مواضيع اليوم

عذراء دير ناعور

فارس ماجدي

2011-06-15 08:42:42

0

  

  ناعور.. رحلة غرام مع فتاة  كنيستها

1

 

ورحمتاه على ذلك العهد النابض بالحياة وبالبراءة  الحالمة المفعم بالبساطة الناضرة وبألاحاسيس الأولية التي أبدت سجو ناعور بهذا الصخب الماثل في الذكرى نشيجيا لا ينتهي ..

احمل  لأرض ناعور قداسة في قلبي لا تعدلها قداسة  السماوات،  بترابها الزكي وصخرها الندي بعيونها الباكية و سهولها الساجية بالنشيج الذي تبعثه أمواه سيلها العرم وهي تساقط من أعالي  شلالاتها كتلا موشاة بالنعيم ،  تراقصها  رياح الجنوب حينا والشمال أحيانا  .فتطلق من قلبها زفرات وهمهمات وقهقات  تتردد أصداؤها في  فضاء المكان  .

 

 نا عور.. بشيحها وقيصومها  بزهرها المفوف  الفريد الألوان والاجناس أزاهر  تبث  في الجو سحرا محموما وعطرا  مشفوعا بآهات عذاراها الغوادي .   و شجرها المسكون  بانداء مساءاتها،  وموسيقاها الشجية الألحان تبعثها الطبيعة الساحرة الخلابة يرددها بفطرة الحس  الكروان والحسون في كل صباحاتها الوضيئة،  وكذا  صدح بلابلها وقبراتها في مسائاتها  الأنيسة ،  مما يبعث أثرا شجيا في النفس يعبق  بالسحر والجلال والجمال .

اني في ذهول بسبب هذه الروائع وهذا الفيض من النوافر من الانطباعات التي تهز القلب  هزا  حتى ينهار تحت ضرباتها الموجعة .....

ولكم وددت أن اعيش هناك في ذياك المكان  الذي مزج بين القداسة والجمال  وبين الألوهية،  بين الشهوة والتقوى، بين الآنفلات من العقل الى السباحة في بحور الشهوة الغارقة في حمأ مسنون . مما لا يتوافر على  تكوين جماع  عواطفي أو ارادتي   وصخب التحريمات التي  تطلق الروح من عقالها ..

 هذا الوادي المدنف  بدموع  عين الفارعة  عند اقدام الجبال  وانثيال الهضاب . يتهادى كأنه ثمل بمياهه المتدفقة شهوة من زفرات الخلق الأولى .

وأما  بدهتك اشعة الشمس الوضيئة التي تنعكس أطيافها الرائعة على صفحة الغدارن التي يتصاعد منها الرذاذ اللطيف اذا ما مسته مسا حفيا رياح المساء  في كل اتجاه حتى يلطم المساكن الغافية على حفافيها برذاذ الماء

اي مورد عذب للروح الهائمة عند مشارف الفجر و انثناءات المساء  هناك   ؟

أيه أيهذا الأفول على ناعور  ... ما أبهاك .. ما ابهاك أفولا تأخذ بمجامع القلوب والنفوس وتسكب في أفواه المدنفين نبيذك السماوي 

عبثا رفعت صلاتي إليك  من مدامع  الضياء في روحي  وألسنة  الصمت في قلبي حال انقشعت غيوم العقل هنيهة  لتفسح المجال واسعا للخيال   ..

على فمي لحن غريب يصوغه قلب غريب ووشوشات أدواح عطرة تبعثها في نفسي ذكرى تمر على عجل،  لأروي لك رواية حي اللاتين في ناعور ... ولكن ما شأني بحي اللاتين وأناسه..؟  ألا فلنؤجل ذاك قليلا وأحملكم على جناح الخيال المفعم بالشوق الي أعز ما في هذا الحي،  واعز ما في ناعور،  بل ومافي الأردن جميعه وأعلاه وأغلاه واثمنه،  الدير.. بل الكنيسة  في قلب الدير.. فهلم نرحل رحلة الى السماوات العلى وليبتدء معراجنا من هنا من قلب الكنيسة العظيمة ..

يقال أن هذه الكنيسة قامت على موضع مقدس طاهر حيث لا تزال بقايا هذا الموضع ماثلة الى يومنا هذا ، كهف احيط باللأواح الرخامية التي تعددت ألوانها بين الأخضر والأحمر والأسود من جميع جوانبة إلا من فتحت صغيرة تسمح بمرور النظر الى بهو واسع من الداخل تضيئه أحجار العقيق واللازورد،  وثمة مذهبات طليت بها أحجار القبر الكبير الذي يرقد تحت أربعة من الشمعدانات،  و ضوء حفيف يسري متدليا من فتحت واسعة في أعلى الجرن المثبتّ فوق السطح .. وهو جرن صغير من الرخام الاسود  عليه ثلاثة رسوم نافرة  من خارجه،  رسم للملاك الطاهر، ورسم للأم البتول وهي تحمل وليدها، والرسم الثالث لا يكاد يظهر منه إلا بقاياه، خيوط نور لكن أنّا لنا بمنبعها...  يال الخسارة .. لوأن مصدر الضؤء اتضح لكنا رحلنا رحلة في التأويل لا تعادلها رحلة .. .. تنفذ الأشعة من  فتخة صغيرة في قعر الجرن  عندما تتعامد الشمس عليه وقت الظهيرة،  وقد حفر على حواف الجرن من داخلة  احفورة على شكل قناة تنساب بشكل مائل لتخرج من احدى حوافه،   كيما  لا تسمح لمياه المطر بالدخول الى البهو الذي يرقد فيه القبر. تتهادى خيوط الشمس بدعة ساكنة فتنعكس على تلك الحجارة في كل اتجاه داخل القبر بالوان تميل من الأحمر الى الأزرق  كأنها تحاكي قصة الخلق الأولى.. ثم تردتد هذه الأشعة على فضاء البهو الذي يحيط بالقبر في اشكال متقاطعة  تخلب لب الناظر . اية معجزة تلك...؟  ومن هو هذا الراقد في القبر الساكن في القلوب العذارى  والنفوس المليئة بالايمان النقي؟ هناك روايتان لكن سنعتمد الرواية الأكثر انتشارا،  ولو ان ثمة اشياء كثيرة  لا يمكن قبولها أو الإطمئنان لها ، لكنا سنرويها كما هي . ففي روايتها البريئة تلك معاني ألفتها نفوس أهل الحي ورفضها من رفضها بدواعي العلم والتثبت التاريخي   . يعود هذا القبر للقديس ثيماوس 179 م  وكان احد الخدم في الدير الدمشقي الذي اسسه بولس اذ  كانت بدايته  راهبا  متنسكنا  ثم ترقى في التعاليم التي يقال انه تلقاها من تلميذ نجيب لبولس الرسول يدعى يوحنا الثاني ..  الى ان تحول الى واحد من الآباء  لكن مع حملة الاضطهاد والملاحقة التي تعرضت لها الكنيسة في بداياتها،  فر هذا الراهب الى الأردن  وتحديدا الى  تلك المنطقة المعزولة،  وسكن هذا الكهف الذي يقع على كتف هضبة رائعة الجمال  بالقرب من عين الفارعة،  وما لبث أن آوت اليه بعض القبائل  المجاورة التي آمنت  بهذا الدين أو بتعاليم الراهب  الى آخر القصة  التي تجرى  مجرى الخرافة لأسباغ القداسة على هذا الموضع  . هناك رواية أخرى تقول أن القبر يعود الى  قديس يدعى بطرس الثاني واستدلواعلى ذلك من الحروف اللاتينية الموجود على  صخرة بجانب القبر،  لكنها لم تقل من هوبطرس لا تاريخ ولا  معلومة تشير من قريب أو بعيد الى هذا الاسم  ... بحيث لا نعود نعرف ما الذي كان يشكله هذا الأب الثالث من آباء الكنيسة في الجيل الثالث  والذي صمتت عنه كتب التاريخ المسيحي صمت القبور،وهي التي من عادتها ايراد التفاصيل الدقيقة عن هذه الفترة تحديدا لأنهم يعتبرونها فترة التأسيس  .. ثم أن اللغة اللاتينة لم تكن  لغة معروفة في المنطقة فهي لغة حديثة نسبيا اذا ما قارنها باللغات التي كانت متداولة آنذاك في المنطقة، الأمر الذي يلقي بضلال من الشك  والريبة على الأسم،  وعلى من دونه   وتاريخ   تدوينه .. على كل .. الكنيسة  مرت بحقب تاريخية عديدة لا نريد الدخول في تفصيلاتها،  وعلى من أراد الاستزادة في الاطلاع على تاريخ هذه الكنيسة فعليه الرجوع الى الكتاب الذي ألفه حنا الياس ...  عن تاريخ الأردن تحت  عنوان ..    من هنا كانت البداية ...   والذي مع كل اسف لم يلق أي صدى يذكر لا في الأواسط المسيحية ولا المسلمة  ولا في غيرها من مدعي الثقافة  والبحث،  ولا ادري سببا لذلك سوى  الجهل والاهمال المقصود و الغير مبرر ..من الجميع .. مع ان الكاتب بذل فيه بحثا وافيا وأورد مصادر كثيرة راح ينقب بها ويفصل  ويدقق ويتأمل  حتى أخرج هذه التحفة العلمية ،  لكن واعحبي من مدعي الثقافة والفكر والتاريخ في الأردن الذين  لا يستحقون سوى أن نمطرهم بالعنات صباح مساء ... لجهلهم وادعائهم  .وزيفهم وضلالهم فكتاب  مثل هذا كان يمكن أن يكون نقطة لبداية كتابة تاريخ الأردن القديم من جديد برؤية مغايرة رؤية لا تأسر تاريخ الأردن في هذا الدجل السياسيى الجهوي البغيض .  خاصة وأن الكاتب أغرق في البحث التاريخي لهذه المنطقة  وهو كتاب ضخم يقع في مجلدين نشره على حسابه الشخصي عام 1994 في عمان .. و بعد أن ضاقت به دور النشر الخاصة التي تردد عليها كثيرا ..  ... عرضه على  مؤسسات النشر العامة   ولأن هذه المؤسسات لا تنشر الا كل ما هو تافه ، ذلك أن القائمين على مؤسسات النشر في الدولة ما هم الا حفنة من الجهلة تماما  كأنصاف المثقفين الذي شكلوا فيما بينهم شلل بغيضة سيطرة بجهويتها البغيضة على المشهد التقافي والفكري فكانت الكارثة  .. ولذلك لا نستغرب كثيرا أنه لم يظهر في الأردن كاتب جيد ولا شاعر جيد ولا مفكر جيد ولا روائي جيد.. ولا مؤرخ جيد ولا حتى اعلامي جيد ..

 

عندما احتل الرومان الأردن في عام 63 ق.م  راحوا يبنون المدن في هذه المنطقة التي أطلق عليها مدن الدكيابولس العشرة والتي لا تزال بقاياها ماثلة الى هذا اليوم  ولذلك راح فن العمارة الروماني يطغى بشدة  بعد أن تحولت روما الى المسيحية في بناء الكنائس والأديرة ودور العبادة . والفن الروماني فن أرضي  لايطلق العنان الى الخيال ولا يهتم الا بمسحة الجمال التي تحيل اليها ألبهة والعظمة فلم يعرف هذا الفن العمراني فلسفة التجرد والمزج بين ما هو روحي وبين ما هو مادي  فلم يهتم ابدا بالتفصيلات الجزئية ويكفي أن تنظر الى طريقة التدوير في المباني وطريقة التدريج  من الأسفل الى الأعلى التي تحدد مستوى النظر في زاوية حادة  . لا شك ان  دير ناعور او كنيسة ثماوس أو كنيسة بطرس أو كنيسة اللاتين كما يطلق عليها الآن قد حظيت بهتمام  بالغ من قبل الرومان  لقد وجدت  بقايا آثار للأعمدة الرومانية في الطرف الغربي والجنوبي استخدم بعضا منها في واجهة الدير والمدرسة الملحقة به كما أنه ما تزال الطريق التي تربط بين الدير والبساتين الملحقة به والمرصوفة بحجارة كبيرة على شكل طولي ومربع وأحيان مستدير  موجودة الى يومنا هذا مما يدل أنه كانت هناك عناية قصوى بهذه الكنيسة على وجه التحديد كمكان مقدس أكثر منه مكانا للعبادة ....

لكن البناء القائم اليوم يعود الى عام 1256 للميلاد كما يدل على ذلك الشاهد الحجري المثبت على أرضية المذبح في الجهة المحيطة بالقبر من ناحيته الشرقية،  أن أثنين من المهندسين  الطليان  الذين رافقوا الحملات الصليبية هم على ما يبدو من قاموا ببناء  الكنيسة على طراز الفن القوطي العظيم  هذا الفن  الذي أخذ ينتشر في أوروبا مع  بدايات عام 1100م واستمر زهاء 400 عام انشئت على اساسة وبوحية كانئس عظمي  ما تزال قائمة الى اليوم كنوتردام وشاتر في فرنسا ودي مارينا في اسبانيا و لباسيلكاديوالبرتغال وغيرها الكثير الكثير .... 

وكان تخطيط أرض  كنيسة ناعور في جوهره تخطيط روماني،  اشتمل على  صحن مستطيل، وثلاثة درجات ترتفع الى المستطيل البيضاوي الصغير الذي يضم المحراب والمذبح  .. لقد تم الأبقاء على هذه الأرضية ثم اقيم البناء على الطراز القوطي ثلاثة جدران وسقف  اقيم على عشرين عامودا من الرخام الأبيض المصقول، وهي اعمدة رفيعة رشيقة بعكس الأعمدة الرومانية التي تمتاز بالضخامة . ثم ترتبط الأعمدة بأقواس تتقاطع باستمرار فيما بينها مما يعكس هذه الابهة الفريدة التي يقوم عليها البناء كله . مع البقاء على المساحة الرائعة للصقف الذي وشي بلوحات فنية لا مثيل لها .واللوحات هي لرسام واحد اسمه القديس لفياني وهو صقلي عمل على هذه اللوحات بتكليف من احد بابوات  روما أو من  احد البطاركة ذوي النفوذ الذين زاروا المنطقة، و وهو الذي عمل على وضع الساسات لبناء كنيسة النبي موسى في جبل نبو في مادبا المقامة  على قبر موسى وتعد معلمة اثارية غاية في الروعة سنعود للحديث عنها بشكل مفصل في موضع آخر .. اللوحات المتناثرة على السف هي ثلاثة  لوحات أهمها على الإطلاق لوحة الألهة الأم التي ادهشتني ووقفت أول مرة رأيتها أكثر من ساعتين امامها متأملا مأخوذا  مذهولا لا ألوي على شيء .. الأم مريم تخرج من قبرها بوجهها الوضيئ وعيناها التي تبعث ابتسامة الرضى وغطاء الراس الذي وشي بالأسود والأخضر المعشق بالحمرة اما خديها فكان انعكاس النور الذي يبعثه الفضاء المحيط عليهما صيرهما متوردان يميلان بلمسة خفيفة الى الحمرة .. وضع على رأسها تاج من نور هو ذاته النور الذي ينبعث من القبر الفارغ في أسفل اللوحة التي قامت  منه العذراء، ثم راح يوشّي الحجر( غطاء القبر)  بلون داكن    مما يوحي أن هذا المكان الفارغ الخاوي  حزين على مغادرة الجسد الألهي له .. كما أن الملائكة الأطفال الذين أحاطوا بمريم كانوا في غاية الجمال والبهاء، وأشد ما يبدهك في هذا اللوحة منظر التلاميذ والنسوة التي ادهشتهم الفرحة بقيام مريم من قبرها وصعودها الى الفضاء طائرة الى أعلى، تتلمس هنا كيف راح الصمت المدوي يطبق على نفوسهم وتلك القشعريرة التي علت أجسادهم تهزها عنيفا حتى تبكيهم ... أما اللوحة الثانية فهي المسيح على الصليب .. لوحة تبعث في النفس الألم والحزن والأسى والرهبة والخوف تختلط المشاعر حتى تغيب تماما في الفكرة التي تسيطير عليك وكأنك أمام المشهد التاريخي  حاضر  هناك بكل جلاله وروعته ،  واغرب ما في هذه اللوحة كيف تلاحقك  عينا المسيح .. حتى تخترق مجاهل وعيك ولا وعيك،  وكأنه يقول أنا هنا لأجلك، كان عليّ أن ادفع هذا الثمن كي أخلصك من خطيئة أبيك ، ياله من منظر ويالها من لوحة راح الرسام العبقري يحرك فيها الحدث داخل الزمن ليخترق الذات ويشرخ الروح ويحطم النفس .. وكأنما قطرات الدم  التي تفر من جبين المسيح وجسده لا تزال حارة  اكاد ألمسها بيدي وأكاد ألمس ذؤابة الرمح التي غرست في الجسد .. آه  كم تألمت وكم حزنت .. ..

 اللوحة الثالثة كانت للمسيح وهو ينزل عن الصليب لوحة تسكب في النفوس مزيدا من الحسرة والألم والبكاء المر هكذا أراد الرسام لكنهم يا حسرتاه  لا يفهمون ...

لنترك اللوحات تلك ولنعود الى المعمار لقد طرأ على هذه الهندسة البسيطة تطور معقد لكنه فاتن خلاب، فأضحت كنيسة  رومنسية أولاً وقوطية فيما بعد، حيث قطع الصحن والطرقتين صحنٌ عَرضي يجعل التصميم في شكل صليب لاتيني. وشي جزءه الغربي والشرقي بالفسيفساء التي اضيفت فيما بعد بشكل عرضي   وحبذا لو تركت على حالها السابق .. لكن ماذا تنفع الأماني ممن لا يعلمون قدر وعظمة الفن القوطي وسحره وروعته..   

ومن أجل هذا كان المدخل الرئيسي في الواجهة الغربية التي تستقبل زخرفتها الخاصة ضوء الشمس الغاربة. كان مدخلها  وقد تجسدت فيه أبهة وعظمة  يتألف من باكية ذات تجويفات متداخلة : أي أن أبعد العقود من الداخل يعلوه عقد أكبر منه يمتد إلى الخارج، من فوقه هو أيضاً عقد يعلوه عقد ثالث أكبر من الثاني، ويتكرر هذا الوضع حتى تبلغ العقود ثلاث  طبقات تزيد جمال عقود الصحن  وأكتاف الشبابيك. ويتسع كل رباط حجري من العقد المعماري للتماثيل أو غيرها من الزخارف المنحوتة، وبذلك يصبح مدخل الكنيسة  وبخاصة في الواجهة الغربية، وكأنه فصل شامل واف في كتاب القصص المسيحي الحجري.

ومما زاد في روعة الواجهة الغربية ومهابتها أن أقيم حولها من الجانبين برجان، ولم تكن تستخدم الأبراج  في الطرازين الرومنسي والقوطي مكاناً للأجراس فحسب، بل كانت تستخدم فوق ذلك لتحمل ضغط الواجهة الجنوبي، وضغط حجارة  الأجنحة.  كان  جزؤها  الأكبر مفتوحاً عند قاعدته، وكان  البرج بمثابة  فانوس عملاق   ينفذ منه الضوء الطبيعي إلى وسط الكنيسة. وقد أراد المهندسون القوط المولعون بالأوضاع الرأسية أن يضيفوا برجاً رفيعاً مستدق الطرف لكل واحد من هذين البرجين، غير أنهم لم يسعفهم ربما الوقت ، أو الحماسة، وسقطت هذه الأبراج المستدقة كما حدث في  كنيسة مادبا التي كانت تماثلها روعة  وجلالا  ...  البرجين  يشرفان  على الوادي وعلى القرية وكأنهما شاهدان مؤذنان بدنو الأجل وخلاص الروح التي تسبح في فضاء هذا الوادي الغارق في سكونه وهدوئه .. علق في أعلى البرجين ناقوسين عظيمين ويقال أنه دخل في مزيج البرونز الذي صنعا منه كمية كبيرة من ذهب كنز روماني وجد في احد الكهوف الأثرية في ناعور  وربما هذا ما أعطى نقاء الصوت الذي يبعثه هذين الناقوسين عند قرعهما .. وكان الضرب على الناقوسين يتم بفارق محسوب بدقة بحيث يقرع الأول وبعده بثواني يقرع الآخر فكان الصوت يتلاحق بطريقة مذهله وكأنه سنفونية الاهية مفعمة بنشيد الخلود الذي يتردد في جنبات الوادي صداها فلا تحس الاذن بانقطاعها طيلة ساعة كاملة في مساء السبت وصباح الأحد اما في الأعياد المسيحية فكانت تلك الترانيم ودقات الأجراس تستمر وقتا أطول بكثير ......

