عراجين الكلام الشهي من سجدة عادل محلو التائهة
بقلم :أحمد مكاوي
مرحلة جديدة يدخلها عادل محلو في ديوانه «سجدة تائهة » في تجربته الشعرية بعد التي خاضها في ديوانه الأول« طعنات شرقية » ، ذلك أن اللغة الواقعية المثخنة بالجراح والمآسي والوجع المتمثلة في أقنعة الغائبين ، تحولت في هذه المرحلة إلى لغة صوفية تمتح من المجاز الذي تضيق به العبارة لتتسع الرؤيا ، ففي هذا الديوان الصادر عام(2010) عن دار رسلان بدمشق يتوسل عادل لغة موحية رامزة ويستعمل كل الأشكال الشعرية من العمودي و التفعيلي والنثري ليحملنا معه على جناح الرؤى إلى عوالم قصية جميلة و ماتعة متعة النخلة التي تحملها قصيدته للناس في قوله :
نغشى قلوب اليائسين بنخلها فنسيلها بدل الجراح حروفا
لا شيء أشهى من عراجيـن الكلام فطف به متهتكا وعفيفا
إن عادل وهو يوزع تجربته على أشكال الشعر جميعها لا يتقصد غير القول الذي يجب على الناس الاقتناع به للخروج من جدل عقيم يفقد الشعر حقيقته أن الأشكال تتجاور وقد يدرك هذا الذي يقرأ هذا الديون فنجد:«إضاءة» و«لا تنتهي» و«قفلة» على الإيقاع الخليلي بينما « صلاح الدين يعود إلى قبره»و «ضوء مسجى »على الإيقاع التفعيلي أما «ثلاثيات العمر الضائع » فجاءت نثرية ، ليمزج في قصيدة «سجدة تائهة » بين العمودي و التفعيلي في تناغم رائع وصور محلقة ورؤى تأخذنا لجنة الإبداع التي نسجتها شاعرية عادل .
وشاعرية عادل تغزل من اللغة صورا تطوف بنا مع التي :
هتفت إليه عيونها وهيامـــهــا فاهتز عمره واستفاق غرامها
كم ذا تعقب في الحوالك نجمة يجلو الهموم سكونها وكلامهـا
...
فسقى طلول العمر زهو فراشة يسمو على حور الجنان تمامها
....
وبنت على كتف النجوم مدينة دمها الزجاج وخلفها وأمامها
ومن منا لا تمتعه هذه الصورة الرائعة(مدينة دمها الزجاج) أو(طلول العمر المسقية بزهو الفراشة) .
ومن منا لا يهزه طربا وحسنا قوله :
إني غمست ذنوبهم في بسمتي والقلب أقسم بالندى أن يصفحا
إن الشاعر لا يقول كلاما عاديا يقوله كل الناس في الحب والصبابة والحنين واليأس والغربة ، أنه يقول هذا وأكثر مما يجول في خواطر الناس ولا يستطيعون قوله حتى لو أرادوا ، لكن بلغة الشعر التي يفهمها الناس كل على مستواه ولعل «سجدة تائهة » من ذلك الذي يريد الناس قوله ولا يستطيعون ففي القصيدة المرفوعة( إلى مكة منتهى ...ومنطلقا) يمضي بنا مع المشاعر الممزوجة بالحنين واليأس بالخوف والحب بالألم والأمل مخاطبا مكة و متغزلا بها شاكيا عصره وأهله ومن انتسبوا لها اسما وتخلوا عنها واقعا :
على نبراسك الراسي
بآلامي
بصمت البحر والصحراء والناس
أخط خرائط الدنيا
بعمر الأمة الدامي
وأقرع كل أجراسي
ليزرع في مذكرتي... دروبا فجرك الماسي.
أنه الحبيبة التي لا يمل البكاء على صدرها والتي يتوجه لها الوالهون بدموعهم وأشواقهم وآلامهم يتوسلون الله أن تقضى حوائجهم وعادل لا يرى مكة مجرد مكان مقدس يحج الناس إليه ويعودون في طقوس ميتة لا تحي أحدا ولا تحرك ساكنا أنه يعرفها بنفسه :
بنعل الثائر الحافي ألطخ وجه جلادي
وكف العالم الفاني على صفصافة الله
أثبت كل أبعدي
عادل لا يرى مكة إلا ثورة ضد الظلم والمعتدين ،ثورة ضد الجهل والتعصب والموت المجاني الرخيص من أجل وهم عشش في رؤوس بعض الناس لا يفقهون من معاني مكة شيء مكة التي يخاطبها في وله :
شذا عينيك يلهبني وأنت الحاضر الغائب
...
