي المؤرّق. ومن ثَمّ فإنّ كلّ من يحمل اسما عربيا أو إسلاميا، وكلّ من له ملامح عربية أو إسلامية هو معني بإزاحته من مشروع تأمين النقاوة للهوية الغربية...
وبما أنّ الغربيين ليسوا همجا ويحذقون فنون اللياقة في التعامل ويقدرون على طمأنة الآخر بكلام مهذّب،قد نراه،أحيانا،بمعاييرنا خادشا للحياء،لكنّه-غالبا- غير منفّر ولا متوتّر-بما أنّ الغربيين كذلك –فإنّ أدبياتهم الجديدة نلمحها تصاغ بصيغ مواربة،فهي تدّعي مساعدة عرب "أوروبا" على العودة إلى أوطانهم الأصلية،أي إلى أوطان الآباء أو الأجداد حتى إن لم تكن تربطهم بها إلا صلة الأصول...وهي تدّعي أنّ عهد رخائها الاقتصادي قد ولّى فنتج عنه صعوبة أن يحصل أبناء المهاجرين على شغل(خاصة الذين يحملون أسماء أو ملامح عربية)..أما حال أحياء المهاجرين فهي تبدو خزّانا للمهمّشين ولنموّ ديمغرافي مرتفع يتكدّس فيها النسل،ولا يكاد يكون مسموحا الطمع في السكن خارجها إلا في أحياء مماثلة لها من حيث التركيبة الاجتماعية والأصول العرقية...(ومع ذلك-ويا للعجب- تشتدّ حيرة القائمين على هذه الدّول الغربية من صعوبة اندماج أبناء هذه الأحياء المغلقة في نسيج مجتمعاتهم الحاضنة).
انقضى عهد عقيدة التّنوّ ع والتّعدّد وحرية المعتقد وقدسية الحياة الشخصية،وحلّ محلّها الاهتمام بالهندام بدءا بتبّان السباحة في مسبح عمومي إلى القبّعة التي تضعها المرأة على رأسها(حجاب)،وفي هذا الاهتمام مأرب يُشرّع للغرب حظر ما يتخيّله رمزا إسلاميا،ولأنّه تخيّله كذلك فإنّ مزاجه وذوقه يتغيّر إلى حدّ أنه لم يعد يستلطف في ديكوره وزينته ومظهر الآخر الذي يتشكّل منه نسيجه الاجتماعي ما كان يُولع به بالأمس ويستلطفه،ولا نعجب إن انقاد خيال الغرب إلى اعتبار اللحية والجلباب الرجالي والنسائي والعمامة وغيرها حتى إن كان بعضه له جذور في تراثه رموزا إسلامية،فإنّه سيستنكف منها ويهجرها ثمّ يحظر تداولها حظره لتداول أسلحة الدّمار الشامل في العالم الإسلامي...ولا نعجب أن يتّسع الحظر ليشمل المعمار(ما هو شبيه بالصومعة) والحيوانات (ربّما الناقة)،وأشياء أخرى لا ترد على البال حاضرا،لكنّها تُستحضر فجأة إن رآها الأوروبّي حتى في منامه أنّها تحمل دلالات إسلامية...وعليه إن كان المسلمون يخشون،مثلا، نهب نفطهم من الغرب،فما عليهم إلا أن يُحوّلوه إلى رمز إسلامي ليهجره الغرب ويمتنع عن استعماله.ا..
يدّعي المدّعون أنّ الوضع لم يكن على ما هو عليه إلا بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية التي هزّت الولايات المتّحدة الأمريكية وما تلتها من أحداث أخرى خاصة في إسبانيا ولندن،وهذا ادّعاء لا يُمكن نفيه ولا تجاهله،لكنّه لا يُفسّر وحده حالة الخوف والعداء للعرب والمسلمين فضلا عن أنه لا يُبرّره،كما أنّه لا يمكن،مثلا، أن نُبرّر بالنازية الهتليرية الدّعوة إلى عداء كلّ الألمانيين أو إبادتهم،أو قذف اليابانيين المدنيين العزّل بالقنابل الذرية الأميركية...أي يجب ألا يتعامل الغرب مع ما يعتبرها جريمة من منطلق ديانة أو أصول مرتكبها بل من منطلق قدرته على فعلها وإبطال هذه القدرة التي هي شبيهة بالتي تتأتّى للانفصاليين من الباسك الاسبانية أو الانفصاليين في دارفور السودان وغيرهما كثير،وهي جرائم نبرّرها أو لا نبرّرها تبقى بحاجة إلى معالجة حكيمة غير متآمرة...