معمار الكنيسة أذن غلب عليه الفن القوطي أو البناء القوطي الفريد، وميزة هذا المعمار هي التجرد  من الترشيمات وتمكين الهندسة من ملء الفراغ في الكنيسة، والعمل على تزويد المشاهد بانطلاقة نحو العلا كيما يتمكن من التقاط كلمات الروح القدس ويصبها في قلبة، كما يأخذ بيدك الى أن يجعل زاوية النظر تمتد في الأفق بحيث لا يقطع سبيلها مؤثر ما أو عائق بصري أوفكري .. وكأن الكنيسة كلها تثب الى أعلى وتسبح في ملكوت الفضاء وبخاصة اذا ما حانت منك التفاتة الى عقودها المزدانة بالتماثيل

 

ففي كل عقد من عقودها تنتشر عدد من التماثيل التي لا  يعلم من نحتها أو من أين جلبت ، تمثال للقديسة مريم وثمثال للقديسة حنة وآخر للمسيح ثم اثني عشر تمثلا مصفوفة بطريقة عجيبة تخلب لب الناضر إليها وهو يتأمل دقة الصنعة فيها ومساحة الخيال الرهيف للناحت الذي أبدعها على هذه الشاكلة الفريدة  العجيبة ..

 

2

 

كان سقف الكنيسة من الخارج قد غطي بالقرميد الأحمر  ويال تلك الروعة التي يعكسها  هذا الجمال عندما تنعكس عليه أشعة شمس الصباح الوضيئة،   حيث يغمر النفس بإحساس مشبوب يطلق الروح من عقابيلها الأرضية ومن إسارها الشارد وجروحها  النازفة من ثقل العقل حتى يبدو عالم الروح والعقل عالم واحد لا فواصل بينهما ولا حدود، بل وحدة شاملة يتحول فيها الانسان الى طيف ملائكي يسير عل الأرض .. وما يزيدك بهجة وفرح لا حدود له هذا الينبوع الذي يدلف من تلك الصخرة الباكية في الجانب الشرقي، بخريرة اللطيف الذي يطرب الحياة في داخلك وهو يتلوى في قناته التي بنيت من أحجار البازلت، منحدرا حتى يصل الى بطن الوادى الكبير، ولعل أجمل ما في هذا الينبوع الدافق من روح الحجر، هو طعم المياه الذي تعطره أزهار الياسمين  والريحان التي تتساقط في قلبة في كل حين ، فتزكوه شذا وعطرا يأخذ بجماع الذات حتى ليبدو وكأنه رسالة خالدة من رسائل السماء، حملها نبي شع نوره في أفق بعيد وراحت أنفاسه تمرح في أمواهه الرحبة السعيدة زهوا لحياة القلوب، وشرابا  خالدا يغذو الأرواح الهائمة  زاد الخلود . وإما بدهك  منظر القوس  القائم على عمودين من رخام برزت على تاجه رسوم متقاطعة لا تتكاد تتبينها  حتى تأنس في نفسك السكينة  خصوصا مع انحناءالعمودين قليلا الى الداخل  مما يجعلهما   يغفوان  على الصخرة وكأنهما يحتضنها  بدعة، وكأن الفنان الذي صممهما على هذا النحو أراد أن يطلق خيال الواردين الى هذا الينبوع بنوع من الترميز الشديد البالغ التأثير،  فهذه عبن الحياة التي يجسدها والتي سكبها الثالوث الاعظم في قلب هذه البقعة الطاهرة من الأرض.

 

وفي حي اللاتين هذا كل شيء موزع بتناغم أخاذ.. فالبيوت تتناثر في تؤدة وهدوء، منحدرة من أعلى الى أسفل، تتكون في اغلبها من طابقين فقط ،ابتعدت عن الكنيسة في مساحات متساوية لتترك فضاء رحب وواسع  حولها اغرقا في الروعة بحيث تستقل الكنيسة بمكانها وبروحها وبشعائرها وأنغامها وصلواتها ، الطابق الأسفل في كل بيت مكون من بهو واسع  هو مكان الجلوس يحرص اصحابه على أن يفرشوه فرشا بسيطا بعيدا عن الأبهة والفخامة  ودلالة ذلك ترك مساحة  تشي بعمق الإيمان  والسكينة والابتعاد عن مظاهر الحياة المادية،  وفي جوانب البهو تتناثر العديد من التماثيل الدينية وصور المسيح والعذراء مريم وصور القديسين .. ويحرص كل بيت على وجود مبخر  نحاسي له ثلاثة أجرنة متساوية يوضع بها نوع من البخور تنبعث رائحته في  فضاء البهو كل حين ،  يصعد  من البهو  درج  الى الطابق الثاني الذي أعد للنوم، أما اسطح المنازل فعادة ما تغطى بالقريمد الأحمر في محاكاة على ما يبدو لسطح الكنيسة  ،  تحيط بكل بيت منها أسوار من اشجار الصنوبر والسرو، وهي اشجار تكثر في هذه المنطقة ، ميزتها أنها دائمة الخضرة  طوال العام ومنظرها يأخذ باللب في جسدها الملفوف بهندسة رائعة ساحرة  تبدا بالإتساع ما أمكن عند قاعدة الجذع ثم تأخذ  بالأنسياب الضيق كلما ارتفعت  نحو الاعلى على نحو بالغ الدقة،  واجمل ما في هذا النوع من الأشجار هو عندما تهتز بفعل هبات النسيم  فتطلق تلك النغمات العذاب وكأنها تسابيح تحوّم بالفضاء خصوصا عندما  تنبعث  نغمات الارغن من قلب الكنيسة أثناء اداء الصلوات  فتختلط تلك بهذه  مشكلة معزوفة أشبه بمعزوفة السماء  .. وآناء الليل عندما يرف القمر بنوره الباسم يهتبل المنظر أمامك وانت تري هذه الأشعة الوردية قد نفذت من المساحات الضئيلة بين الاشجار لتنعكس على الشوارع او على جوانب الدور التي بنيت أغلبها من الحجر الأحمر القاني وهو ذاته الحجر الذي بنيت منه جدران الكنيسة والدير تنعكس ضلال  الاشجار وضوء القمر ليرسم تلك اللوحات التي تتراقص أمام ناضريك في بداهة ودهشة.... فقط يجب أن يكون شعورك عميقا بقيمة الفن حتى تلتقط مثل هذه المناظر  التي توحي باحاسيس مشبوبة ناضرة. وفي داخل الحديقة المحيطة بالبيت تنتثر اشجار من الزيتون والتين والرمان  بأنواعة المختلفة التي تلتف في عقابيلها عرائش العنب والزيزفون أما  اشجار الياسمين التي تتسلق   على الحواف فما ابدعها وهي  تنثر عطرها في كل اتجاه،  خصوصا  في فصل الربيع وبداية فصل الصيف ..إذ  ترف أزهارها باللون الأبيض واحيان في الاصفر  وما أروع أن تشاهد هذه الأزهار تتساقط على الأرض، ان الياسمين وهذه معجزته هنا في هذا الحي بالذات،  انه لا يطلق عطرة الآخاذ الا في المساء، ولا أدري اية معجزة تلك، وفي هذه الحدائق الغناء تكثر أنواع الطيور وتتعدد وهي تتقافز من شجرة الى اخرى،  وأخص ما يشدك هنا الهداهد الوضاءة الجميلة التي حرم أزعاجها ، ترسل أعذب الألحان عندما تصدح في ساعات الأصيل أو في ساعات المساء،  وهناك الحسون بأنواعه والوانه واحجامه التي تنثر أغانيها الشهية في رقة ودعة خاصة اذا ما اختلطت مع هديل الحمائم التي يحرص كل بيت في هذا الحي على اقتناء اسراب منها كثيرة، وما اجمل أن ترى تلك الأسراب وهي تجوب الفضاء في الصباح و المساء بأعداد كبيرة تتلوي مع الريح يمنة ويسرة هبوطا وصعودا ثم تتساقط فرادى على أسطح المنازل عندما يجن الضلام .

كم تساءلت عن معايير الجمال أين تختفي عندما تتنفس هواء القداسة الاليهة الذي يمرح متراقصا في هذا المكان العابق بالسحر والجلال والجمال في هذا الحي وما يحيط به  من هضاب واودية ترف فيها الأمواه الدالفة من الصخور الباكية والبساتين المتانثرة على صفحات الهضاب وفي القيعان وعلى حفافي مجرى السيل العرم .. وتلك لعمري نغمة من نغمات الوجود الخالد ولحن من الحان السماء في لحظة صفو من لحظات ارادة الحياة الكبرى .

 

ولكم وددت أن اعيش في ذلك الجو الذي مزج بين القداسة والشهوة بين الايمان والتقوى بين الانسانية والألوهية طيلة حياتي قبل أن احمل عصا الترحال مُهوّما في هذا العالم ..  آنئذا  كنت استمتع بكل نوازع الانسان في داخلي واقتات بكل حواسي على هذا الجمال بحيث تتجسد جماع عواطفي وارادتي  فهنا مساقط الحكمة التي تغذو عقلي  ووجداني  وهنا رسلي وأنبيائي  وكتبي المقدسة  ..

 

أول مرة دخلت فيها الى هذه الكنيسة التي يطلق عليها الآن كنيسة النور كانت في عام 1980م  في أحد ايام الأحد وكان دافعي الى ذلك غريبا ولا أدري سببا لبواعثه ..ربما كانت تلك الالحان التي ترسلها اجراس الكنيسة في المساء من كل سبت،  أو في صباحات الآحاد مع بداية القداس ألحان  كانت تتناثر في سماء ناعور وتتردد أصداؤها في جنبات الوادي معلنة بدء ميلاد  الروح الذي يستعاد حيا متجسدا على مثال رائع،   لكن ما أن ولجت الى داخل الكنسية حتى أخذت بأمور ثلاثة، تركت نطباعا في ذاتي فيما بعد لم أستطع التخلص منه لسنين لاحقة ،الأول هو طريقة الصلاة، والثاني هو الفضاء الرحب الجميل داخل الكنيسة الذي اذهلني ،  والثالث هو تلك المويسقي الهادئة الناعمة التي كانت ترافق أداء الصلوات ...

 العبرة وراءالصلاة الجماعية في الكنيسة  لطيفة ..  تقول : كما أن المسيح تجسد في أحشاء مريم عندما حل عليها الروح القدس فالمؤمنون جميعا في هذا الكون يجسدوا  أو يكونوا  جسد المسيح الكوني بالروح القدس وبنعمته التي تحل عليهم في الكنيسة التي تمثل مريم العذراء فالروح القدس يجسد كل الحاضرين في الكنيسة ويصبح المسيح هو المصلي فيهم ، فكأنهم في داخل رحم  الكنيسة  جسدا واحدا كما كان المسيح جسدا واحدا  في رحم مريم.. فالكنيسة هي مريم بالنسبة لهم و  عندما يحل الروح القدس يرتفع المصلون الى القدوس وليس القدوس هو الذي ينزل فيصبح كافة المصلين روحا واحدة وجسدا واحدا  هذا مع ما يخالطه الكاهن من تسابيح وترانيم وأدعية تعيدها الجوقة المرافقة في سكينة ودعه وحزن وفرح  تمتزج  المشاعر حتى لا يبقى سوى احساس واحد مفعم بشعور واحد هو الشعور بحضور المسيح الذي يطغى على كل شيئ ..

أما بهو الكنيسة  فيشعرك  بجلال المقدس الذي يتواثب أمام عينيك وتكاد تتلمسه  بأطراف أناملك .. ويحي ثم ويحي .. أمن الممكن أن يتجسد المعنى على شكل مادي خاصة عندما تنبعث رائحة البخور والند عبقا يخالطه شذى التاريخ وجلال الكلمة السماوية  .. من هو أنا ذا الغارق في أتاويه السحر وملكة الخيال ونار  الوجد   ؟  عبارة همست بها في قلب فتاة  كانت تقف الى جانبي خاشعة في محراب تبتلها  ، كانت المسكينة غافية العقل يقضة الروح .. آه كم أنا مارق لعين لقد أدركت ذلك فقلت لأقطع عليها  خشوعها فلدي سؤال تتمتم بها شفتاي لكن الفتاة لم تلوي على شيء ولم تحفل بسؤالي، في بدء الأمر كنت أعرف ذلك لكني أشحت بوجهي وعقلي  وكياني    عنها  لحظة أن راح انطون يراقص مفاتييح  البيانو الضخم بأنامله وانطون هذا كان عالما بالموسيقى تاريخا وفكرا ولحنا كان عبقريا فذا غريب الأطوار والأفعال .لا يتكلم كثيرا ويفضل الصمت، اذا سئل اجاب بعينيه الجاحظتين وبحاجبيه العرضين، واذا ما استفزه السؤال عرضّ بحده وانهال كالسيل  مما   يروي لا ضمأ السائل فقط  وإنما يحشو عقله حشوا بما  لا يتوقعه  ...   كانت حياته يكتنفها الغموض لكنه كان ذا سطوة بالغة على  رواد الكنيسة  اذا ما راح يعزف على آلته المحببه الى قلبه كثيرا البيانو    .. لم يكن يحب الارجن لأن الدو فيه ثقيل وهو لا يتناسب مع مسحة الألم وجلال الكلمة الالهية ولقد دارت بيني وبينه حوارات عديدة  سأعود لها في غير هذا الموضع ..

راح أنطون يعزف مقطوعة شوبان رحلة الخلود  وهي اعظم ما تركه هذا العملاق من آثار

 

و شوبان كما نعلم  هو مكتشف هذا العالم الجديد بظلاله المتألقة، وانتقالاته الأخاذة من أسطع الألوان إلي أقتمها، وهو الذي اكتشف سلم الألوان الموسيقية. فعند شوبان لم يعد السلم الموسيقي كما هو في الموسيقا الكلاسيكية في أركان البناء الموسيقي، بل أصبح اساساً ذا قيمة تلوينية وقد عني شوبان بوصفه الأب الحقيقي للموسيقا التأثيرية بهذه التصويرية أكثر من عنايته بأي جانب آخر من جوانب السلم الموسيقي وأصبح للانتقالات اللمية عنده معني جديد. ففي الموسيقا الكلاسيكية كانت التحولات من جانب الشكل والبناء فهي مصممة وفقاً للمكان والزمان. ومن الإجراءات التي لا مناص من إتباعها في الطريقة الكلاسيكية البدء في سلم موسيقي معين ثم ينتقل من هذا السلم علي أن تتم العودة إليه في النهاية ولا يتجاهل شوبان هذه الوظيفة البنائية للسلالم أو ينكرها، إلا أن أكثر ما كان يعنيه ويطرب له، كان البراعة في حجب هذه السلالم أو عدم إظهارها، أى أن ما كان يهمه هو أن يكون للموسيقا الظلال اللونية الرقيقة التي كان الرسامون الرومانتيكيون وبوجه خاص صديقه الحميم يوجين ديلاكروا ينشدونها وقد نظر شوبان للون علي أنه عامل أولي مستقل له مكانة بارزة في الموسيقي بشرط ألا يتأثر التماسك أو تتأثر الميلودراما من جراء زيادة اللون. وربما أمكن التعبير عن ذلك بدقة أكثر إذا قلنا أن السمة الأساسية المميزة لموسيقى شوبان الرومانتيكية هي الميلودراما المتخيلة في صورة لون دائم التغير، أو في صورة لون يتحرك أو ينساب، وفي مثل هذا الفن من الضروري أن يكون الإختلاف بين الضوء والظل وبين الألوان الباهتة والألوان الصارخة ذا أهمية أولية ويؤدي هذا إلي اللجوء إلي جميع السبل المتيسرة بما في ذلك الإيقاع والأنتقال من العنف إلي الرقة لتحقيق ذلك. وقد لجأ شوبان إلي عدة سبل للتعبير عن الرؤي الرومانتيكية للألوان باختلاف درجاتها، كان من بينها ما يلي:

·        مرونة الإيقاع

·        وفرة إشارات القوة واللين

·        التشديد في إطلاق النغمة

·        تأخير النبر

·        الأرتفاع التدريجي للصوت بصورة درامية مثيرة

·        الزيادة التدريجية في سرعة العزف

· الإبطاء المفاجيء

وقد إستخدم شوبان العناصر السابقة وغيرها للتعبير عن مشاعره وروحه الرومانتيكية ..الأشواق..واليأس والانفعالات وللتعبير عن شخصيته الفريدة. فجاءت موسيقاه الخالدة نتيجة لهذا التوافق الذي ظهر فيها بين خصائص شخصيته وتعبيره عن عالمه العاطفي ولعله لم يكن أيضاً من محض الصدفة أن ترتبط ارتباطها بأية آلة موسيقية أخري. فلم يكن مستطاعاً لأية آلة موسيقية أخري كالأورغن أو الآلات الوترية أو آلات النفخ أن تتوافق مع هذه الموسيقا العاطفية الجديدة بمثل الروعة التي تحققت عند استخدام آلة البيانو. كما كان لاستخدام الدواسة تأثير أعظم أهمية فبفضلها أمكن إطالة النغمة وفقاً لرغبة المؤلف.

وكان طابع موسيقاه صورة حية من الألحان ( المفرحة البهيجة ، ا لتي ذاقت طعم الرغد وا ليسر
 مؤلفاته تخضع إلى أساس التنويع وا لتحوير في المقامات المختلفة وقد تجلت روحه الفنية بصورة خاصة في التوزيع الآلى للأوركسترا ، فكانت أفكاره الملهمة مزخرفة
بالأ لوان والنماذج ا لكاملة ، قل أن يظهر فيها العنف والاستسلام .