كأن الروح في جسدي على محرابك العاتب
دمــوع لفهــــا صــدأ بليل صامت صاخب
...
فهلا كنـت تدنينــي إلى الرمشين والحاجب
لعل الظل يعصمني بعصر ضـوءه كــاذب
أن العصر الكاذب لا عاصم منه إلا ظل منها ، هو وحده الذي يقضي على الذين مدوا الضفة الأخرى إليه وحاولوا وأد هويته ليقول للذين نسوا من خلالها:
« كياني صامد يقظ
يجلجل في القرى قمحا
ووردا في البساتين
ويهطل من ندى التمر الرطيب ندى
يكرر سورة التين
ويملأ أحبابي بما نرضى»
أن هذه القصيدة تقول في لغة شعرية أن الرياح والزوابع التي يظن البعض أنها ستقلع الناس من جذورهم وتغيرهم لا يمكن أن تتم ما دام ظل مكة على الأرض ، فليخفف الغلاة من دعاواهم ، وليعودوا للحوار الهادئ الذي يؤسس تعايشا لا يذيب في الآخر ولا يقضي على المخالف لمجرد اختلافه معهم ،أنها قصيدة الهوية الصامدة التي تحاور وتقنع لا التي تناور وتقمع
ورغم أن العنوان يوحي بالتيه والاغتراب والتخبط وهو حال الناس حيث يسجدون ويتوجهون لمكة بوجوههم أما القلوب ففي التيه تتخبط إلا أن عادل يختم قصيدته برؤيا رائعة تستمد نفحتها من نفسية الشاعر التي لا تقبل إلا التحدي والصمود وطول النفس لتحقيق مرادها :
فروح الفتح مفعمة تحرك في الدجى طيني
وغيث الله يغمرنا بســر الكـــــاف والنون.
وحتى عندما يغضب عادل لوضعنا العربي ويطلب من صلاح الدين أن يعود من قبره فهو يفعل ذلك لأنه مل من أناس لا يستطيعون فعل شيء وينتظرون من أمواتهم الفعل بدلا عنهم وهي عادة عربية بامتياز لذا نجده يقول لصلاح الدين على لسان القدس:
فرغم الضيق
حياة القبر أجمل
نعم الموت أجمل من حياة تسيد فيها البله وشد خناق الأمة العته وأصبح العدو صديقا حميم يستقبل بالأحضان !
أما في قصيدة« ثلاثيات العمر الضائع» فأن التأمل في الحياة واقتناص اللحظات الهاربة هو وسيلة الشاعر لتشكيل صورة مختصرة في وضع يعايشه كل منا ولا ينتبه إليه لكن ،عادل لا يقدم رأيا بل يصوره تصويرا ولا يعطيك نهايته لأنه يعرف أن هذا ليس من وظيفة الشعر ولا مهام الشاعر أنظر معي قوله في مقطع من القصيدة بعنوان «شوك »:
أين أسير؟
بعض الورود على مضيق العمر يشتكيك
وفي سهله جمر وفير.
أو قوله في « هذه الدنيا » :
مدت حبالها الدنيا وبتت
غنم الجميع أطيافا وسحابا
وما في يديك أنت تفتت
أنها فلسفة الحياة شعرا من خلال التأمل فيها ، عادل هنا وفي كل الثلاثيات يتأمل ويرسم لنا اللحظة التي كان فيها ولكنه يترك لك أن تشكل رأيا في عمرك أنت أما عمره فهو يعيشه في قصيدة أو ومضة شعرية يرسم فيها ما عن له من رؤى تبحر به بعيدا في أريج الوجود.
أن الشاعر في ديوانه هذا ينسج من تجربته الشعرية لقارئه كونا شعريا يعيش فيه يستشف من آخر قصيدة «ضوء مسجى»:
على أفق القرنفل بعثراني
أبيحا روحي السكرى بجوركما
لعربدة النوائب والزمان
فما عادت لخوفي مئذنات
ولا عادت لسطوتها يدان .
فهل سيشركنا عادل في عالمه أم أنه سيتركه لنا لينتقل إلى آخر من صنعه في ديوانه القادم وهو الذي عودنا على أن الشعر احتمال والحياة فيه احتمال ؟!
التعليقات (0)