أما الإسلام فالغرب واهم إن اعتقد أنه يستهدفه من خلال هجمته الشرسة،فالإسلام ليس كائنا بشريا يتسكّع في شوارع الغرب أو حتى أميركا،والذين يدّعون اعتناقه لا أحد منهم مفوّض تفويضا إلهيا بتمثيله سواء كان رجلا يؤمّ المسجد أو آخر وجهته الحانة،أو امرأة تلبس جلبابا وحجابا أو أخرى يعرض "الميني جيب" مفاتنها،ومنْ يقترف من هؤلاء جرائم إرهابية هم من هذا وذاك وغيرهما كما دلّلت عليه الأحداث...
الغرب إن كان يـطارد الإسلام فهو يُطارد فكرا ورسالة لن يقدر على القبض عليهما في حجاب ولا مئذنة ولا عبوّة ناسفة،وهذه الأخيرة لن يعثر عليها في النص القرآني مهما بحث لأنها،ببساطة،من اختراعه وسائر وسائل الدّمار الأخرى...
إنه يُدرك،إذن،أنّه يستهدف بشرا في دول يُخيّل إليه أنها تُفرّخ جينات إسلامية تفوق خطورتها فيروسات فرّختها علومه وبيئته في شكل أوبئة "السيدا" وجنون البقر وأنفلورنزا الطيور ثم الخنازير،وكوارث الاحتباس الحراري وهتك عرض الطبيعة...
وهو،في دوله يستهدف مظاهر إسلامية هي ما تبقّى له من ماء وجه يحفظ به كرامة التنوع والحرّيّة التي تقوم عليها حضارته،إنّه في خشيته من الأسماء العربية والملامح الإسلامية،إنّما يخشى شيئا من ذاته ليبذر دواعي صراع داخلي يستنكر مثيلا له في أحداث تستهدف أقباطا في مصر أو أيّ أقلية في أيّ بلد عربي وإسلامي،ولا يستحي من دواعي خوفه وخشيته...
يهمّنا في هذا المقام المقال ما آل إليه وضع العرب المتغرّبين في الغرب من اغتراب وغربة،وهو وضع أضحى يتحدّى الضمير الإنساني الغربي بالأساس ليمتحن ما تبقّى له من فضائل قيمية على الصمود في وجه ارتباكه وأخطائه القاتلة...ليست حضارة تلك التي تقوم على إقصاء الآخر وتهميشه والازدراء بخصوصياته.
وعلى قدر انزعاج الغرب من العرب والمسلمين(حتى إن كان إسلام بعضهم ليس عقيدة إنّما ملامح ومظاهر)وانغلاق حدودها في وجههم،على قدر ترحيبها بشمالها وإدماجها له في اتحاد أوروبي يتوسّع باطّراد ولا يضيق إلا على تركيا العلمانية لأنّها ذات جذور إسلامية.ا..
هذا يعني،فيما يعنيه،أنّ الطيور العربية المهاجرة لم يعد لها مكان في فضاء الغرب،وحتى التي تقدر منها على اختراق حرمة هذا الفضاء فهي تلك التي تعبر القارّات وتملك مواهب التحليق عاليا وتفرض حضورها تفوقا وتألّقا في سماء ما تزال تتّسع للطيور الأنيقة المبدعة،لا غير.
أما تلك الطيور البرمائية التي ما تزال مصرّة على حلمها في الهجرة إلى الغرب،فهي رغم كلّ المخاطر التي تركبها ورغم معرفتها بأهوال البحر فإنها وهي تبحر خلسة تلقى مصيرا مأساويا في بطون حيتان كبيرة،وإن قُدّر لها أن تجتاز البحر من ضفّته الجنوبية إلى ضفّته الشمالية فهي تُطارد بلا هوادة لتُحْشد في محتشدات وتُرحّل قسرا إلى بلاد المنشأ،في انتظار اتحاد متوسّطي يُشرّع لجريمة الغرب بعد أن يسعى إلى التخفيف من بشاعتها...
أماّ الوطن العربي فهو مازال يضيق بأحلام أبنائه.
التعليقات (0)