 

3

 

فحيح شهوة سوداء تقاطر في نفسي فجأءة وعلى حين هدأة من لحظات كنت اقراء فيها تراجديات سولوخيوس من ترجمة مندور لا ادري مبعثها لكنها حطت عليّ بثقلها هادرة عاصفة، فالقيت بهذا الحزن المغرق، وهذا البكائيات غلى سمنتاسس تلك الفتاة الجميلة التي احبها منتوسيوس، فراح يملء الفضاء من حواليه بكائا مريرا على فتاته التي قدمت قربانا الى مذبح الالهة في يوم عيدها ..
الساعة تدق ثبت الخامسة من مساء يوم السبت، كان الطقس باردا ، فنحن في بداية فصل الخريف ، هذا الفصل الذي يذكرني بالموت دائما لا أدري لماذا ؟ لعله التغيير الذي يذكرنا بأن الزمن يتحرك، لكنه يتحرك حركة دائرية... في كل يوم، بل في كل نبضة قلب ورفّة جفن، يتغير ، لكن حواسنا البليدة، لا تكاد تشعر بهذا التغير إلا بعد أيام أو أعوام أو أجيال. فنحن لا نحس دبيب البقاء وزحف الفناء في أجسادنا من ساعة لساعة ومن يوم ليوم، ونمضي نقطر الثواني إلى الثواني، والفصول إلى الفصول، واهمين أننا اليوم عين ما كنّاه أمس، وسنكون غدًا عين ما نحن اليوم. 
جاء الخريف اذا ماشيا جذلا مترتحا سكرا، وعلى شفتيه شهادةٌ من دم الكروم التي افتض عشقها فتركها ذاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس ، وفي عينيه وهجٌ من روحها، وفي يديه فلذاتٌ البراءة من أكبادها، وعلى ظهره دنٌّ من النبيذ المعتَّق. يدفع به الى قلبي قائلا اشرب يا رفيقي هذه هديتي لك .. فهششت لهذا النبي وبششت، وألحفت عليه في الدخول والتحلل من وزر أثقاله ومن وعثاء الطريق. لكنه أبَى الدخول، وأخذ بيدي سائرا على بساط من الكلأ الشائب والأوراق الكالحة، المفطومة عن ثدي أمَّهاتها الباكيات ، والهائمة على وجوهها غدوا ورواحا . وكانت الشمس كأنَّ على وجهها دثارا من غبار، والهواء كأنَّ برأسه صرعا وفي قلبه احتقانًا، والأرض كأنَّ بها نزيفًا لا ينقطع مداره ، والسماء كأنَّها الرِّق ما خُطَّ عليه شيء إلا من بعض سحابات جهم تلويها الريح العاصفة في آخر الأفق . ما احببت الخريف ابدا فما ثمة الا رسائل الريح العاوية عواء الذئاب، الباكية بكاء الثكالى، والصافرة صفير الهاويات، النافخة بأبواق الجن والعفاريت، ناقمة مولوة قاصفة مدوية في قلبها صقيع الصحارى ولا عجب فهذه الريح التي تسمى ( الشرقية) تهب على الاردن من الصحراء ويطلق عليها اسماء كثيرة منها الرياح الخماسينية او السموم ويظل هبوبها دائما حتى في فصل الشتاء .. ومما يزيد الأمر سوء في ناعور .. أن هذه البلدة تقع في منخفض تحيط به الهضاب من جميع جوانبه أعلاها الهضبة الشرقية التي تبدو على شكل جبل من الصخر الصلد القاسي ينحدر بشدة نحو وادي ناعور .. وعندما تهب هذة الريح تزداد سرعتها بشكل جنوني وهي تتلاطم بين الهضاب والمساكن يرتفع صوتها وصفيرها وصقيعها أثناء الليل بحيث يبدو الخروج من البيت فيه من المخاطر الشيء الكثير،عبثًا حاولت أن أصمَّ أذنيَّ دون الفحيح والهدير والصفير والنفير، وأن أزرع فيهما أغاني الهداهد، وزقزقة الحساسين ، وحفيف الأوراق، وخرير الجداول، في ليالي الصيف المقمرات. وأن ألقي هذا الكتاب اللعين الى النار التي تلحسُ أجساد العيدان التحيفات في موقدي .. فها إنه يأتي من بعيد صوت الجرس صوت أتى لينقذني من هذا الجو المشحون بالملل والكآبة التي بعثها في قلبي هذه المقطع الحزين الذي راح صداه يتردد في نفس الفتاة المحطمة ( .. ما أجمل الحياة وما أتعس أن نموت دون أن ندري).
ارتيدت معطفا جيشيا ثقيل ولففت رأسي (بشماغ ) وقلت هو ذا نداء السماء جاء يتقاطر في هدأة مع صفير الرياح الخماسينة العاتية .. لن احفل اذن بك ايها الخريف .. ويممت صعدا الى حيث الدير، ولا يزال فحيح الشهوة التي ربما بعثها في نفسي ذلك الرسم الغنائي الشجي الذي راح منتوسيوس يرسمه لحبيبته وهو يصف جسدها الأفعواني بتفاصيل دقيقة. .. 
وما أن دخلت بهو الكنيسة حتى شعرت بالدفء يغمر كل جسدي لم يكن ثمة كثير من المصلين كما كانت العادة في مساء كل سبت .. مما جعلني القي بالسبب على هذا الزائر اللعين .. أين تلك الغوادي اللاهفات اين تلك الروائح الزاكيات أين تلك اللاوتي يفتُرن عن المباسم اللاهفات .. والعيون الساحرات .. اين تلك الاجساد المتمايلات مع كل انعطافة مجنونة يرسلها انطون.. كسبرانوا عالي في المفاتيح المنخفضة على الباينو عن قصد ليضفي جوا من البهجه والمرح ففتتراقص النهود البضة وتفتُّر العيون النضرة .. يا حسرتاه... من يطفئ فحيح الشهوة في قلبي ويسكت هذه النار التي التهمت روحي .. لا نظرة لطيفة، ولا همسة لهيفة.. فما ثمة الا هذه العجائز خائرات القوى اللاوتي أشحن بوجوههن الى القبور .. وهذا الخوري اللعين .. الذي راح يلقي موعظة ويالها من موعظة كانت حول بركات غلفة المسيح ..جلست على احد المناضد وقلت في نفسي اي غرابة تلك؟ لم اصغ الى ما يقوله هذا الخوري صاحب السحنة العجيبة من أكاذيب، ورحت امتع ناضري باللوحات التي تناثرت على سقف الكنيسة .متأملا هائما في اهتزازات الألوان وعمقها وجلال الخطوط وروعة الإنثناءات وصفاء الروح وسكينة النفس فراح شعوري يتواثب هنا وهناك، وسرت في جسدي قشعريرة ناعمة اهتزت لها روحي فأين هذا الشعور المفعم الهائم في أوداء القداسة من هذه الثرثرة التي يطلقها هذا الخوري الجاهل ؟ .. لا ادري كم من الوقت مضي لكن ما أن هممت بالخروج من الكنيسة تاركا هذا الخوري وأكاذيبه حتى أطلت فينوس كاهنة الدير بوجهها النوراني حيث علا خديها حمرة كان مأتاها من هذا الصقيع المرعب ، كانت تردتدي شالا أسود يغطي رأسها وما ان دلفت الى داخل الكنيسة حتى ألقت الشال على كتفها ثم ارسلت شعرها الفاحم الجفال .. وحيتني بلطيف ابتسامة أحسست أنها اخترق كل كياني فهي تعرف كيف تعبث بي .. أومأت لها أن تجلس الى المنضدة التي بجاني ثم اقبلت في هذه اللحظات على ما يقوله الخوري وأنا اتلصص النظرات لها بين الحين والآخر .. قالت هامسة ما هذا الذي يقوله أبونا ؟ قلت لها أكاذيب فهذا الخوري سطحي التفكير قليل البضاعة من الفكر والإيمان... وتابعت قولي .. هل تعلمين أنه ثمة هوس ديني حول غلفة المسيح سيطر على التفكير المسيحي قرونا طويلة وكان مدعاة كبيرة للنزاع في المجامع الكنسية منذ مجمع نيقه في عام 334 م . وقد جاء ذكر لهذه الغلفة في رواية يحكيها الإنجيل تقول الرواية في نصّها: ولمّا كانت أيّام الختانة وهو اليوم الثامن أوجبت السُنّة ختانة الصبي فختنوه في المغارة أيضاً. وأخذت العجوز العبريّة تلك الجلدة المقطوعة. وقد كان لها إبن عطّار فوضعتها عنده في قارورة دهن الناردين. وهذه القارورة هي التي إبتاعتها مريم الخاطئة وسكبتها على رأس يسوع فيما بعد لكن الغلفة ظلت في قعر القارورة إضيف لها الناردين مرة أخرى ليحفضها من التلف ... لكن لماذا وكيف تتلف وهي غلفة الرب ؟
وقصّة هذه القارورة جاءت في ثلاثة أناجيل .. ولقد تعجبت للقديس أنومونو هذه القديس العقلاني تلميذ ابن رشد كيف راح يشيد بها في كتابه ذائع الصيت الإيمان والعقل .. ومها يكن من مصير هذه الغلفة، إلاّ أنها أصبحت موضع تعبّد في القرون الوسطى. وهناك عدد من الكنائس الأوروبيّة التي تتنافس في إمتلاك غلفة المسيح وقد طرح أمر تكاثر غلفة المسيح على البابا انوسينسوس الثالث (1160-1216) كما يقول الآب الأسباني راتنيني في تاريخه . تاريخ الكنيسة .. فحكم بأنه من الأفضل ترك الأمر لعلم الله بدلاً من البت فيها دون تيقّن. وهكذا تجنّب غضب مالكي الذخيرة. فاستمرّت الكنائس بعرض ذخيرتها المقدّسة. ولكل ذخيرة أساطيرها وأعاجيبها.
ثم تابعت حديثي هذا عن غلفة المسيح وكل قصدي ان استثير شهوتها فلا يهمني من أمر هذه الغلفة شيء فما هي الا اكذوبة واعجوبة من أعاجيب المسيحيين، فمثلاً غلفة المسيح لديها مقدرة في شفاء العقم وتساعد الحبالى في ولادة أولادهن. ففي عام 1422، طلب الملك هنري الخامس من رئيس الدير أن يعيره تلك الغلفة الذخيرة بعد إحتلاله لجزء من فرنسا لكي يأخذها لزوجته كاترينا في لندن التي كانت حاملاً. وما أن لمست تلك الذخيرة، حتّى وضعت إبناً ذكراً هو الذي أصبح الملك هنري السادس. وبعد ذلك أعادها الملك إلى فرنسا. إلاّ أنه خوفاً من أخطار الحرب على الدير جعلته يضع الغلفة مؤقّتاً في باريس . وعند تذمّر صاحب الدير من الغلفة وما سوف تجره من ويلات ، قرّر وضعها في دير آخر ينتمي إلى نفس الجمعيّة في باريس على أن لا تُخرَج من هذه المدينة. ولكن رهبان الدير الأصلي إستطاعوا الحصول على قرار ملكي عام 1447 بعودة الذخيرة إليهم. وقد قدم الملك لويس الحادي عشر عام 1464 إلى الدير ليكرّمها.....
ومشكلة الغلفة هي مشكلة معرفية يا عزيزتي في الفكر المسيحي ... هل هي جزء من الناسوت أم جزء من اللاهوت فإذا كانت جزء من الناسوت فنحن نعلم حسب الفكر المسيحي أن الناسوت في الذات هو تشخيص لطبيعة اللاهوت وبالتالي فجسد المسيحي هو في الظاهر جسد انسان ولكنه في الحقيقة هو جسد إلهي نوراني ومن هنا مشيه على الماء وقبضه الريح في كفيه ـ وصلبه كان في الظاهر صلبا للجسد .. واذا قلنا أنها جسد الاهي فكيف لم تصعد مع الرب حين صعد الى السماء وقد رأى القدّيس واللاهوتي "بونافتورا ( الذي توفّى عام 1274) أن المسيح قام مع غلفته والتي قد تكون قد نمت مع التغذية تاركاً غلفته التي قطعت منه للتعبّد. أمّا اللاهوتي اليسوعي "سواريز" الذي (توفّى عام 1617) فقد تعرّض لسؤال مشابه حول الذخيرة المحفوظة في روما. فأجاب أن جسد المسيح قد قام كاملاً فيما يخص أجزاءه المتماسكة : لحمه وعظمه ورأسه ويديه ورجليه الخ. وكذلك الأمر فيما يخص شعره ولحيته وأسنانه وأظافره الخ. إلا أن الغلفة ظلة موجودة 
وقصتها بدأت مع "شارلمان" ( توفّى عام 814) الذي حصل عليها من الإمبراطورة "إيرين" كهديّة بمناسبة خطوبته. ثم أهداها إلى دير مارانمان عند تأسيسه وقد منح عدد من الباباوات بركات خاصّة لمن يحضر عرض هذه الذخيرة في إحتفال ديني. ثم إختفت هذه الذخيرة من الدير خلال إحتلاله من قِبَل البروتستنت في القرن السادس عشر. وعادت للظهور عام 1856 في علبة إكتشفها عامل كان يهدم حائطا. فقرّر الأسقف أن ما بداخل العلبة هو غلفة المسيح المختفية. فأعادها إلى دير الراهبات الأصلي ثم نقلت بعد ذلك الى روما وهي من ذخائر البابا حاليا ويضهرها في موسم واحد ولمدة ساعة وقد أحيطت بأسرار عجيبة وفي هذه الساعة تقدم صلوات برفقة البابا من شهدها نال بركات السماء وطهارة الأرض .. ومن مس القارورة لا يمسه شيطان أو مرض .. 
قلت ما يهمنا من أمر الغلفة هذه الا شيء واحد .. قالت وما هو؟ قلت شيئ عجيب أن من مس هذه الغلفة ذكرا كان أو انثى ربما تحول الى شهوة صارخة محمومة تنبعث على نحو يصبح فيه ........ قالت حتى توقف اندفاعي في هذا الحديث الذي ادركت مغزاه بفطرتها الأنثويه ... لا حظ أننا في بيت الرب وفي ساعة صفاء ... وأشارت بيدها الى ذلك العجوز الذي يجلس خلفنا والذي راح يتلصص على ما اقوله همسا لفينوس .. 
نزلت عند رغبة الفتاة ورحنا نتابع الخوري الذي صمت عن ثرثرته قليلا .. ثم طلب من الشماس أن يقرأء الترنيمة الطويلة التي راح الخوري يقص علينا حكايتها وكيف أنه قرأءها على الرب في حلم عجيب فطلب الرب منه أنه يقرأها في كل صلاة أو جناز أو فرح .أو أو .. الخ وكم سمعنا منه هذه القصيدة المقرفة التي لا نفهم منها شيئا فلا أدري كيف أملاها الرب وفي اية لغة لكن اجبرت على أن استمع لها هذا اليوم لأنني لا أود الخروج من هذا الدفء اللطيف خاصة بعد أن جاءت فينوس .
تقول بعض فقرات الترنيمة
هو ذا الجو
جميلا من فوقه جاء . . جاء النور الهابط 
النور يا ابي جاء .. جاء هللوليا 
القدر الآتي جاء هللوليا
البركة أنت ياسوع أبي  
الروح أنت إن جاء جاء 
من قال كمن قال النور فهو بالآب جاء جاء 
ولا نعرف من جاء ولماذا جاء وكيف جاء لكنها خرافات يدندن بهذا الجلف ومن وراءه الجوقة والشمامسه الذين اسكرهم اللحن فراحوا يتمايلون زورا وبهتانا .. 
وهكذا تسير القصيدة العصماء التي تتجاوز عديدمن الأبيات  يقراء في كل حين منها مقطعا بحسب واقع الحال ... وكم كانت هذه المعلقة العصماء تذكرني بالشاعر الفرنسي بريتيون ..الذي سحر شعرائنا العرب المحدثين وخاصة من سمو أنفسهم بشعراء  ما بعد الحداثة .. بشعره العالي الذي لا تفهم منه شيئا فراحوا يستعدونه نبيا وهاديا ومثالا يسيرون على دروبه لا يحيدون عنها وهذا مثال لشعر بريتيون 
يقول في قصيدة الجذع .... 
أنا جذع يتسلق الشجرة 
ومرحاض ذو نكهة 
ونموذجا لخصلة من باريس
ونافذة مفتوحة ومغلقة في ذات الآن
أنا ملعقة يشرب فيها النهر القهوة في الصباح الباكر 
النافذة ذات الشعر ذهبت الى المرحاض 
لكنها ما استحمت 
قمحات .. قمحات .. قمحات

الابتسام فصل .. والقبلة مشت على رجليها الى هناك 
نور الباطن تفاحة الربع هبطت من السماء 
واسمع تحليل هذه القصيدة عند النقاد العرب ويا ويلك مما تسمع من أعاجيب وأكاذيب راحوا يسمونها نقدا وتحليلا وقراءة للنص وموسيقى داخلية وصور خلابة آسرة تأسر ذهنية المتلقي 
كذلك هو الحال مع الشاعر باتريس دي لاتور دي الذي مات في عام 1975 واسمع لهذه القصيدة بعنوان المسيح يقول فيها ... 
دي .. دي .دي . قال الصليب
ري ري هز الصليب خصره
في ... في .. في .. قال طق .. طق .. طق 
المسيح .. جي ..   
وهي قصيدة طويلة...
وسان جون بيرس في قصيدة العمياء
قصاصة خرج 
لماذا خرج 
لا ندري لماذا خرج 
انتهت القصيدة 
.
وهكذا لا تفهم من هذا الشعر شيئا سوي هذا الغثاء الذي قرفنا به أدعيا النقد والتحليل الذي بسببه انهار الشعر والمسرح والفن والموسيقى وبالتالي انهارت قيم الأخلاق والجمال ..ومثال لهذا الانهيار الادبي مسرح اللاممقول .. آه.. من هذا المسرح .... الذي صار له مهرجان سنوي في الأردن تقيمه وزارة الثقافة وتدعوله الفرق المسرحية من كافة أنحاء العالم وتصرف عليه المبالغ الطائلة .. ويقام هذا العبث لمدة ثلاثة اسابيع .. ولا يرتاده الا القله من انصاف المثقفين والصحفيين الذي يملؤون الصفحات بتحلالاتهم التي لا يفهمون منها شيئا .. أما المواطن الأردني فلا يعنيه المسرح لأنه لا يعرف ما الذي يعنيه المسرح .. 
واشهر مسرحية اخذ يستعديها أدعياء المسرح في الاردن هي مسرحية ( في انتظار جودو) لصمويل بكيت .. شخوص المسرحية اثنان وشجرة .. فلادمير واستراجون ينتظران تحت شجرة مجيء جودو الذي ينتظران منه الكثير وعند نهاية اليوم الأول والمسرحية تجري على يومين يأتي صبي يحمل رسالة مفادها أن جودو لن يحضر هذا المساء لكنه سيحضر غدا فلا يتحرك فلادمير ولا استراجون من موضعهما 
وهكذا في اليوم الثاني يأتي نفس الصبي حاملا نفس الرسال أن جودو لن يأتي اليوم ولكنه سيأتي غدا .. وفي عملية الانتظار كانا يتحدثان لا عن شيء بعينه لأنه لم يحدث شيء .. حديث لم تفهم منه شيء ...
ـ كل الأصوات ماتت 
ـ هناك حفيف أجنحه 
ـ لا بل حفيف رمال 
صمت 
ـ إنها جميعا تتكلم في نفس الوقت 
ـ بل كل واحد يتكلم بنفسه ـ لكن من هو المتكلم 
ـ تتهامس 
ـ من ؟ 
ـ تهزم 
ـ تتهمهم 
ـ من ؟ 
ـ حبة التفاح 
ـ ما ذا تقول 
صمت طويل ..... 
ولما سئل بكيت عن هذين اللصين قال هما الذين علقا على الخشبة مع المسيح وسيضلا في انتظار المسيح لكن المسيح لن يأتي ابدا .. ومثل هذا العبث نجده عند أوغل في مسرحية الكراسي .. حيث يقوم العمل الدرامي على كراسي لا حصر لها على المسرح يحضرها شخص واحد بسرعة ولا احد يجلس عليها .. ثم يظهر صوتين لعجوزين يهذيان .. ثم يلقي الصوتان بنفسيهما من النافذه وهكذا تنتهي المسرحية التي ألفت في تقريضها وعظمتها عشرات المؤلفات حتى أن مؤلفها نال على اثرها جائزة نوبل للآداب .. أما اذا ما ذهبنا الى فرنندوأربال المسرحي الذي حصل على جائزة نوبل هو الآخر .. ومسرحية المنفصل .. التي تتالف من شخص واحد يركب دراجة ذات عجلات ثلاث .. فسيتملكك العجب والدهشة .. يدور الحوار بين البطل والدراجة . 
ـ أنا منفصل 
ـ تقول الدراجة عن أي شيء أنت منفصل ؟
ـ عنه 
لا عني 
ـ لا بل عنه 
ـ ولكن 
وهكذا ..
مرت ساعة طويلة ثقيلة وأنا على هذه الحال وأنا اقول في نفسي ويح هذا الرجل ألا يمل من ترديد هذا الغثاء .. فأنا ما تجشمت عناء هذا البرد القارص إلا لأن ألتقي هذا الملاك الطاهر الذي يجلس الى جانبي .. فما شأني أنا بالمسيح ؟ وما شأني بغرلته وتاريخها وهل كانت غرلة إله أم غرلة بشر .. 
قلت لفينوس استودعك صاحب الغرلة فأنا ذاهب .. 
قالت ولكني ضربت لك موعدا مع الخوري هذه الليلة والرجل استعد لحوار طويل معك حول طبيعة المسيح ... فقلت أنّا لهذا الجلف عقلا أحاوره؟
قالت .. لا تشدد عليه .. ألا يكفي أن أكون أنا موجودة ؟ وسوف نثمل هذه الليلة .. ساسقيك شراب روحي .. 
كانت فينوس أخت الخوري وهي طالبة تدرس الأدب الانجليزي في الجامعة الاردنية في سنتها الأولي .. أما أنا فكنت أقضي السنة الأولي من خدمتي الإلزامية في الجيش الأردني الباسل .. ويالها من خدمة ويالها من تجربة .. ويالها من مأساة عندما يفقد المثقف ارادته وتمتهن كرامته ... 
نظرت الى الساعة فقلت لها قال نيتشة: دقت الساعة ثبت السابعة .. وهي الساعة الكبرى التي دقت عشرة دقات في حياة هذا العملاق .. ولما كنت قرأت لها هذه القصيدة المذهلة لنيتشة فيما سبق ... ضحكت لأنها أدركت ما الذي أعنية ...
ما رتبنا الى هذا الحوار المهزله مع الكائن المؤمن إلا لأمر جلل .. فاليلة هذه ستكون هي الدقة السابعة التي سوف يستيقض فيها الشعور .. وهي تجربة عظيمة من التجارب التي تمر في حياة الفرد .. لكن كيف ثم كيف


