لا أُخفي أبدًا مقدار السعادة التي عشت فيها، يوم وصل الإسلاميون إلى الجمعية التأسيسية - المشكَّلة لوضع الدستور- بأغلبية عن كل التيارات، وقد توقعتُ الهجوم الشرس الذي شنه أصحاب التيارات الأخرى - المعارضة للتيار الإسلامي على طول الخط- ومحاولاتهم المستمرة لإفشال هذه الجمعية، وهدمها وإعادة تشكيلها، والتي نجحت أولى محاولاتهم، فتم إعادة تشكيل الجمعية مرة أخرى، بتشكيل متوازن، والحمد لله...
وقد كنتُ ألتمس العذر لهذه التيارات المعارضة، فهم يخافون أن يُدخل التيار الإسلامي الكتاب والسنة في الدستور، وتكون سابقة لم يشهدها العالم قبل، وهو المرفوض طبعا عندهم، وهو - ولا شك- أمل التيار الإسلامي كله.
لكني دُهشت بل صُدمت حين رأيت مُسَوَّدة الدستور الأولى، وقلت: عجبا أهذا دستور الإسلاميين؟!! وأي فرق بينه وبين غيره؟!! ولم غضب هؤلاء وما زالوا غاضبين؟!!
إن الدستور الذي وُضع بأغلبية إسلامية ليس فيه حتى لفظة ((الكتاب والسنة)، ولا لفظة (التوحيد)، ولا (الإيمان بالله)، ولا (العقيدة الإسلامية)، ولا تلك الصبغة الإسلامية التي توقعتها.. حتى المادة الخاصة بـ(الشريعة)، والتي حاربنا طويلا - مع علمائنا- من أجلها، لم نحصل عليها، وإن كنا حصلنا على 60% منها بالمادة المفسِّرة.
وإني على يقين أننا لن نُحاسَب يوم القيامة على وضع الشريعة في الدستور، بقدر ما سنحاسَب على تطبيقها وإيجادها في واقع المسلمين.
ومع ذلك فإني - والله- في أشد العجب من هذا الدستور، وحُق لي أن أعجب، من دستور وضعته أغلبية إسلامية، فكانت (الديمقراطية) في أول موادِّه، وكانت (السيادة للشعب) كما هي في دساتير الأمم العلمانية.
لقد كنتُ أظن أن دخول الإسلاميين إلى هذا الموقع المهم، هو فتحٌ مبين؛ لأنهم سيُدخلون نصوص القرآن والسنة في هذا الدستور.
كنتُ أظن أنهم سينصون على أن (مصر دولة إسلامية، والحكم الأعلى فيها لله سبحانه وتعالى، وهو صاحب السيادة العليا، والشعب هو مصدر السلطات: يختار الرئيس ويولِّيه، ويؤيده ما أطاع الله، ويعزله إن خالف شرع الله ..).
كنت أظن أني سأقرأ في دستور بلادي أنَّ: (الإيمان بالله والتوحيد طبقا للعقيدة الإسلامية، والعدل والحرية، أساس المجتمع، ومنهج الحياة في الدولة).
كنت أظن أني سأرى في نصوص هذا الدستور: (الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وكل عمل يخالف الشريعة الإسلامية فهو رد).
كنت أطمح أن أرى في هذا الدستور: (طلب العلم فريضة، والتعليم واجب الدولة والعلماء...).
كنت أطمح أن أقرأ: (الحقوق والحريات تجري ممارستها وفقا للشريعة الإسلامية).
كنت أظن أني سأقرأ: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم).
كنت أظن أني سأقرأ: (كل ما يخالف الأوامر والنواهي والآداب الإسلامية باطل ومحذور)..
كنتُ أظن أن أرى هذه النصوص في دستور مصر الإسلامية، وإن لم أجدها على أرض الواقع سريعا، فقد كنت أوقن أيضا أن هذه النصوص وإن وضعت في الدستور، لن تطبق سريعا، ولكن بالتدريج.
لكنه خاب ظني، حيث لم أجد من ذلك شيئا...
حقا إني لأعجب من دستوركم أيها الإسلاميون، وأي شيء خالفتم به دساتير العالمين!!
بل وإني لأزداد عجبا من هذه التيارات المخالفة للتيار الإسلامي، على أي شيء تتمردون، ومن أجل ماذا تضجرون، وقد تم لكم ما كنتم إليه تطمحون؟ تبا لكم أيها الظالمون!
ولهذا أعلنها - والله شهيد- أني لست راضيا عن هذا الدستور، ولا أعتبره موافقا لما أدين لله به، فقد أعلى الديمقراطية ولم يُعل الشورى، وجعل السيادة للشعب، ولم يجعلها للشرع، وجعل أساس المجتمع الحرية والعدالة، ولم يجعله العقيدة والتوحيد.
ولكني مع هذا سأصوِّت بـ(نعم) لا لأني موافق على الدستور، وإنما من أجل أن تمر البلاد من هذه المرحلة، إلى مرحلة أرجو وآمُل فيها، أن يكون (الكتاب والسنة) واقعا عمليا في حياة المسلمين، وإن خلا الدستور من ذلك.. فإنا -كما أسلفنا- لن نُحاسَب على وضع الشريعة في الدستور، بقدر ما سنحاسَب على تطبيقها وإيجادها في واقع المسلمين.
فمهما كُتب في الدستور من مواد، لم ترق إلى الحد المطلوب لكل مسلم ملتزم بشريعته، محب لدينه، فإن الحساب ليس عليها، وإنما على تطبيقها، فإن وُجد في واقع المسلمين وبلادهم ما يخالف الشرع، ووافق المسلمون عليه، فذلك الذي عليه الحساب والعقاب، سواء كتب في الدستور أو لم يُكتب.
ولهذا رأينا الآن فتاوى للمشايخ تبين أن التصويت بـ(لا) ليس كفرا، كما أن التصويت بـ(نعم) ليس إيمانا،، ولكن كل من يصوت بـ(لا) الآن، إنما يعطل مسيرة الدولة، وخروجها الآمن من هذه المرحلة العصيبة، والمحن الشديدة..
وإني كلي أمل وثقة في رئيس جمهوريتنا الإسلامية، ومن هم في سُدة الحكم الآن، أن لا يُقروا شيئا يخالف كتاب الله وسنة نبيه...
وإني لأسأل الله أن يحفظ مصر من كل سوء، وأن يعيدها إلى السيادة والريادة من جديد، وأختم مقالي هذا بقول الشاعر:
احفظوها إن مصر إن تَضِع... ضاع في الدنيا تراث المسلمين
التعليقات (0)