4

 

خرجنا اذن من الكنيسة بعد انتهاء هذا الجنون والعبث وكانت فينو قد ضاقت ذرعا  بعربدة الرياح في الخارج .كما ضقت ذرعا أنا كذلك  بقصيدة الغلفة  تلك . وما أن دخلنا بيت  الخوري الملاصق للكنيسة  حتى أخذت بفخامة الاثاث الذي فرشت به  صالة الاستقبال، اثاث لم أرى مثيلا له في حياتي ،كانت مناضد الجلوس مصنوعة من خشب الصندل والبلوط محفورة على طريقة  فن  الأردبلك والعجيب في الأمر أن كل قطعة من هذه القطع تمثل عملا فنيا بالغ الروعة يأسر النفس ويمتع النظر ، خاصة أن النقش والحفر  في كل قطعة جاء على ثلاثة طرق مختلفة، التشجير المتقاطع في المساند ،  والتوريق الطولي في الأرجل، والحفر الوردي  المنضد في الأقواس التي تعلو المساند، مما يضفي نوعا من السحر عندما تنظر الى القطعة بشكلها الكامل التي تبدو  كمنظور نحتي راحت يد الفنان تصوغه  بطريقة تأمليه بالغة التأثير .. هذا مع الروعة التي اضفاها التصديف للفضة  الذي جاء على شكل تصليبات متعامدة يمتاز بها هذا النوع من الفن الذي ظهر في ايطاليا في العهود الوسطى ودخل بكثرة في   التشكيلات الهيكلية الداخلية للكنائس والأديرة ودور العبادة والقصور الفاخرة للنبلاء والملوك  والأباطرة، ثم انتقل هذا الفن ليشمل عموم اوروبا وعلى الأخص في اسبانيا وفرنسا وهولندا

  تسعى  زخرفة الأردبلك التي تعني في العربية الحفر والتعشيق   إلى التأكيد على ما هو مطلق عن طريق التكرار للشكل الحسي مع التفاضل النسبي للتضيق والتوسيع في الحفر ،  ليصل عبر ذلك إلى التداخلات الهندسية المحيرة بين الضيق والواسع  ، والتي  تشي بما هو   لامتناهي و خالد حيث أن مستوى النظر يتداخل  يتحسس المكان لا يكاد يقبض على شيئ يذكر  ، بحيث يبدو  الوصول عبر ذلك  إلى الصيغة المجسدة التي تمثل المطلق، أو المثل الأعلى بصيغة مادية  شاملة، من خلال هذا المنظور الهندسي الفلسفي الذي  عليه أن  يتكرر بإيقاع إيحائي رتيب، ليعكس تصورات جمالية امرا مستحيلا  اذ  أن اللامتناهي أو السر يكمن   في  باطن  الأشياء المادية التي تعبر عن الكل ، الامر الذي يجعله اي الكل  يقترن بذهننا بصفات مجردة، انطلاقا من   فكرة تجمع ما هو بسيط ببساطة مطلقة، مع ما  هو معقد تماماً ،  ليظل الانتقال مستمر بينهما الى ما لانهائية، وأن امكانية التعقل والحساسية  الذاتية، هي التي توصل  إلى فهم سر اللغز الوجودي المحير،  حين يكون الفرد  قادراً على الفهم سيدرك ، فإن كان من عامة الناس سيظل  حسياً في فهمه للجمال غير قادر للنفاذ الى تحسس مواطنه  وبواطنه   ، وان كان ذا ذائقة  أو يمتلك ثقافة البصريات، سيرى ما هو أبعد،  لكنه إن كان من   الخاصة ذوي الحساسية البالغة ، فإن الجمال المطلق هو ما سوف يراه ، وهكذا تتوضح لنا علاقة الحسي بالمطلق والجدلية القائمة بينهما.. وتلك  لغة الجمال في أعلى مراميها ومضانها التي سكبها العمل الفني الممتاز في أرواحنا لحظة تأمله ....

إن  الخصائص  العامة  التي قدمها لنا  فن الزخرفة والحفر ،  تقودنا إلى شرح ميزة  ما اتصف بها هذا الفن الايطالي في الحفر على الخشب ، وعبّر عنها كفكرة مركزية، فالمحاولات لإيجاد حركة بين المتناهي واللامتناهي، بين العميق والقريب،  بين الظاهر والباطن  بين السكون والحركة  ، توصلنا إلى مفهوم أساسي ألا وهو التوحيد أو البحث عن الصيغ التي تدمج بين عنصرين وشكلين في تشكيل واحد،وتضل هذه الفكرة في عمقها هي ما تسمح بإطلاق الخيال نحو تحولات التصور في لحظات ما ،  من النقيض الى النقيض ، وهي التي تسمح بفيض الوجدان نحو الخارج.. وأعظم هؤلاء الفنانين على الإطلاق الذين أثروا.. و أثروا.. في هذا الفن هو لورنزو برنيني   الذي كان نحاتا من طراز رفيع وهو صاحب نحت تمثال النبي موسى الرخامي  في كتدرائية القديس بولس في روما .

  
 كانت صالة الاستقبال واسعة فرشت بالسجاد الصيني  الشهير  أما الستائر فكانت موشاة بالخيطان الحريرية التي كانت تميل الى اللون الترابي الذي يضفي مسحة من الجلال والفخامة  خصوصا مع هذا التضاد في الألوان بين المناضد الخشبية الداكنة والسجاد الأبيض الموشى بالخضرة وايقاعات اللون اللازوردي المتناثر بطريقة أقرب الى التهجين،  من خلال  تعشيقة باللون الأصفر الطاغي .. كل شيء ساحر حتى هذا الموقد الذي تشتعل في قلبه جذوع أشجار الرمان والزيتون تتصاعد  فيه ألسنة اللهب نحو الأعلى ثم الى اليمين تارة  والشمال أخرى  في إيقاع منضبط وتراقص بطيء  . ليبعث الدف الأنيس في أرجاء المكان .   الموقد  أقيم   في الزاوية الغربية للصالة   .. وقد أضفى  الرخام الأسود عليه  لمعانا طاغيا  ..

ما هذا .. أين أنا .. ومن أين لهذا الخوري . اللعين .. .. هذا الحس الفني المرهف في توزيع الأثاث  بطريقة تحس فيه القدرة الجامحة للخيال الذي خلقة هذا التناسب المبدع بين الفراغ والأمتلاء.. وانعكاس الضلال والأنوار.. وتساقط اشعة الشمس من النوافذ في لحظتي الشروق والغروب .. وقفت واجما لا ألوي على شيئ سوى أن أستمتع بهذه اللمسات الفنية ..
 ثم من اين له  المال ليقتني مثل هذه القطع الفنية  التي لا تجد  نظيرا لها  الا في القصور الفخمة،  ثم اذا كان له مثل هذه الثروة .. فكيف له أن  يردد تلك المواعظ عن مملكة الفقراء في السماء .؟. وكيف له أن لا يتأسى بالمسيح الذي لم يكن يملك من الدنيا غير رداءه؟ وهو الذي  ذم الأغنياء في مواعظه التي جاءت شاهدة صارخة ...لا يدخلون مملكته إلا اذا دخل الجمل من سم الخياط .. 

 

قالت فينو : حيث   لم تخفى عليها دهشتي وربما أرادت أن تلوي الحديث الى موضوع آخر ..   

اليس حكما قاسيا هذا الذي اطلقته على المسرح الأردني ..؟ .. اجبتها بابتسامة .. وصمت هنية .. ثم قلت يا عزيزتي .. وهل هناك شيء يسمى مسرح أردني ؟ أو مسرح عربي ؟

 العرب لم يعرفوا المسرح  عبر تاريخهم القديم والحديث .. أين نحن من مسرح توماس كايد  و وليام شكسيبر  وكريستوفر مارلو وجونسون و   دي فيكا ومنسا  وخولويا وكالدرون و فرنسوا رينيار وألان وروني لوسا  وفيكتور هيجو . وألسكندر دوما ألفرد دوفينيه وجوته صاحب فاوست وفخته و فولتير وديدرو والآنسة كليرون وليسينج.. والكسندر ماخ العظيم  في ليلة الحب .. وزهرة المساء .. وقمر هابط من السماء .. ومسرح الوجوديين سارتر ..وأندريه مور .. وألاسماء كثيرة وكبيرة

 

هناك محاولات  خجولة جرت عند  المسرحيين العرب المحدثين وستظل كذلك محاولات خجله بعد أن طغى هذا المسرح الفكاهي التافه وسبب   هذا الفقر المدقع أن  العرب تاريخيا لم يعرفوا هذا   الفن المسرحي   الهادف الراقي... والغريب في الأمر أنه في حركة الترجمة في بداية القرن الثالث الهجري لنقل التراث اليوناني الى العربية لم ينقل   المسرح اليوناني  لماذا    .. لم يلتفت الى هذا السؤال رغم ما يحمل من تحليل دراماتيكي يشي بأمور كثيرة .. كيف تمت ترجمة الفكر اليوناني من فلسفة ورياضة وموسيقى وفلك وكمياء وطب . وأدب بكافة أجناسة من شعر ونثر ونقد وقصة وخطابة . الخ ..  ثم لا يترجم أرفع ما أبدعه اليونان وهو المسرح بشقيه التراجيدي والكومدي الهادف وليس المبتذل .. ما السبب؟

كل الأسباب التي ساقها المنظرون المحدثون كانت واهيه ولك أن ترجعي الى العقاد هذا الكائن الذي لا أطيقه، في تحقيقه لكتاب التراجيديا اليونانية تأليف سيمونجارو الذي  حشد من الأسباب الواهية لعدم ترجمة المسرح الأغريقي الى العربية  والتي حصرها باشياء كثيرة منها أن المسرح يعتمد على التشخيص ، كما يعتمد في نصوصه على الآسطورة  التي لم يألفها الأدب العربي..  كما أن الدين الاسلامي احتقرها ، اضافة الى أن العرب اكتفوا بالشعر الذي كان هو المعبر الفني الوحيد  الذي تجسدت في فضاءه الروح العربية بنوازعها الفنية .. لكن السبب الرئيس لم يوفق له العقاد في مقدمة تحقيقة للكتاب ألا وهو أن المسرح اليوناني كان مسرحا سياسيا من الطراز الأول واجتماعيا من الطراز الثاني وكان يدعو أو يجسد النزعة نحو التحرر الفردي والاجتماعي والحد من السلطة أو السلطات الثيوقراطية  .. وهي ذات الأسباب التي دعت العرب أن لا يترجموا كذلك كتاب السياسة وكتاب فن الشعر لأرسطو .. وكتاب تحقيق العدالة لأنبلاذوقيوس الليبي .. وغيرها من المؤلفات السياسية المهمة والخطيرة .. والسبب واضح ..

ومن هنا جاءت عدم معرفة العرب للمسرح وتوظيفه الخطير جدا في الحياة العامة ذلك انه  لو ترجم المسرح الأغريقي لكان تم  وضع النواة الأولى لخلق تقليد للمسرح الاجتماعي والسياسي والثقافي بالغ الخطورة في الحياة ، هذا تماما ما حدث للمسرح الروماني الذي إعتمد على المسرح الأغريقي محافضا على تقليده الأرسطوطاليسي فيما يخص الموضوع والهدف والغاية والأسلوب، خصوصا في التراجيديات المعروفة   بمسرحيات سينيك إبان القرن الأول قبل الميلاد وتراجيديات سالون التي سارت على غرار التراجيديات الإغريقية. بيد أن المسرح الروماني سيتوقف  مع سيادة الكنيسة المسيحية  ،  ليختفي  المسرح الكلاسيكي: اليوناني والروماني   لمدة خمسة قرون.

 وليسود إبان هذه هذه الفترة  مسرح العهود  الوسطى الذي اعتاش على  الطقوس الدينية ضمن الفضاء الكاثوليكي .   الذي  استثمرت القصص الإنجيلية   الطقوسية  في توليد العروض المسرحية التي تجسد الصراع بين الشيطان وياسوع   كما تجسد ثنائية الجنة والجحيم وخطاب المعجزات  .ومع ثورة   البرتوستانت    طرأ  تغير  على المسرح، ليزيحه من طابعه المقدس إلى طابع    دنيوي مدنس.وقد انطلق المسرح الكلاسيكي في عصر النهضة من شعرية المسرح الإغريقي والمسرح الروماني؛ 

  ثم ظهرت المدرسة الرومانسية مغ هوجو،  وبعدها جاءت  المدرسة الطبيعية مع  إميل زولا .. ثم   المدرسة السريالية التي استخدمت اللاوعي والعقل الباطن ومن أهم روادها أندريه بريتون و لويس أراغون صاحب أثداء تيريزا وجان كوكتو صاحب الآباء المفزوعون . ومن ثم جاءت  المدرسة المستقبلية:التي انطلقت من ايطاليا على يد مارتيني  التي تمجد المستقبل وتعلي من شأن مثله ومن أهم ممثيلها بالا وموياكوفسكي من روسيا .. ثم ظهر  مسرح التغريب مع برخت  والذي اعتمد على النصوص الملحمية : وكان يستلهم العقلانية كما جسدها هيجل على وجه التحديد ظهرت هذه  الافكار مع الأم الشجاعة وأطفالها .. ثم ظهر المسرح الروحاني الذي ينطلق من فكرة المجتمع المريض الذي تجب معالجته روحيا وكان أهم مجسديه على الاطلاق أنتونين آرتو فمسرح الوجوديين مع سارتر ثم مسرح اللامعقول مع بيكيت وأربال  هكذا كانت رحلة المسرح في الغرب تاريخ طويل من التطور والتجديد والخلق والابتكار والتجريب  وكان المسرح ذا تأثير بالغ الأهمية في حركة النهضة والتحرر الوطني السياسي  خاصة مع بداية القرن الثامن عشر التي كانت فترة ثورة بحق عندما راح المسرح يستلهم أعمال المفكرين النهضويين والفلاسفة العظماء ..

 أما في الجانب العربي... فيال المهزلة .. .. حيث ..  أول مسرحية ظهرت هي  البخيل  لمارون النقاش.   اقتبسها من مسرحية البخيل لموليير. وكتبت المسرحية بشعر ركيك الطابع هزيل العبارة   . ثم مع  أحمد شوقي  حدثت نقلة جيدة   في مسرحياته وعلى الأخص .  علي بك الكبير و مجنون ليلى؛ و قمبيز؛   وأميرة  الأندلس. وان  دارت كل هذه المسرحيات في فلك التاريخ  الا انها كانت بداية جيدة  وان خلت من تلك التقاليد ألارسطية  التي كان على شوقي أن يستعيدها وهو يؤسس لمسرح جاد   ولم تكن محاولات  توفيق الحكيم  في مسرح المجتمع والمسرح الذهني تخرج عن هذا الإطار  ..
  وكذلك   المسرحية الملحمية مثل مسرحية لومومبا لروؤف سعد، و آه يا ليل يا قمر لنجيب سرور .كانت  هذه المحاولات  على رغم كل ما يعتورها  بذرة زرعها الرواد في المسرح العربي لكنها ما لبثت أن انتكست   وتوقفت تماما  حتى تلاشت لتحل محلها .
 المسرحية الفكاهية المبتذلة الرخيصة التافهة ( مسرح المسخ والقرف )   التي   تعرض على المسارح التجارية و تهدف الى الإضحاك المقرف  القائم على النكتة اللفظية أو الحركات  البهلوانية  ...

عن أي مسرح عربي يمكن لنا أن نتحدث .. مسرح يخلو ...

توقفت عن الحديث عندما أطل الخوري بوجهه الأحمر  وكان قد خلع جبته السوداء  وغطاء رأسه .. فذهبت تلك الهالة المقدسة التي تميزه عن خلق الله .. وأول من اتخذ من رجال الدين لباسا  خاصا أو مختلفا  هم كهنة المعابد  السومريون  كما يقول كريمر في كتابه   ألواح من سومر ثم سرى هذا التقليد  في كافة الحضارات فيما بعد .. واللباس الديني  له دلالات سيميائية ورمزية بالغة التأثير والخطورة   .. والغريب في الأمر أن كافة الأديان وحتى التقاليد الأسطورية لم تطلب من ممثليها والناطقين باسمها أن يتخذوا لباسا خاصا .. فما هي حكاية هذا اللباس الديني ؟

حياني الخوري كما حيا فينو وجلس في المقعد المقابل لي .. كان رأسه ضخم  مفلطح خالي من الشعر إلا من خصلة بيضاء  واحدة تدلت على الجانب الأيسر ولا أعلم لماذا أبقى هذه الخصلة ؟  ،   جبهته عريضة  قطعتها تلك الأخاديد التي بدت كأودية جف ماؤها .. عيناه جاحضتان كأنهما مجمرتين وحاجبيه  عريضين   فرّت شعيرات منهما بشكل متعاكس ليلتقيان في المنتصف أما شفته السفلى فقد تهدلت كثيرا نحو الأسفل والعليا ارتفعت قليلا يحيث تظهر أسنانه العريضة المتناثره في فمه بشكل متعرج   دون أن يتكلم  ( ذكرني فمه  بقول السياب : وفم كشق في جدار ) .. أما أنفه فقد جلس متربعا  على مساحة كبيره من وجهه العريض بحيث اختفت أرنبته تماما .. وقد استطالت لحيته حتى بلغت منتصف صدره  كانت لحية عجيبة  غريبة  لم يشذبها منذ أن نبتت قبل خمسن عاما أويزيد  ولذلك فقد اسطالت بدء من أذنيه وهكذا جاءت على شكل دائري أما جسمه فكان جسما فيليا ضخما .ثقيل الحركة اذا ما  مشا    .. يشخر ويمخر وهو جالس واذا ما تكلم  جاء صوته فضا غليظا  مرعدا مزبدا .. قلت في نفسي ما هذا المسخ البشري أو يعقل أن يكون  هذا الكائن خرج من ذات الرحم التي خرجت منه فينو ؟ قررت أن استمع له فقط وأن لا ادخل معه في حوار من أي نوع كان  .. فمن المؤكد أن هذا الرجل لا يوجد في رأسه متسعا لعقل ..وكيف أحاوره وأنا على يقين لو اثرت غضبه سجعلني طعاما لعشائه .. 

قال ..  أوما سقتك فينوس شيئا ؟

ـ   هي وعدتني يا سيدي ولكنها أرهقتني بسؤلها عن المسرح ...

ـ   أنا أعلم كم هي ثرثارة كبنات جنسها . لقد سمعت طرفا من حديثك عن المسرح أنا لا احب المسرح ..

(قلت في نفسي أول القصيدة كفر..  ومن أين لهذا اللعنة أن يعرف شيئا عن المسرح) ؟

ـ  هي أفكار كنا نزجي بها الوقت كيما تشرفنا بحضورك وبركاتك ..

ـ   ما تشرب يا بني ؟

ـ   كأس نبيذ  لو أمكن  .. اسكبه في قلبي فتشتعل روحي  وتصفو  نفسي

ضحك الجلف ...

ثم رفع ببصره الى السقف وقال:    أتدري أنني أقرض الشعر ؟

ـ     أدري ولقد سمعت عدة مرات قصيدتك الرائعة  ـ جاء ربنا ياسوع ـ

ـ  نعم .. نعم .. أتدري ما حكاية القصيدة  هي قصيدة ألقاها روح القدس في روعي .. وزارني الرب .. وأخذ يقص عليّ حكاية القصيدة تلك .. التي استظهرتها لكثرة ما كررها على مسامعنا .. وما أن انتهى حتى كنت قد رشفت ثلاث رشفات من الكأس الذي ملأته فينوس عن قصد .. فهذه ليلتها ..

 

5 

كان الخوري يثرثر كثيرا وأنا افكر بفينو وبهذا الشراب الذي سقتني اياه و اقول تعالي نركض وراء غايتنا التي نشدناها سويا نلهث وراء هذا الفعل النبيل الذي سنقترفه هذا الليل وقد ضربنا له المواعيد بعد أن برحّت بنا المواجيد .ورسائل العيون وهمس الجفون. 
غفوة الدهر أنت أيتها اللعوب الطروب .. هلمي اسكبي في قلبي جنح ملاتك اللاهفة ووشيها بالسكون ، فكل شيئ هادئ ما خلاك وكل شيء صامت ما سواك.. سواك .. ..اعبثي بثنايا روحي التي جفت إروي ضمأها ، و ارفعي عاليا أشرعة الإبحار نحو وجدي المشبوب، لعلّي أجد ما لم أجده طيلة سنين عجاف من عمري المسكين الذي اضعته قيض نهار ، لا اريد ان تمر ذكرى الغد، لأن دموعي تقاطرت من كهفها السحيق ورحت انثرها على المفازات القاحلة التي تبددت كغبار الطلع بين ثنايا الغروب ،أغتسل برائحة الصمت حين يرفّ الهواء من حولي، وأغط في الحلم الذي هو أنت، آه أيتها الأحزان اللعينة التي اثقلتي مساءاتي الموحشة، مهلا يا فينو .. مهلا... لأصنع من هزيمتي المعرفية وشاحا أتّشح به من سياط الأنوثة حين يجرّني الصمت إلى الخواء  مهلا.. لقد ضاعت كل عبارتي وكلماتي توارت خلف ملاءة الخريف برياحه المولوة ، ربما هو فحيح الوقت الذي يرسل صداه ، أو فحيح الشهوة أو شهقة الريح ، لمن اشكوك ؟ أنا صاحب القلب الكسير الذي ما عرف يوما كيف يحب ولا كيف يعشق سوى هذا الجنون والصخب للفلاسفة الذين احترقوا بالمعنى حتى أورثونيه مرضا لا شفاء منه .. ما عرفت يوما أنني انسان يملك قلبا أو مشاعر تخيطاها أحاسيس من الوجد والشهوة الا ساعة ان همست في اذني كلمات من نور فسرت رقيقة عذبة في أنحاء جسدي النحيل فبكيت ساعتها .. واحترمتي بكائي .. لم لم تسأليني .. لكنت اجبتك ..ولكم تمنيت أن تسأليني ..هي همسة الأنثى بوح خالد خلود العالمين.... ويالها من رسالة دفعت بها لك ذات أن طلبت مني أن أكتب لك عن القديسة تريزا الآلية وهو بحث طلبه القس الذي كان يدرس لك علم اللاهوت الذي سوف تنالين عنه درجة التخرج من المعهد الإكريليكي الذي كنت تؤمينه لتحصلين على أجازت اللاهوت الى جانب دراستك في الجامعة  وكان هذا البحث طريقي الى قلبك 
فبدأت كتابتي عن هذه القديسة مع الفقر العظيم في المراجع المسيحية عن حياتها الأولى الملتهبة .. ولقد ركزت على هذه الشذرات البسيطة التي وردت في كاتب سيرتها الآب مرقس الآليني مع شرح مفصل ودقيق لمجمل ما راح يحاول السكوت عنه هذا الكاتب اللعين .. 
وكتبت مقدمة البحث لغاية في نفسي أن أكون أنا هو ذاته مارميوس الذي احبته تيريزا ومارست كل انواع الشهوة الحسية التي يمكن تخيلها معه وتكوني أنت تيرزا الجديدة .. واذكر انني قلت في تلك المقدمة:
تيرزا الآلية هذه التي قضت عمرها منذ توبتها وهي تحترق بنار الحب الالهي حتى آلت في آخر حياتها الى شهيدة للعشق الرباني وواحدة من أكبر المتصوفات في تاريخ المسيحية ، كانت شهوة شاردة في متاهات الروح حتى أشعلت ذاتها نارا محرقة لا تأنس لها الا النفوس الكبيرة العالية التي تروم السماء وترفف فراشات هائمة في رياض الجنان وتسقى رحيقا زكيا من يدي الرحمن ... 
تيريزا التي اشتعلت بتجربتين حسية شهوانية جسدية حتى ثملت تماما بهذه التجربة واستنفدت كل امكانياتها ،والتجربة الروحية التي بلغت بها الى حدودها القصوى في تطورها المعرفي أو الشعوري .. واذا ما احتار بها المتأمل . فواحد اثنين . 
فإن كان ذا مكان عليّ، رأها أو شعر بها وفقا لمرتبتها في معراجها الروحي السامي ،وإن كان من ذوي الملكات التي لم تسعفها الثقافة الروحية الرفيعة اعتصم بالتوكل المذعن والرضا الساجي الذي يطوّف في ملكوت الشهوة الحسية . وقلت : 
إن الذات النبيلة الممتازة اذ لم تجد متصرفا لممكناتها في الخارج بين الأشياء الظاهرة ، إنفجر باطنها الزاخر بالممكنات فاستحال عالما آخر سرعان ما سيصبح عند صاحبه العالم الحقيقي الوحيد وكل شيء خلاه باطل الأباطيل .. وانتصاره الأكبر إنما يتم نهائيا بالقضاء على الوجود .. على العالم ذي الأدوات ، على الغيرية وعلى العوائق التي تقف في سبيل النمو الكامل للممكنات غير المتحققة . والطريق الى هذا يتفاوت بين النفوس النبيلة .. بعضها .. بعضا.. وفقا لمزاجها الروحي ...كنت أتمنى لك أن تسلكي هذا المعراج الروحي لكن بعد أن اروي ظمأك الحسي .. موحيا لك
أن طريق الخلاص لا يمر أبدا بالمسيح ولا بغيرة إنما يمر في الارتداد نحو الباطن كما فعلت تيريزا وهو الطريق القويم الذي أفضى بها الى غايتها المنشودة حتى تساقطت الحضرة الوجودية الربانبة في قلبها .. 
ومما يعحب له في واقع الأحوال النفسية لأمثال هؤلاء المتفردين أن يخيل إليهم أن طائفا رحمانيا قد طاف بنفوسهم وهي تغالب أحوالها في العالم للظفر بالنجاة.. فشد ازرهم ومناهم بخير المنقلب وعظيم الغاية .. هذا يحدث للناس العاديين الذين نحن منهم فما بالك ونحن بإزاء المهمة الكبرى في حياة الشخوص الكبيرة والطبقات الممتازة .. فتلاميذ عمواس وطريق دمشق عند القديس بولص ، ورؤيا أوستيا عند القديس أوغسطين .. ووحي دلف لدى سقراط ووحي منورا لدى نيتشة والملهمة لدى لدى سيزان كلها أمور لا تتأبى على البحث في لحظة الإنعطافة الكبرى ..

ورحت استنتج استنتاجات بالغة الأهمية بقولي ان تيريزا لما أعتقت غادرت دير التجسد في آبلة، وعندما دارت حيتها الثانية اندفعت بفضل الحرية التي وهبتها الى المشاركة المريرة في الحياة الدنيا .. فانطلقت تعزف وتغني وترقص وتشرب ما لذ وطاب من الخمور وكانت ذات جمال فاتن فائق ..
الذي ادى الى اتخاذها هذا الطريق أنها كانت ذات مزاج فني ممتاز بحكم طبيعة روحها العالية . .. والمشاهد عامة في حياة النسوة اللآئي وهبن قدرا من سمو الروح.. أنهن يحترفن الفن . وفي هذا الطريق اندفعت تيريزا في مسالك الشهوات والأثم وغرقت في بحر الشهوات واقتات بقوت الحواس حتى الثمالة .. ولما أن تابت بعئذ كانت توبتها صادقة و اصدق دليل لدينا على اندفاعها الى ابعد حد في طريق الشهوة هو توبتها .. فالأطراف في تماس كما يقال .... والاعتدال لا يمكن مطلقا أن يؤدي الى التحول الحاسم.. فالانقلابات الروحية الكبرى إنما تقع دائما نتيجة لعنف وافراط ومبالغة في الطرف الأول المنقلب عنه .. فعنف القديس بولص كان نتيجة لعنف انكاره للمسيحية وعنف الحياة اللاتقية للقديس اغسطين كان نتيجة لعنف الحياة الشهوانية .. أن التطرف من شيمة الممتازين الذين يبدعون ويخلقون التاريخ ... وما كان لتيريزا أن تتطرف في ايمانها وحبها الا اذا كانت قد تطرفت في شهوتها وفجورها وحبها للدنيا .. من أعماق الشهوة العنيفة تنبثق الشرارة المقدسة الطاهرة ومن أعماق الانكار والتجديف تنطلق الموجة التي تنشر الايمان .. لهذا دعوتك الى التطرف المطلق تيمننا بمحبوبتك ومثالك في الحياة تيريزا .. اذا اردت أن تحي وتكوني خالقة للقيم .. ومن غيري يمارس معك جنون التطرف هذا .. هكذا كانت خببيئة نفسي اللعينة ... 
ورحت أهاتف نفسي
كرائحة الغسق, ينهال على مسائي الكئيب بأسراب من كلمات دون أن يرفّ له جفن, أنصت كالمبحوح وأنا احلم بالحلم السادر في غيه ...يرتّقني العشق بذوائبه المنسدلة على صدر حسناء صامتة, تلفّ كلماتها بموج سارح ..طلائع الشغف غزت جوانحي منذ كلمتها الأولى معي فما عدت أطيق الانتظار لأبوح بما أصابني من حنين هالات من نور حامت حول عيوني وأنا أرى روحها الحيرى تجثو كقبلة سمراء على ركبتيها أمام.. قلبي في غفلة من الوقت, اختزلت المسافات والسنين والحروف دون أن انطق , أخبرتها بحاجتي إليها .. حكيت لها ما علق في ذاكرتي من حكايا العشق التي صغتها بدموعي , قالت لي لحظتها : أنها بحثت عن وجهي بين الوجوه , وغادرت قلوبا عاشقة من أجل أن تعثر على قلبي , أخبرتها : إنني هنا الآن ولن اتركها بعد هذه اللحظة ,, تكلمنا كثيرا دون أن تنبس ألسنتنا ببنت شفة , واتفقنا على الحلم,, صادرنا أحزاننا ورميناها في مكان قصي 
إخلَعي سَجْفَ وجْهِك وعانقي وجْهيَ المثقل بالسنينْ، فللحظات ُ تخْلع رُقاقِة قلبي الموجوعِ يا فينو ، رتّقي بأناملكِ أوشِحَة لَحَظاتي المتهرّئةِ منذُ آلاف الكلماتْ، الفراشاتُ لمْ تَعُدْ تمارس طقسَ الهمْسِ في أذني، ووشوشاتك أدارت مثاباتها عن لهفتي وحنيني، ربما تتذكّرين، كيف اختلطتْ دموعي بهتزازات الحروف النديّة ، حين كنا أنا وأنت، عاشقانِ حدّ الوَجَع، نروّض أحزاننا بِصَخب السّكون، وهمس النسيم 
الذي انزوى تحت عباءة السنين، كفَرَسٍ أنهَكَته الغزواتْ، حوافر الوقتْ رسَمَتْ وجهَها هناك ، فما عدت تلبسين كلماتك الساحرة ثياب الحزن حين أجيء إليك محمّلا بالشوق والحنين، فهلا منحتني فُسحةً من الزمنْ، لألملم شتاتي وأطرق باب صحْوَك من جديد !!.
هاهي ابتساماتك العائمة فوق جنح الغيم، أو تذكرين يا فينو ، كم سهرنا سويا، نداعب خصلات القمر نسكب عليها عطر الياسمين ، ونشكو للّيل، غياب الربيع عن قلبينا الكَسيرَين؟، تنظرين ألي بعيون الغيرة حين كنا نسير أنا والقمر وضلالك في ساح الدير هائِمَين في لجّة العشق ونار الوجد وحرقة الأنين ، أصابعنا المتشابكة ترتعش بشغفْ ، تَعرق، تُقبّل بعضها كعاشقين، نمشي ونمشي، كأن الساعة غادرت لحظتنا، كأن العيون كلّها ترقب مشيتنا، تغار من لهفتنا، تحسد رعشتنا، لم نخشى لحظتئذٍ من جنون الثواني ومن تلك العيون المتلصصة ، لكنَ الخطى بلغت أعماقها،كل مساء حين يقترب الضوء من عتمة المكان، أمسّد شعرك الطويل بعيوني الحزينة، أطوّقك بذراعيّ المتعبين ، أوشمُ خدّك بقبلة .. 
هل جاءت اللحظة التي انتظرناها سويا مذ كتبنا بأحرف من جنون نص تيريزا الآلية ؟ هل علينا الآن أن نمارس الإثم في أقصى درجاته الممكنة ؟ هو ذا الكاهن يغط في نومه العميق ربما يحلم بوحي .. وحي يشهد على ولائه . . يلبسه القميص المقدس ملاك مجنح هبط على قلبه برغبه اذن هو نائم في وديان القداسة هل حانت اللحظة الكبرى للأشتعال ...؟ 
فهلم نرويها ..

6

 

كانت  اللهفة الأولى  في ضيافة الليل و الريح  والخوري يغط في حلمه ..
هذه الليلة لن  نكون على حذر سوف أقترف كل مسميات الشوق وادفع بها الى حيث يكتمل الأمل الذي عقدت عليه العزم  ..
تحت  متراس متاح للبهجة. والشعور الآسر الخلاب ..  هل نحن  نتمرن على استعادة فعل الخلق  الأول؟  ,لكني و أثناء إنزياح التفكير صوب هذه اللحظة التي   كانت فعل حزين...  من نوع الحزن  الذي لم أجربه من قبل .. آليت على نفسي أن أكسر قواعد الخوف والرهبة وأن أحطم هذا الحجاب الذي عزلني عن صورة المرأة وفعل الحب .. الحب في النهاية خلق لمعنى التوحد الكامل كصيرورة في الزمان.. ولأن الزمان هو تجسد لآهة الخلق الأول وسيال يتدفق عبر الذات فمن هنا فقط لا يمكن التعبير عنه بالمساحة الضئيلة للغة ..

في هذا المساء المخضب  بالشجن. يصبح همك كيف تفكك الغياب لهذا الشوق , وتعطل لغة الكلام دون أن  تتشظى بوحا أو تتكسر كأمواج المساء على شاطئ الغرام .
  ما زالت شيئا من اللهفة ورائحة الشوق تتندى من أشياء لم أألفها من قبل . لا لن أقول مؤثرا الصمت  وخيال من باطن  ملتهب ..  سأقول  كلمات متعذرة من  اللفظ كما هي متعذرة على المعنى ...  كانت   عاصفة بوح  تترفع عن التعبير وتسمو فوق الإشارة أو فعل الإيحاء . و اثناء  سيجارة من ضحكتها الماطرة   شهوة .
سألتها  , كيف  كان  حال ابتسامتك ورنين الكلمات على شفتيك القرمزيتين ؟
وبعيد قبلة بل  فعل قبلة انثنت مع قليل من الهواء  القادم من قلبها  سالتها ثانية  هل اختلف لون الكلمات لديك  ؟ وهل اختلف مذاق عينيك ؟ هل  تعرى صوتك؟ لمن هذا الرحيق الذي ينبعث من هذا الجسد الرخامي المعطر بالشوق ؟
فينو ...   تعال اطارحك الرقص قليلا  على  وقع أقدامي التي تشهد اظطراب الكون .. أنا  لا اعرف  إلا رقص    المطر. عندما يرتل    صلوات بوح خفي على الشارع المتواري... هناك اشعر بانتمائي الى كل أنواع الغيوم. فأهيب بكل الدموع المنهطلة بسببك لون الحزن في عينيك  ..  

قالت . وماذا تفعل بكل هذا الشجن؟ أنت  رجل الذي لا يبكي بل تدمع عيناه , لا يرقص بل ينسجم مع الموسيقى  , هل تبحث عن كل هذه التفاصيل يا الغباء ..... 
 في الموسيقى الخالدة تتعرى روحي نعم يا فينو ..
كنا في غرفة الجلوس متقابلين, على مرمى خدعة من قبلة . عاجزين  عن  صياغة الجملة الأخيرة ، من  مناطق منزوعة من الفعل المحرم الذي نحن على وشك اقترافه ...كنا  قريبين  من مؤامرة الأشياء التي تحركت بعيدة عن كمائن  العقل .    كنا نخاف أن يتسرب الفرح إلى قلبينا آنئذ  .
ذلك أن بي شغفا إلى تحسس انثناءات الجسد   . 
هي ما تعودت أن تجعل  قبلتها  ،ضحكة لحظة تمشي على حزن رجل لم يتعود إلا فعل الحزن .
لكنها مالت  ببطء أنثوي كما تميل  نسمة  برأسها، وبدون أن تخلع صمتها، خلعت ما علق بشفتيها  من دمي، وراحت تواصل ترقيص كلماتها العارية من الحروف   .
 كانت تعي وقع انحنائها البوحي الجميل على  كل خساراتي وغواية قلبي ..
شيء ما فيها كان يذكرني بمشهد "لاؤكون "  ما الذي فجر صورة هذا الأثر الخالد العظيم في نفسي  في هذه اللحظة بالذات ....
أنا لم أكن أشغل  بتفاصيل النساء إلا لحظة  أن يصمتن تماما ..   
في حضرتها كان الحزن يتمثل لي  جميلا. أريد أن أحتفظ بتفاصيله مشتعلة  أتابع  النظر  لها وهي  تتراقص على أنغام مجون الرغبة  حافية من الرحمة...  بينما أتوسد خسارات عمري عند قدميها.
وعلى حفافي اهتزازات السبرانوا المنخفض لرائعة موتزارت الرحيل الأخير
هي ذي ، كما الهمس  سنذهب  الى كل حب ولن نخرج من بحر الخطايا  .
 
هي ذي . وأنا تعتريني قشعريرة  كلما  أطلت النظر إلى الصدر  اللامع وهو يهتز بجنون ولهفة  ورغبة  سيال من الأنوثة يتنزى أمامي شهوة فاغمة ، دون أن تدري موزارات أدخلها في عمق مويسيقاه فجعلها تهتز كوتر يتقافز اللحن منه بجنون .. خاصة مع الدو عندما يرتفع قليلا الى أعلى قأئلا أنت دائما ..هي أشهى من المستحيل ..
لون الفستان الذي ارتدته اسود يضيق عند الصدر والخصر والأرداف ثم يتسع كلما انحدر الى الأسفل تتخلله انثناءات على مساحة شهوتها ويبرز ظهرها عاري
 لماذا اختارت أن ترتدي هذا الثوب بأي منطق ؟ سؤال لم اجد له مبرر لكن  قفز الى فكري  هل هو تضاد على مقياس ما في حضورها من معنى ؟
 أحببت انسيابه العاطفي، لكأنه كان يطالب بجسدها أن يرتديه يمسه يلمسه يعانقه يثيره يستفزه لا العكس .
   يسبر جسدها بشفاه لهفته  بمعيار اهتزازه الشبقي ، ما عرفت يوما  مساحة  لشهوتها في هذه الأثناء . ما عرفت في أي ريح عاصف  تراكمت   رغباتها، وفي أي زمن استدار شوق  زلازلها، وعلى أي عمق تكمن  أنوثتها  . أنا يعنيني  كثيرا بداهت هذا النور المنبعث حد التناقض بين الأسود والظهر العاري يعنيني هذا الفراغ والإمتلاء بين اللونين .. ترتدي هذا الثوب ربما .. ربما .. كان هو وحي حديث سابق دار بيننا أمام لوحة صور فيها  الرسام الأيطالي  سليفني عشيقته وهي عارية إلا من شعرها الفاحم وكيف راح يوزع تساقط الظل بين جسد الفتاة وخصلات شعرها على شكل حركة تتواثب دائما،  ووقع نظر  كان يتراقص  رغما عنه  ..

فينو . تتفتح داخله كوردة خلقت من نار  . لا  هي أشهى   وهي تراقص حضوري   بدون  تفاصيل  ممعنة في الغياب.
لو رأى بورخيس تلك المرأة لاختطفه المشهد  ولصاح  من يطفئ رائحة الشواء الذي يتردد صداه في عمق النهر وتشربه السماء  تغسل بها جبينها ......
 
هي  النار التي أشعلت كل خسائري   يا بورخيس هتفت أنا مثلك ، فدعني أحملك لها  ما دامت تداعبها  رغبتها في تحريض الريح، باضرام  حرائقي التي لا تنطفئ  حتى تحيلني الى رمادا  تذروه رياح هذا الليل .
 أتعبني الترحال في أزمان ما أفلحت في  فضحها ولذا خبأتها في عينيك مذ رأيتك أول مرة ..   الوذ بالصمت في حضور طيفك الذي مس قلبي منذ تلك النظرة التي أرسلتها مع خيوط الشمس في كل الآحاد  القادمة .. 

 نفس حطمها أمل الأنتظار وتعب السنين التي أضعتها بين فكرتين لا أعرف من أقترحهما ليكونا بمقياس وجودي في هذا الكون .. آه... أيتها الصورة الطاهرة  من صور الإنسان العالي الذي لا ينفذ الى قلبه وهم السعادة  أو ألم الجرح الغائر في النفس ..

ايتها  الروح  الوثيرة الناصعة  التي استطاعت أن تتامل العالم من وراء الستار بعمق وهدوء  فكشفت عما يتضمنه من سر خفي  .. سرعان ما أذاعته بصراحة ما أقساها على نفوس الحالمين الواهمين.

 هو ذا   العالم بأسره قد بدا أمام عينيك  المرهقة حلما رائعا بهيا .. ولكنه حلم على كل حال ..  حلم يا فينو .. ابدعته ذاتك  في امتثالها.. ولا وجود له  خارج هذا الامتثال.. لكنك لم  تسكنين  اليه،  بل رحت تتلمسين  جوهر الوجود الحقيقي الذي   وضعت يديك عليه  ولم يكن هو الا ..  ارادة الحياة... قلت لك توقفي هنا يا فينو...  لكنك أبيت   ثم ذهبت تجعلين   من هذا الكشف    مركز الاشعاع في نظرتك الى الوجود فبدا كل شيء تحت ضوؤها ناصعا كالمرآة.. أرادة الحياة .. مفتاح لغز الوجود لكنها  أي هذه الإرادة عمياء هوجاء منساقة في اندفاع شديد الى ما غير هدف  .. تقتات بالحرمان، ومن الحرمان ميلاد الآلام،  فالوجود اذن معناه الألم . ولما سألتك كيف الخلاص  من هذا المارد الجبار؟  قلت لا خلاص إلا بالموسيقى  ... 

اجل بالموسيقى  خلاص من الأوهام، وفي الزهد تحرير من نير لإرادة في  عالم الصور  الرفرافة المجنحة نستروح  الحرية من قيود الأوهام ونخلق لأنفسنا عالم يرفل في فيض من الجمال والجلال ينسينا لحظة عالم الإمتثال... ولكنها لحظة عابرة.. واحسرتها سرعان ما توقضنا منها جلجلة نواقيس الواقع الجبار  .... 

 

لا خلاص من الحياة إلا بالخلاص من الحياة، بأن ننكر فينا الإرادة، فنسمو الى مقام اللطف والقداسة،  هناك حيث تختفي الذات المريدة، وينقضي الشعور بالثنائية، وتتجلى سبحات الفناء، فنحيا حينئذ في عدم البقاء ، فما البقاء إلا في الفناء، الذي يصعد اليه المرء على جناح الرحمة المفضية الى الوحدة والحنان المنتظم أنحاء الكون  

صورة تلك مروّعة ولكنها رائعة ، تعلوها الظلمة لأنها صادرة من الأعماق وتسري فيها الرعدة لأنها قشعريرة قلب ينبض وجوهر الوجود، وفيها مرارة قاسية لأنها سقيّت من صاب العبرات المسفوحة من عين الحياة ...

وهي من أجل هذا خصبة حتى التناقض تستطيع العين أن تلمح فيها لون اليأس الصامت المنتهي عادة باليأس ،فتهتف النفس مع جوقة أديب .. طوبى لمن لم يولد ثم طوبى لمن يسرع في الرحيل إن ولد ...

وتستطيع أيضا أن تعود منها بالإقبال على اللذات والعكوف على الشهوات نشدانا للسلوى في فردوس الكروم

فتهتبل مع الخيام :

اسكب الصهباء على نار الهموم

فأنت لا تدري من اين اتيت ولا الى أين تؤوب

ثم قد ترى فيها عنفوان الردة لتوكيد الذات والعلاء بالحياة فتصيح بأعلى صوتها اهذه هي الحياة فهاتها اذن مرة أخرى ....

 

في هذا الجو المفعم بالخيال  راحت تتسرب  الى نفسي تلك  الصورة الرائعة التي يقدمها لنا الفنان اليوناني ديونيز  الذي قام بعمل تمثال لاؤكون ..

(فجعل في  عينيه النافذتين حزن لم تفصح عنه الدموع، وفي فمه المنطلق ألم لم يذعه الصراخ، وفي أسارير وجهه المتوترة، أسقام لم يكشف عنها الشحوب، وفي ثنيات جسمه البارزة عذاب لم تنشر عنه القشعريرة .. إما الحزن فتعالى وتسامى فصار هدوء ورزانة.. والألم عمقّ وتغور... فاستحال  بريقا يشع من عينيه.. والسقم استقر وتركز فاضحى طبعا مغروسا في قلبه .. والعذاب قسا وتجلد فكان تجليا وعلوا وروعة وقد التف حول جسمه الغض تنينان هائلان عانقاه من أخمص قدمه حتى أعلى الرأس .واشاعا السم حارا يسري في جميع أجزاء جسمه وضغطا عليه بكل قوة وقسوة، لكن لم يكن من شأن هذا أن يسلب الروح هدوءها ونصاعتها، أو أن يثير في الوجدان غموضا واضطرابا، أو أن يدع العقل خارجا عن صفاء تفكيره .. بل ظلت الروح في عوالم سكينتها وهدوءها وظل الوجدان يكشف الأسرار في حدة ونفوذ والعقل يميز تصوراته في ثبات )..

 

لماذا لا يصرخ لاؤ كون؟  هذه المشكلة أثارت الجدل العنيف بين فلاسفة الغرب في بديات القرن الثامن عشر  وأول من اثار هذه المشكلة هو لسنج..  في بحث طويل له حيث انتهى الى أن الصراخ والجمال لا يجتمعان .. ثم   في  أن الفنان ما كان له أن يصور في أثر فني دائم غير متحرك حالة عارضة وهي الصراخ... ثم رد جيته هذه الحجة بأن قال المسألة على العكس، حيث ان الفنان دائما ما يلتقط مثل هذه اللحظات العابرة ليخلدها في الأثر الفني.. ثم جاء ألويس هرت، فقال السبب  في عدم صراخ لاؤكون هو أنه كان في حالة اختناق أو صمت مدوي رغم صرير الألم ..

ثم جاء شوبنهور فقال إن فن النحت لا يعبر عن الأصوات بل عن الشكول أو حركات ..والصراخ صوت فلا يستطاع التعبير عنه مهما بذل من محاولات رمزيه ...

نعم كنت أعرف مدعاة هذا الشعور الذي تسرب الى نفسي في هذه اللحظة المليئة بالتهاويل التي راحت اختلاجات روح فينوس تبعثها بصمت يدوي في أعماق ذاتي .. اذن لماذا لا تصرخ فينوس .. ؟ شهادة حية تلك التي تقدمها من ذلك النزيف الذي ينزّ من قلبها دما قاني مختلطا بنار الوجد والعشق والشهوة بحيث يسري تيارا عنيقا في روحي التي اشعلتها حرائق اللحظة ..

 

لماذا لا يصرخ لاؤكون ؟  هو الموت .. فما الموت إذا ؟   ولماذا التعلق بالحياة   ؟


 لا نحتاج إلا الى قليل من التأمل لنكتشف بان الحياة ليست خليقة بشيء من الحب أو الاستمرار وليس من المؤكد أن الوجود خير من اللاوجود ، بل العكس هو ما يبدو وجيها لو أمعنا النظر قليلا  .

 فلواستطعت أن تسعى الى قبور الموتى وتقرع أبوابها سائلا إياهم هل تريدون العودة الى الحياة ؟ اذا لأجابوك وهم ينفضون رؤسهم رافضين أشد ما يكون الرفض ، وإلا فعلام التعلق بهذه البرهة القصيرة التي يقضيها احدنا في هذا الوجود وسط تيار الزمان اللانهائي ؟

إنما التعلق بالحياة يصدر من حركة عمياء غير عاقله إلا أن كياننا    الذي هو إرادة للحياة خالصة  هو الإشكال  الذي يطغى حتى يحجب الحقيقة .... وأن الحياة تبعا لهذا يجب أن تعد الخير الأسمى، مهما يكن من مرارتها وقسوتها واضطرابها، وأن هذه الإرادة  أي ارادة أن نحيا .. هي ذاتها وبطبيعتها خالية من كل عقل ومعرفة ، أما المعرفة فعلى العكس من ذلك أبعد ما تكون عن هذا التعلق بالحياة ولهذا تفعل العكس ، تكشف لنا عما في هذه الحياة من ضآلة.. وبهذا فهي تحارب الخوف من الموت ، وأصدق شاهد على ذلك أننا نمجد من يقبلون على الموت في شجاعة ، بعد أن أقنعهم العقل بأن الحياة عبث لا يليق بالعاقل الاستمرار فيه ، وتنكر على من لا يتغلب لديه العقل على إرادة الحياة ، فيتعلق بها بأي ثمن ويمتلئ جزعا وخوفا وخورا حينما يعرض له أي خطر .

ولو كان الخوف من الموت صادرا عن الشعور بالجزع بازاء فكرة اللاوجود ، اذا لشعرنا بمثله ونحن نفكر في الزمان الذي لم نكن فيه .. فليس ثمة فارق بين العدم الذي سأسير إليه بعد الموت وبين العدم الذي كنت فيه قبل أن أولد ، ومع هذا فنحن لانجد في هذا العدم الأخير ما يثير فينا عاطفة الجزع .وهذا ما عبر عنه ابو العلاء المعري بقوله:

لقد أسفت وماذا رد لي أسفي       لما تفكرت في الأيام والقدم

في العدم كنا وحكم الله أوجدنا      ثم أنفقنا على ثان من العدم

 سيان عام ويوم في ذهابهما       كأن ما دام ثم انبت لم يدم

أليس من الحمق أن تحسب عدم الوجود شرا ؟ لأن كل شر وكل خير يقتضي بالضرورة الوجود ولا يمكن أن يتصف المعدوم بشيء  بل ويقتضي أكثر من ذلك المعرفة والشعور . ولكن هذه المعرفة  والشعور ينتهيان بالموت فلا مجال للتحدث عن الشر بالنسبة اليه وفقدان الشعور ليس شيئا خطيرا في ذاته لأن المسألة مسألة لحظة فحسب.. وهذا ما دعى أبي قور....  الى القول: ( الموت لا يعنينا بشيء ) لأنه طالما أنا موجود فالموت غائب واذا حضر الموت فسأكون أنا الغائب ... ولهذا لم يعنينا عدم وجودنا من قبل كما يجب أن لا يعنينا عدم وجودنا من بعد .. فكل شيء يتوقف هنا على الشعور .. وبالتالي على الوجود .. وما دام هذا منعدما في كلتا الحالتين فما يعنينا من اللاوجود شيء ، ولهذا فليس العقل في الانسان هو الذي يجزع منه ، وإنما الإرادة العمياء .. إرادة الحياة التي لا تعرف لها غاية غير هذا الوجود والوجود باستمرار ، فإذا ما هددت في جوهرها ثارت في عنف ، المشكلة الأخرى أننا نضيف الى الموت قيمة جوهرية لأننا نطبق مقولة الزمان على الشيء في ذاته كما حدده.. كانط .. فنجعل الزمان وهو رمز الفناء يلحق الإرادة مع أن الزمان لا حقيقة له إلا في الذهن ولا ينطبق إلا على الظواهر التي هي إمتثالاته .. أما الشيء في ذاته فلا يخضع لسلطانه فإذا نظرنا الى الموت من هذه الناحية فإننا نجده لا يلحق الارادة وإنما يمس ظواهرها كالليل الذي يبدد العالم وكأنه قد فني فيه على الرغم من أنه لا يقف لحظة واحدة في سيره .. وأن الوجود في الزمان ليبدو على هيئة سلسلة متصلة من الظواهر وورارء هذه الظواهر تحيا الارادة   .. ما الداعي للخشية من الموت .. إن مصدر الجزع والخشية شعورنا بأننا سنفنى الى غير رجعة بينما العالم باق .. لكن العكس هو الصحيح فالعالم هو الذي يفنى عالم الإمتثال أما جوهره الباطن أعني الإرادة فباقية ،  الأنسان هو حامل الوجود  وليس الوجود هو حامله  ... وهو الذي يهب الوجود وجوده العاقل .. الزمان هو الحاضر ليس الماضي ولا المستقبل .. فهذان لا وجود لهما إلا في الذهن والتجريد .. والإنسان لا يحيا في الماضي ولن يحيا في المستقبل وإنما يحيا الحاضر  لأنه لا يوجد طالما لم يكن حاضرا وهذا الحضور جوهري لديه .. الحاضر صورة الحياة والحياة جوهر الإرادة .. فالإرادة في حضور مستمر . والحاضر هو الوجود ...

ولا بأس لو وقفنا عند متمرد الحضارة العربية ابي العلاء لأنه شكل صورة الثائر على الحياة والممجد للموت وهو ذاته لاؤكون الذي صرخ من أعماقه صرخة لما  راح صداها يتردد في جنبات الكون  حكم على نفسه بالعزلة التامة .. لقد أصيب ابو العلاء بحالة ميزته عن كافة الشعراء  من الطبقة الممتازة ، فقد انعدمت لديه المرئيات وبالتالي خلا شعره من الصورة المحسوسة بالبصر وقويت عنده المسموعات حتى حاول أن يستمد منها الصور التي يستعين بها على التعبير فأقبل على ألفاظ اللغة يحلل مضمونها بطريقة صوتية كيما يستخرج من قوانينها اسرار الوجود التي يتقراها الآخرون بعيونهم في المرئيات.. وهذا هو السر الوحيد في عنايته المرعبة بالألفاظ واحتفاله باللغة أشد الأحتفال ، ففيها  وجد ما فقده في المبصرات وأن في الصوت ما يغني عن الضؤ .. ومن هنا امتازت صوره بالتجريد المفضي الى الجفاف.. مما جعل شعره شعر معبر يحرك النفس ويهزها هزا عنيفا صاخبا مدويا .. ويخيل لى لو قدر له أن يكون مبصرا لزلزل كيان النفوس بصورة مرعبة ولنثر شعرا لا يتأتى لمن أتى بعده في الخافقين .. لم يخرج بيرن الذي اعتبر أعظم شعراء العالم عن محيط ابي العلاء إلا في هذا الجانب التصويري البالغ الأهمية  يقول بيرن على سبيل المثال : ( عد ساعات سرورك وعد أيامك الخوالي .. فأيا ما كنت .. أعترف بأن ثمة ما هو أحسن .. هو أن لا توجد ) ( ما كنت أعترف بوجود ما ثمة هو أحسن  .. فما الحياة ..الا  نجمة معلقة على الحدود بين عالمين .. بين الليل والفجر .. على حافة الأفق .. كلها مليئة بالالام والمصائب .. )

ويقول ابي العلاء :

تعب كلها الحياة فما        أعجب  إلا من  راغب في ازدياد

وصدق الأثنان  لأن الحياة تتذبذب بين الشقاء والنعيم ولأن الألم والشقاء ايجابيان أما الرضا والسعادة فسلبيان لأنهما ينتهايان بالملال والملال شقاء اذن فالحياة شقاء دائم ..

يقول ليؤكد هذا المعنى

اذا فزعنا فإن الأمن غايتنا       وإن أمنا فما نخلو من الفزع

وشيمة الأنس ممزوج بها ملل  فما ندوم على صبر ولا جزع

ثم أن الشر اصل الوجود ولا سبيل مطلقا الى الخلاص منه

ونحن في عالم صيغت أوائله        على الفساد فغي قولنا فسدو

والناس بطباعهم أشرار يسودهم النفاق والغدر والكراهية والبغضاء والحسد والظلم والأذى ، فالوجود شر والإنسان شر ما فيه ،

يغدو على خله الإنسان يظلمه         كالذئب يأكل عند الغدوة الذيبا

ولهذا على الحكيم أن ينشد العزلة

ثم فقدان الحرية وكل شيئ مسير فهو يقول بمبدا الجبر

ثم سؤ تقسيم الحظوظ بين الناس وفقدان العدالة والصراع الذي لا ينتهي 

 

وهل تظفر الدنيا عليّ بمنة      وما ساء فيها النفس أضعاف ما سرا

ويقول :

أيا سارحا في الجو دنياك معدن      يفور بشر فأبغ غيرها وكرا

فإن أنت لا تملك وشيك فراقها      فعفّ ولا تنكح عوانا ولا بكرا

وألقاك فيها والداك فلا تضع        بها ولدا  يلقى  الشدائد والنكرا

ثورة ابي العلاء ثورة صاخبة حادة  حارة جافة قاسية  لقد كان ابو العلاء متمردا عنيد العقل . ولقد أختلفت تمام الأختلاف عن ثورة بيرن الذي مجد في الغرب كما لم يمجد شاعر غيره في الوجود كان هو الآخر ثائر متمرد لكن الفارق بينه وبين أبي العلاء هو في طريقة التعبير .. كان برين مشبوب العاطفه في صوره حرارة أضفى عليها طابعا فنيا من طراز رفيع ..

وفي صوره سخرية لاذعة لكنها أقل جموحا وحماسة من ثورة أبي العلاء .. وثورة أبي العلاء جاءت محايثة  وأن اختلف التصوير الفني .

 

لكن ما على نفسي من لاؤكون صرخ أن لم يصرخ  وحديث الموت  وأبي العلاء وبيرن  في هذه اللحظات  التي تتقاطر فيها الرغبة المحرمة الى نفسي ؟

 

 

7

 

 

 


 
لا اعرف طريقاً للمضي قدما في هذا الجنون لذا كيف أفسر .. 
ملمس جلوسكَ على أريكةِ الشوق في مقابل كلمة تستقطر معنى من شفتيك  وتحت أقدام هذا الليل هل ينبغي ان اعلِّم شفتي ترديد  جسدك من جديد  وانا لم عرف من ذي قبل اقتراف العناق ولا لغة التماس....
يا أيتها النظرات التي رسمت قدري  في هذا الليل الدامي على معصم البوح وشفيف العطر  وعلى إطلاله الجنوح الى التشىء . 

 لم تعد تطرب أوهام الخوف حسراتي على اشياء خسرتها منذ زمن بعيد
كخطوات الحنين ولهفة التضاد أو نطاق التحول...
لن أعود ابنا عاقا إلى أحضان الكهف، ولغة الشوق تتنزى من جبينك
هاتفا بمحبة قليلة من قلب كسير على انحناءة السؤال الذي اشقاه جوابه .
ولمرتين ستهتف لنا السماء لتبدد هذا الحزن مع اللحن السارب من قلبي
لا تلمسي أرديت حزني ولا تضمدي جراحي النازفة ودعى هذه الريح الملعونة هي من تمر وحيدة بجوار حزني الكبير فتحيله خرابا بلقعا.
كيف لي أن اقرأ لغة جسدك وهو يتمايل مع كل إنثناءات هذه الألحان ؟
أتسميه رقصا يافينو ؟ 
لا هو صلاة زهرة ثملت بنغم المساء   
وصمت قبرة جنّ ليلها وتهدل القمر في روحها السكرى بأعذب ألحانه  
 تعالي لنفرح في هذه اللحظة  سوية ولنتساقط قطرات من ندى الشهوة التي حملناها على جناح الغيم، كما حملناها على ثرى أنفاسنا  ..تعالي يا فينو  لنمنح هذا الأفق الذي نقترفه في رهبة.. نمنحه  السكينة والليل  وكأسا مليئة  بالشوق ..لن نغادر دون أن نخلق فعلا نخرج من وكره ونبعث به الى حيث تتجسد النوازع المختبئة  فوق آهة الخلق الأول  ....

أيتها الريح التي هبت علي ّ في لحظة تدفق للمعنى  وإنثيال للصمت  

 إمنحيني كل هذا الألم  وكل رغبة مكبوتة تحت تراب أنفاسك العذبة  ..

 صار الخط الفاصل بيننا  لحظة من شوق..  وتوقف لساني المثقل بألفاظ عينيك يا فينو...  لم تعد تلك العينين الراحلة نظراتها مجرد فكرة انتقالك الى المنفى على حافّة الكون .. أصحيح أن الكون يتسع في العماء أم هو فراغ يتسع بالفراغ ؟

 لا..  لن تتساقط دموعنا في هذا الأثير الليلكي.. ونؤوب بخيبة أخرى وخسارة أخرى .. أنا حملت إليك وجعا وجوعا وحزنا في دن من الرماد، ونثرت جميعه في كأس صنعته من حجم خيبتي تلك  ، لا تشربي هذا الكأس أخاف أن تتسرب عشرون سنة منه الى شفتيك ..

 و قبل ولوج الكلمات  وإغلاق فمهما لا بد أن نجعلها ترحل قليلا وراء غياهب الخوف... 
ترتل أشياءها و تسلك طريقاً آخر لا على شكل حبات التوحيد التي  تزلق  واحدتها نحو الأخرى مزيحةً أمامها ساعة مثقلة  بالصمت   أو تسابيح روح مجنونة.. بل  ليظل فعل هذا السكون وهذا الوجوم يشبه إرتعاشات القلب. 

 ليس للزمن أثر على هذه الريح  الجبلية الباردة.. فهي تهب من كهف لا حرارة فيه  ولا أثر فيه للشمس ، نعتب على شجرة السرو ولم نلتقط أنفاسها .. وندف الوهج المتناثر على النافذة.. لأننا لا نملك نافذة مطلة على القدر، ولا نملك سوى أحلاما مؤجلة، نرميها من فوهة الموقد المدرك لحقيقة  الامنا، والمختوم غدرا من فصائل ذوات العشر الذي تملكه الأرواح في البيت القاني .. كل ما فعلناه أننا اطفئنا الدنيا باوصالنا المرجوة، وبرقصة كلمات تهتز كما لو كانت فحيح شهوة .. لسنا أوصياء هذه الليلة على أرواح الملائكة .. ولا على عيونهم التي تهفو إلينا . أو على هذا النسم الحار الذي يبعثه هفيف ريشهم ..

ليلاً فاحما  معتقا عبقاً  بالروحً يخال للنفس ان لن تنقضي منه سويعات  حتى نعاقر حقيقته في أحدى الزوايا المتعبة    كيف تهضم هذا الموقف وكيف تتمنى التحليق بعد كل هذه القرارات التي أصدرتها أرصفة المشاعر الآسنة والمتعفنة في جوف الاستسلام للرغبة  .. في هذا الطريق الطويل تبقى تلك الآلهة تشرع أفئدتها مقابل قضاء ليلة جافة في تمام الساعات الصفراء المطلة على لحظات  محمومة ... وكأس آخر من نبيذ قان  ..


هل عرفت الآن يا فينو...  لماذا نسجنا كل تلك التلال الذهبية من اللهفة ؟

 وهل عرفت  لماذا انحرفنا نحو مضيق الصدر المتأرجح بين لفافة ملونة  بنكهة الغروب ..وبين خلق جديد ينمو على كتف استحالة الاحتمال.؟ النجوم التي تراقص الليل لم تغادر بعد، ولم تلوي الأرواح ظهورها بعد، ولم يهدأ هذا البركان المحموم في قلبينا لحظة سكرنا بالشوق .

ولكن القبلة نسيت ان تنزاح  حول محيط خصرها  وسحبنا الخيط  القاني  من فوهة الاحتمال، لكن القمر  لم يتوقف عن الاشتعال، أراه كل لحظة يذوي في تلك الغرفة البهية ، يفقد عينيه ويكسر أسفي   بشبقه  أمام ذوبان بدأ يفصح عن جيوبه الملتهبة ، ويفصح بمراسيم تأجيل حتى تظهر المعاني سلامة القلب  .... 
هكذا أثمر النزف .. لون الوسادة الخالية إلا من نظراتنا  واعتلت هذه القافلة التي تخلفت عن مراسيم الليل  وغيوم الغيب المطلق على أوتار الفعل  . لم تكن ترتدي احتمالك بردة هذا الخوري النائم ، والآن وفي صنف ارب الإغريق اشتعل بكل وخز تلك المبادرات الإلهية نحو علو نسيمك الوارف الضلال ، وتحت الصخور وفي قيعان الأودية  تتقد  أوكار القبلة  نحو بناء مرافئ القدوم الى هذا السحر والجلال .   

كانت بيننا هوة عميقة لم استطع أن أتبينها بوضوح منذ بداية الأمر .. لأن ثمة اسباب كانت تكمن هناك في زاوية الجدل .

هل كان فهمي عسير .. ؟

نعم ..  قد يكون هذا سببا وجيها.. لكن  السر في عسر فهمي هو ميلي للتأمل ، تأمل كل شيء من جانبه المظلم .. العديم القيمة ... لم يعجبك رد قلبي 

 ولذلك فهمت عبارتك تلك أشد الفهم ( أذا شئت أن تنعم بقيمتك فعليك أن تجعل للعالم قيمة ) أنا كنت اعي أنك لا تقصدين ذلك أي بالنظرة الأحادية .. لأن الأزدواج ضروري في كل حياة .. لكنك تعرفي أن  طبيعتي بنيت على التمرد .. كأعنف ما يكون التمرد .. ومثل هذه الطبيعة لا تعرف التفاني في الاشخاص بالغة ما بلغت شخصياتهم ... لأن التمرد لدي محرق،  كان التمرد على الناس اشد هولا من التمرد  في داخل مملكة الفكر .. هل كان علي أن أتخذ منك إنموذجا موضوعيا على خطاه اسير .. أو اياه أبغي ؟

 وأنت هذا الشخص الممتلئ   حماسة الخالي  من الحب الملتهب  الموحي والقشعريرة الخصبة ؟

 هل ..  كان إدراكا ناصعا فيه شعور بالتقابل  والتميز لا بالاتحاد والامتزاج فهو اشبه ما يكون إذن بالإعجاب الذي يشعر به الفنان نحو تمثال رائع من المرمر الناصع ؟..

لأن هذا الإعجاب قد خلا في الواقع من الحياة  فلم يستطع أن ينفذ اليه الدم ويسري فيه فيغذوه ويهب صاحبه قوة دافعة ...  لا يافينو ...

 لقد كنت نورا وسط هذا الضلام الذي احاط بي وعكر علي صوف الحياة  لقد كانت حياتي مرة مرارة العلقم بسبب هذا الجنون ، لكني قلت لا بأس التجارب الحية هي اصدق تعبير عن الحياة والحرية، ويجب ان تكون هذه التجارب خصبة عنيفة مدمرة اذا ما تعلقت بالحب كحب،  .. ولكني أدركت أنني لا يمكن ان اجد فيك هذه الصورة من صور الحياة التي أبغيها ثم لا أريد أن أتخذك سبيلا وضيعا للتجربة المريرة التي تتآكل في أرواح من لا يقدرون أو لا يستطيعون الى الاحتراق سبيلا .. ولما أن سألتيني كيف ؟ افضت بشرح هذه النظرية التي تنشد الحرية الإنسانية في أعلى صور إمتثالها الإنساني .

لم تكوني  متحذلقة كأغلب النسوة التي شدون طرفا من الثقافة الروحية .  يغمر عينيك بهاء  وصفاء وفرح و انطلاق عجيب نحو المجهول ،  ويطفح على وجهك المجلل بالشعر الأسمر الفاحم تفاؤل  ينفذ الى الأعماق في دعة ورقة وسكون ...

 

أردت  أن أجعل من حياة القديس المثل الأعلى للحياة التي يجب أن أحياها كإنسان  ويحياها القديس والأولى به أن يحياها ما دام يدعو إليها ، ولكن في ممارستي للحياة لم اكن امثل هذه الحياة  في شيء، فأنا هو الذي طلب الخلاص عن طريق انكار إرادة الحياة وقال مع  سوفوكليس في إحدى جوقات أوديب ( ألخير أن لا يولد الإنسان ، وإن ولد فعليه أن يرحل بأسرع ما يمكن   ) . نعم إرادة الحياة ذلك التنين الجبار القاسي الذي لا يرحم . وقلة هم الذين هزموا إرادة الحياة ، أولئك الصفوة من البشر الذين ارتدوا ثوب القداسة والسكوت فمتلؤا حرية مطلقة هزئت بالحياة وإرادتها ..

وإذا كانت الصفة الأولى للقديس العزوف عن زخرف الدنيا  وبهرجها فقد انخرطت فيها كأعنف ما يكون... فرحت أنتهب لذاتها أنّا وجدتها بل أسعى لها حثيثا ..

وتناسيت تلك المطرقة التي رحت اضرب بها في كل اتجاه :   ألسنا نرى في القديس نشدانه لأن يجعل من حياته سلسلة من الآلام .. لأنه من لهيب الآلام المطهر ينبثق إنكار إرادة الحياة أي الخلاص  ولا خلاص إلا بالموت .. الذي يسعى القديس الى تحصيله فلا يحظى  براحة البال وسجو الضمير  إلا إذا ضفر به ...

لقد كانت حياتي في مجراها العام هادئة صافية لم تعرف من الموج اضطرابه، ولا من الريح هياجها .. بل سرت كالنسيم الهادئ في أماسي الخريف على ضفاف الوادي ...

إن أمثالي من التائهين  يتمايز بعضهم عن بعض في داخل الحياة الروحية الباطنة نفسها ،فمنهم من يصدر في تجاربه عن حياة يعانيها وتكون أفكاره ممتزجة بدمه. أو على حد تعبير نيتشه : تكون الحقائق بالنسبة إليهم حقائق دموية فإذا تحدثوا تحدثوا  عن أشياء حيوها وسرت في كيانه كله فاهتزوا لها وتشبعت بها أرواحهم  من  بعد ما  سكبوها في بواطنهم فامتزجت بروحهم.. لا مجرد حوادث لا حياة فيها ولا دماء وإذا ما كتبوا كتبوا بكيانهم كله عقلا وعاطفة واحساسا قلبا ودما ولحما .. ومنهم من يجرد نفسه ليكي يجعل الروح  كالمرآة الصافية تتراءى فيها أنواع من الصور  عديدة  وسلاسل من  الأحكام  دون أن تتأثر بشيء من طبيعة المرآة ودون أن تتأثر المرآة نفسها بشئ من طبيعة الصور والأحكام..  وتفكيرهم في هذه الحالة لا يتجاوز قمة العقل الجافة الخالية من كل حياة فقط ..  وإنما يعمل عمله كالآلة في أشياء ميته متحجرة . وبين هؤلاء وأولئك سلم طويل تتوالى فيه الدرجات على شكل فروق دقيقة بل إننا لا نستطيع  ان نرىاحدا منهم  أتصف بصفات إحدى الطائفتين الخالصة دون الأخرى لأن طبيعة التفكير نفسها تحول دون ان يتحقق شيء من هذا التمايز المطلق على الوجه الكامل فلا يمكن أن يكون ثمة تفكير حي خالص لأن الفكر يقتضي التصورات وهي صور متحجرة في قوالب لغوية ميتة بل لو أمكن أن يتم الفكر دون تصورات مجردة لما استطاع مثل هذا الفكر أن يخرج من نطاق رأس المفكر وينتقل الى الناس إلا اذا اتخذ سبيل التصورات المتحجرة، أجل إن مثل هذا النوع من الفكر هو المثل الأعلى . لكن هذا شيء وواقع الحياة شيء آخر، كما أن الفكر لا يخرج مجردا خالص التجريد كما نزع الى ذلك كثير من المفكرين ممن ينشدون الموضوعية الخالصة لأن المفكر أولا وأخيرا كائن حي ..  وهذا ما عبر عنه نيتشة اذ قال : ( إن التفكير كالظهيرة الساجية بعد الصبح الهائج وصاحبه لا يريد شيئا فقلبه هادئ وعينيه هما اللتان تبرقان فهو ميت ساهر العنين فحينئذ يرى الإنسان مالم يره من قبل . وأخيرا تهب ريح الأشجار ، وتذهب الظهيرة وتنتزعه الحياة من جديد الى نفسها ، الحياة ذات العيون العمياء ...)

فألى أين من الطائفتين يمكن أن انتمي؟

ما الذي اريده ؟ أن احيا حياة القديس تلك الحياة الخالية من اية شهو.. حياة الجزع من الحياة ؟

إن تلك النبرة الممزوجة بالدموع المشتعلة بحرارة الشوق والحنين لتشهد بأنها صدرت من أعماق روح تنزع ما استطاعت الى بلوغها ولكنها وياللأسف تصطدم بالعنصر الأرضي الثقيل فتنزل من حيث صعدت فاتسائل بجزع رقيق كما تساءل فاوست ( أو توجد إذن أرواح تحلق حرة بين السماء والأرض ؟ ألا فالتنزلي أيتها الأرواح من وسط غيومك الموشاة بالعقيق ، تعالي كيما تقودي معراجي الى حياة جديدة مختلفة ) .

لكن وسط كل ذلك ها أنت تنقاد كالأسير البائس الى جحيمه الملعون .. فبعد أن كانت المعاني تضطرب في جو حياتك الذاتية الخالصة الملبد  بضباب الصباح المملوء بالحركة والأضطراب في نشوة من القوة وصورة من الحياة ، تسبح في سماء الحياة الصافية الأديم الخالية من الحركة والسكون.. الماثلة في سجوها كمثول الصوفي في محرابه ، حيث لم يستطع أن يعبر عن هذه الحياة إلا على هئية لمحات يصوغها في عبارات مصقولة لا تستطيع الأنامل أن تلمسها عارية ، فتضطر من أجل ادراكها ألى تغليفها بأغلفة لأن فيها حرارة حارقة وعليها طهارة وقداسة فتخشى من وراء اللمس أن تحترق بنارها أو تدنس من قداستها ، وها أنت تجعل في هذا القالب المرمري  الذي اتخذته لي عروقا تدفق بالحياة والشهوة الى تلمس مواطن الشعور المختلف باحتراقي . وها هي ذي انفاسي تجري دما  في بواطن التصورات التي كان علي عسيرا أن أفهمها  أو أن أتمثلها ،

هل كان علي أن لا أبلغ مدى التعبير لهذه المعاني التي غارت في كل الأتاويه القصية  وبات عليّ أن اطاردها كما يطار صياد فريسته ، وأضيق عليها الخناق في كل زاوية ، ثم اقذف بها ميتة على الورق .. حيلتي أن اصب على الوجدان الحاد كل الحدة أو الجرح العميق كل العمق أنفاسي الملتهبة حتى أطفأ ذلك الجموح العصي للشهوة

انا ادري أنه في مسرح نفسي الباطن صراع جبار بين الصور النورانية المحلقة في فيض من النشوة ، وبين القوالب الجامدة الصماء التي تريد أن تضغط على الصور في داخلها فتسلبها كل حياة ـ صراع فيه من المعارك   والدماء المسفوكة ما يشكل ملحمة من أنبل الملاحم المليئة   ، خصوصا وكل صورة من هذه الصور قد إنبثقت من أعماق روحي وأنشبت أضافرها في كل كياني ، فانساقت في تيار حار من الإحساسات الملتهبة وموكب حافل بالعواطف المؤججه الملتهبة ، وهي من

 ناحية أخرى صورة مفترسة فتاكة تكاد تنهش روحي باستمرار كالنسر الذي ينهش كبد برومثيوس المصفد بالأغلال .. وكأني عكس ما في العالم من عذاب وألم ...

هل كنت تفهمين حجم هذا الخطر الذي يحدق بي  ساعة أن قلت لي :

تلك الماساة الرائعة التي تحياها أو اتخذتها لك طريقا هي اروع ما فيك وهي أجل ما يجعل منك  كائنا ترقى دائما في معراج لا يبلغ مداه الناظرون .. عذابك في داخلك فلا نعيم الحياة ولا هناؤها ولا سلامها ولا هدوؤها ولا جمالها ولا ما عسى أن يحضى به الفرد من راحه قادر أن يؤثر أدنى تاثير في مجرى هذه المأساة كما لا يستطيع ما يجري على الضفاف أن يحدث اثرا في مجرى  النهر ..

أنت تتحدثين من تصور لا من ماهية التصور ولذا بدوت أمامك  اشبه ما كون بمشهد نار تخمد  .. أو ككيان يتحطم ..

 

                                                        8

 

 

 

 

هو ذا الليل يزداد وحشة، فما ثمة إلا ولولة الريح، وتراقص ضلال السرو على الطرقات المقفرة ، كل شيء يمتثل سكونه، وها هي ذي الأشعة الوردية التي يرسلها القمر، تروح في أنداءها ، وتسكب في قلبينا  أشواقها ، وعبير اشياءك المستسرّة  ،  وندى عطرك  وسنى جسدك ، ولوعة الرغبة  المشبوبة ، وهناك على الذرىالبعيدة  في قلبي المثكل  تتساقط   دمعة  حزينة، في مواكب الليل    ..

ما ثمة إلا رائحة الليل،  وعبث أمواه الوجد  ينثال هنا وينزهناك على السفح البعيد  في روحي  المقفرة ..

يطلق بين الحين والآخر عواءه الذي يتردد صداه في جنبات الكون....

وأنت كما الزهرة الثملى كأنها من فرط حياءها ثكلى، ومن شفيف عطرها خجلى، تميل ذات اليمن بأردافها  وذات الشمال بأعطافها ، وعلى صفحة من شبق  وضيء ،  يمرح ظلك ، ويشيع سنا وجدك ، ليفيض معناك على قلبي الكسير ..

ليتني اسطيع تسريح  طرفي الى ذياك الصدر العامر  ذو السكون المشبوب   ، والصفاء العتيق ، كيف السبيل إليه وقد  بعد مهواه    .

 ها أنت تساقطين  من القمم القصية على السفوح.. كأنك سحابة من النور، ما مست شيئا إلا استحال خلقا من نور، هيا اقتربي .. اقتربي  مني من لحظة التوحد القصوى، إني لا أحتمل هذه القشعريرة التي تبعثها أنفاسك الطاهرة  في   جسدي المنهك .

أتعلمين، أنك هو هذا الوجود الذي يملؤني حضورا حي ، كلما راح  يتراقص على أناملي في لحظة تأمل قصوي .

 

  
  ألم تسمعي نداء  الذي أشعل المصباح في منتصف النهار ثم مشى في السوق وهب  صارخا بلا توقف ( أنا أبحث عن الرب :  أين الرب؟. سأقول لكم لقد قتلناه. نحن جميعا قتلناه،  و لكن كيف قمنا بذلك كيف إقترفنا هذه الجريمة ؟)

 كيف نستطيع أن نشرب البحر ونبتلع الهواء  كيف يمكن أن نقفز بعد الآن بأرجلنا الحافية فوق المياه ؟

من أعطانا الممحاة من اجل أن نمحي الأفق ونقتل الضياء الذي يمرح بين جنباته ؟

 ماذا فعلنا عندما حررنا الأرض من الشمس وأرقنا الدم الطاهر على اشلاء الشمس ؟

 إلى أين يسوقنا هذا المصير  بعد الآن؟

 إلى أين نتحرك ولماذا علينا أن نتحرك ؟

 ألا نسقط بشكل دائم من هناك ؟

 ألا يلامسنا المكان الفارغ؟

 ألا يأتي الليل دائما؟

 ألا يجب أن تُضاء المصابيح في منتصف النهار؟

 مات الرب، و سيبقى ميتا. و نحن من قتله. كيف نعزي أنفسنا، بأننا أكبر السفاحين؟

 من سيمسح الدم عن أيدينا  ؟

 ما هو الماء الذي سيطهرنا؟

من سيغسل عارنا بعد الآن ؟  

من سيواري جثة الرب ، ولماذا كان علينا أن نقتله دون رحمة ؟

صدقيني تأملت هذه الأسئلة  في تلك القصاصة التي حشوتها البارحة في جيب معطفي كثيرا.. ولم أجرؤ  على التفكير بها .. لكن ثمة جواب كسيح كان يراودني .. كل هذه الأسئلة كانت رقصا على جرح راح يتسع في روحك فلا تبذري هذه الأسئلة التي أرهقت عقل نيتشة في صحراء لا روح فيها ولا حياة . 

 

ويأتي صوتك خافتا بهيا  لاتذهب نفسك يا عزيزي  حسرات.. على ما كان وما سيكون ... واهتف مع دفني... احبب ما لن تراه مرتين ..

لم أفهم مرة أخرى .. كيف ترتفع الصخرة ثم تهوي في مكان سحيق  

لكن هي ذي نسائم الليل تهب محملة بعطرك السماوي فدعي عنك جلجلة الريح وصفيرها في الخارج وتعال لي كي  أملء نفسي بمعاني لم تألفيها من قبل ولن يستطيع نيتشة أن يحملنا على جناح كلمة خرجت مقتولة من عبارة قالها زارا في لحظة تأمل قصوى  ..

تلك معاني امتلأت بها نفسي من الينبوع الأصيل لهذا الوجود.. وهي معان تطايرت أحساسا في كل اتجاه ساعة اذا تدفقت سيول النور من هذه الشمس التي لم أراها... أدركت مظاهرها، لكني لم أضع يدي على حقيقتها،  وهنا كان عذابي الأكبر فبدا لي العالم خليطا من الأسرار لم أتبين مداها.. هذا عداك عن المغزى الكامن وراءها .. هل هو احساسي بالشر والألم والخير والنعيم معا ؟ وما يثيره ذلك في نفسي من خواطر وهواجس،  فبدت روحي وقد سيطرت عليها هذه النغمة الكونية الحزينة حتى لم أعد اشعر إلا بهذا النوع من الشعور .. وراح ليبوردي... يتمثل أمامي ليبوردي..  هذا اللحن الحزين في ناي القلق العذب ..هذا النسيج المتشابك من القوى والإنفعالات المدمرة بحيث لم يجد معنى لمدلول عواطفه ومضمون انفعالاته المشبوبة التي راحت نفسه تعزفها في ألحان عذبة عذوبة السماء، وتهز الأوتار في داخل روحه المشبوبة الخيال، مع هذه النغمات الحزينة، التي ترددها تلك الاهتزازات المثقلة بالدموع السواجم .. و كم  السعادة، هل هو الخارج  من هذا التفاؤل الأهوج وخيلاء الحب ؟

إن الملال هو بمعنى من المعاني أجلّ العواطف الإنسانية .. لا أؤمن بهذا او ما استخلصه كثير من الفلاسفة في تحليلهم لهذه العاطفة من نتائج .. ولكن لعدم إمكان الرضى عن أي شيء . بل ولا عن الأرض كلها  ..

ها أنا أتأمل سعة المكان وأمتداده اللانهائي .. لكني اشعر أن نفسي هي أكبر من كل ذلك اي من هذا العالم المتخيل .. هذا العالم الذي يحتاج لي كي أمنحه تفسيرا، كي أعطيه أسما .. ان اتهامي للأشياء بالنقص والعدم والشعور بالعوز والخلاء وبالتالي الملال .. كل هذا يبدو لي أنه أعظم دليل على العظمة والنبل في الطبيعة الانسانية ..  لكن الإنسان هذا سقط في الوجود . ومصدر هذه الخطيئة هو الإرادة ... لما انبثقت   من أعماق اللاشعور كي تستيقظ على الحياة، وجدت نفسها كفرد في عالم لا حدود له ولا نهاية .. وسط حشد هائل من الأفراد المتألمين التائهين الضالين .. ولما كانت منساقة من خلال حلم رهيب، فإنها تهرع كي تدخل من جديد في لاشعورها الأصيل .. وحتى تصل الى هذه الغاية كانت رغباتها غير متناهية .. وكل إشباع لشهوة يولد شهوة جديدة .. ولا ثمة ما يوقفها عن جموحها ونوازعها والقضاء على مقتضياتها .. أو ملء هاوية قلبها السحيقة .. فلإنسان يسعى جهده طول محياه محتملا أشد صنوف العذاب والآلام محفوفا بالمتاعب والمخاطر حتى يحافظ على هذه الحياة البائسة التافهة .. بينما الموت ماثل نصب عينيه في كل فعل وفي كل آن .. ألا يؤذن هذا كله بأن السعادة الدنيوية وهم يجب الأعتراف به .. وبأن الحياة بطبعها شر كبير .. وبأن جوهر هذا الوجود هو الشقاء بعينه .. إن السعادة النسبية التي يشعر بها المرء هي الأخرى وهم .. فما هي إلا الإمكانية المعلقة التي تضعها الحياة أمامنا على سبيل الإغراء بالبقاء في هذا الشقاء .. وهي السراب الكاذب الذي يحثنا على الحرص عليها ويحدونا الى التعلق بما فيها .. إنها تعدنا ولا تعدنا إلا بالغرور.. وتغرينا بالبقاء لنشعر بخيبة الأمل وسوء المنقلب.. وتلوّح بالسعادة الجياشة لكي تلقينا في مهاوي الشقاء والحزن  .. فلا نبلغ المأمول حتي يندفع الحنين الى المجهول .. واذا بكل آن حاضر هو الى  زوال .. كأنه السحابة الصغيرة القاتمة تزجيها الرياح فوق السهل المشمس ووراءها وأمامها كل شيء مضيء .. أما هي فوحدها من يلقي الظل باستمرار .. أليس الحياة خليقة بالإنصراف عنها  وعدم الإقبال عليها؟ ..

 أجل ألا ينبغي لنا النزوع نحو الخلاص من هذه الحياة .. بأن نميت فينا كل رغبة ونقضي لدينا على كل طموح ونضع حدا نهائيا لكل سعي ومجهود ..؟

وإن كنت في شك من أمر هذه الحياة فتأملي الزمان .. أليس الزمان هو الذي ينشب إضفار الفناء في كل موجود ؟

 أولا يحيل كل سرور الى عدم .؟. إن الزمان هو الذي يعطي لهذا العدم الماثل في الأشياء مظهر البقاء الزائل.. بينما نحن نتسائل مذهولين .. إلى أين ؟ إن هذا العدم هو العنصر الوحيد والموضوعي في الزمان .. أعني ما يقابله في الجوهر الباطن للأشياء وهو بهذا الجوهر الذي يعبر عنه ... إن الموت لا يفر منه كائن ....

وللنظر في هذه اللذة المزعومة .. والسعادة التي يتحدثون عنها فماذا نرى ؟ نحن نحس بالألم لا بالخلو من الألم وبالهم لا بالصفو من الهم، وبالجزع لا بالأمن، ونشعر بالرغبة كما نشعر بالجوع  والعطش .. لكن ما تلبث الرغبة أن تشبع .. ثم نعاني أشد ما يكون العناء...

أذا الألم والحرمان هما وحدهما للذان يمكنهما أن يحدثا تأثيرا إيجابيا، وبالتالي يكشفا عن ذاتيتهما ... أما التمتع والشعور باللذه فهو سلبي خالص .. ولذلك لا نستطيع تقدير الخيرات طالما كنا مالكين له ، كالشباب مثلا.. ولكي ندرك قيمتها لا بد من فقدها وكذلك الصحة والحرية . . فكل ألم هو في حقيقته ايجابي بينما اللذة سلبية لأنها تخلو من الألم وهذا ما عبر عنه بترركه عندما قال : كل متع الحياة لا تعدل عذابا واحدا .... ألا يدل هذه أن عدم وجودنا هو الأفضل من وجودنا ؟..

الدنيا كلها شرور وأقدامنا تطأ في كل حين ارضا مبتلة بالدموع ... ومصدر الشر في هذه الدنيا هو الإنسان .....

يقولون لي يا فينو 

لا تنظر الى الآلام والأحزان . وإذا ما نظرت إليها فلا تبصرها ، وإذا ابصرتها فلا تفهمها ، وإذا فهمتها فلا تفسرها .. وإذا نقدتها فلا تطالبها بأن تكون كما تريد .. فإذا لم تفعل ذلك ورضيت بخلافه أي اذا رضيت بأن تؤول الحياة وتنقدها فلا تبك حينئذ ولا تحزن ..

بقولون لي يا فبنو :

انظر الى الحياة بعيني حجر لا بعيني إنسان .فعيون الحجر هي أقدر على أن تبصر الآلام بغير بكاء .

يقولون لي أنك متشائم . لأنك ترى ما في الحياة والناس من هموم وعذاب وتحس بهذه الهموم وتلك العذابات وتحتج عليها بل وتثور عليها .. ولا يغفر لها في حسابك وأنت ابن الطبيعة وإنسان الطبيعة البكر الصافية.. فانظر الى جمال الشموس والأقمار وهفيف السحر في وردة يعطرها ندى الفجر العليل ..

يقولون لي:  إن رؤية الألم في مكان حيث توجد اللذة في أي مكان آخر تحقير لكل لذة

إن النظر الى وجه قبيح حيث يوجد وجه جميل تحقير لمعنى الحياة والجمال .

إن المتفاءل هو الذي لا يستطيع أن يرى الأشقياء المحرومين مادام يوجد مترفون

أو يرى المرضى مادام يوجد أصحاء أو يرى الليل مادام يوجد نهار أو يحتج على هول الجحيم ما دام يحج الى النعيم ويوعد بالنعيم ..

إن الإستماع الى الأنين فوق الأرض حيث تعلو الضحكات فوق الكواكب .. هو كفر بالآلهة وعدوان على الضاحكين .. خيانة لأمجاد الكون ومباهج الحياة .

وما دام الليل والنهار يتعايشان بسلام، وما دام الظلم والمرض والهزيمة والفواجع والهوان، وما دام الحقد والحسد والخيانة والأنانية والبغض ، ما دامت الشمس تطلع ..

وما دام الناس مستمرين يجيئون ويذهبون، يصنعون الأطفال ليستقبلهم جميعا الجلاد الرهيب ليقتلهم دون رحمة .. وكأنه يعاقبهم على مجيئهم .. وما دامت الآلهة راضية عن نفسها سعيدة في سماواتها تحي وتميت ترضى وتغضب تضحك وتعبس تبعث بالزلازل والبراكين وتجفف الغيوم وتحبس الأمطار وترسل المجاعات وتحيل الإنسان الى صخرة أو صحراء  دون أن يكون له ان يسأل ..

يقولون : إنك تحتج بالموت على الحياة وبالحزن على المسرة ، وبالفقر على الغنى وبالشيخوخة على الجمال والصبا.. وبالذين لم يجدوا الله على الذين وجدوه ....

يقولون : إنك تشترط على الآلهة والطبيعة وتريد منها أو لها أن تكون كمالا لا عيوب فيه عادلة بلا ظلم ،رحيمة بلا بقسوة، ذكية بلا غباء .. فإذا جاءت على غير ما تهوى ثرت ثورة الجحيم ... ولكنها جاءت في حدودها المفروضة .. لكن ما هي حدودها تلك ومن فرضها ؟  إنك ترى الله حين يزأر ولا تراه حين يبسم ..لكن هل ابتسم الله يوما ؟

 

إنك ترى الكون حين يرتدى ثوب العزاء ولا تراه حين يرتدي ثوب العرس .. إن السعادة والصواب لديك هما دئما في منطقك القاعدة والواجب.. أما الألم والخطأ فهما خروج عن القاعدة ...

إن السائر على قدمين لا يمكن أن يكون غفرانا لمن فقد القدمين إن من خلق بيدين لا يستحق عطفك ولا يستدعي نظرك.. أما من خلق بلا يدين هو ما يؤجج ثورتك ويعلن عظيما صراخك .. لا الترى اللذة في الوجود .. ذلك أن اللذة في الوجود هي معنى الوجود بل مسوغه ..

يقولون: لماذا لا تكون مثل هذه القبرة التي تصدح بغنها في مساءات الصيف وأرديت الغروب .. لماذا تشترط على الحياة شروطا أنت لا تفهم معناها ..

قلت لهم نعم .. ايها الواعظون نعم ..

ان كل ما في الكون من جمال من نجوم وأنهار وأقمار وأطيار وحدائق غناء وجبال وأودية وأنهار وجداول وزهور وعطور .. لا يمكن أن يكون غفرانا أو إعتذار عن قبح في القبيح أو عن ألم في المتألم أو عن هوان وبكاء. أو عن مرض أو شيخوخة. أو عن مساحة هذا العبث في هذه الكوارث التي تعصف بالحياة والأحياء ليل نهار .. لأن كل ما في العالم  من أشياء طيبة لن يستطيع أن يجعل من متألم واحد فرح .. لا يمكن لهذا العالم الفرح أن يقدم له العزاء ..

إن جميع الشموس المضيئة لن تكون تكفيرا عن ظلمة في عين فقدت ضياءها .إن جميع القصور الباذخة لن تكون إعتذارا عن حقارة في كوخ.. إن كل شيء مناقض هو عدوان على نقيضه .

إن الجمال عدوان على القبح  إن الصحة عدوان على المرض والشباب عدوان على الشيخوخة....

أيها الواعظون .. خذوا نصائحكم وأعطوني مشاعركم .. ليتكم تجربون معاناة الأحاسيس التي يعانيها من تنصحونه ..  ولأنكم لا تملكون المشاعر فكيف تعطونها ؟

 ليتكم تجربون معاناة المتألمين .. معاناة الفقير وألمه ..وجنون الجوع والحرمان والمرض والحزن .. ليتكم تجربون القسوة في عيونكم .. وقد حرمت من نعمة أن ترى .. ليتكم تجربون حالة الكسيح ومعاناة الأصم الأبكم .. ليتكم تجربون عذاب المتعذبين تجربون عري أرواحهم وعري أجسادهم ... لكنكم لن تفعلوا ولن تفعلوا ...

ليس المتفاءل هو الذي يحول الأطفال المشوهين الى أصحاء .

أو يحول البحار الى أمواه عذبة لذة للشاربين.

أو يحول الناس من ذوي أخلاق الى أناس بلا أخلاق بلا تعاليم .

أو يحول الطبيعة الملحدة الى طبيعة مؤمنة .

أو يحول القمر الى نبي صالح يحرس النجوم من الغواية والسقوط ..

أما المتشائم فهو الذي يصرخ ناقدا وناقما ومحتجا من هول البشاعات .. هو الذي لا يستطيع أن يموت صامتا .. أو شاكرا للطبيعة أو للآلهة أو للزعامات الفاسدة أو للمذاهب الطاغية . أمام طفل يموت جوعا .. أو انسان يبكي من الهوان والظلم ..

إنك قاتل اذا مدحت جمال الشمس أمام إنسان يتألم .. فكيف إذا مدحت رحمة الشمس ؟

إني احب السماء والنجوم والقمر وأحب لها أن تكون كما أتصورها وأكره الموت والغباء والهوان .

أني اكره أن تموت الأشياء   فما بالكم فيمن ولد والمرض ينهش نفسه و يدمر روحه في كل لحظة ويظل كذلك  الى أن يموت ؟ فيكون في هذا الموت   خلاصه .. اذا لماذا عليه أن يأتي من الأصل ؟

الشمس هذه ستموت يوما، وكذلك القمر، وكل النجوم والأنهار والغابات والطيور والأسماك وكل البسمات والنظرات والآهات والشفاه .. ستموت كل العصافير ستموت كل قطرات الندى التي تبلل برفق شرفات منازلنا وشرفات أرواحنا..  سيموت الجمال. بل ان هذا الموت نفسه سيموت اذا لم يجد شيئا يميته .. أننا ندفع بهذا الموت ثمنا للحياة وثمنا للجمال وثمنا للأحاسيس الطهارة.. ثمنا لنسمة عليلة داعبت أرواحنا في لحظة تأمل .. لذلك أحببت كل المتشائمين وكل الفلاسفة العظماء كانوا من هذا الطراز وكل الشعراء العظام كانوا من هذا القبيل ....

أيها الكون السائر في دربه الى الموت .. أيها القصيدة المنسوجة من كم الخيبات والأحزان .. هيا اذا لمحو هذا العار الذي يشكله هؤلاء المارقين الذين يمجدون التفاؤل ويكرهون التشاؤم .. اعزف على قيثارة وجدك لحنا الفناء ولنسمع هذا الرتم الأخير من سنفونية النهاية ..

 

                                                       10

 

 

 

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !