عبق النافذة.. رائحة الإبداع
خليل الفزيع
مجموعة قصصية جديدة قدمها للقارئ العربي الكاتب محمد البشير الذي عرفته ناقداً جاداً من خلال كتابه عن "ظاهرة القلق في شعر يوسف بن عبداللطيف أبوسعد" ومن هذه المجموعة التي سماها "عبق النافذة".. تعرفت على جانب آخر من شخصيته الأدبية هو كونه كاتباً للقصة القصيرة، وفي حالتي النقد والإبداع القصصي يولي الكاتب محمد البشير ما يكتب جل اهتمامه، وكثير عنايته، وشديد حرصه.. سعيا وراء الإجادة، ورغبة في الإضافة الجادة لمنجزه الأدبي.
"عبق النافذة" لا يقف عند معناه الظاهر، بل هو يملك جناحين يحق بهما في سماوات الإبداع، منطلقا من جذره الاجتماعي وما يمور فيه وحوله من تناقضات الحياة ومشاكساتها، فيقدم لقارئه ما يشبه "الفلاشات" بلغة السينمائيين، وهو غير بعيد عنها، ففي سيرته الذاتية ما يشير إلى أنه كتب سيناريو بعض الأفلام القصيرة التي حصدت بعض الجوائز، ومع هذه المجموعة تم توزيع قرص مضغوط (C.D) أحتوى على بعض قصصها التي حولت إلى أفلام قصيرة.
النافذة هنا توحي بالإطلالة على جوانب من الحياة قد نمر بها دون أن نلتفت إليها، لكن محمد البشير ـ الذي قدم نفسه بثقة كبيرة من خلال هذه المجموعة.. كاتباً مجيداً للقصة القصيرة ـ يقودنا وبتكثيف شديد.. إلى ما توحي به تلك الجوانب من الحياة ليس في ظاهرها كما تبدو، ولكن في ما تكتنزه من المعاني الموحية، والتي تتجاوز ظاهر الحدث إلى ما يمكن أن يعنيه من إسقاطات، على المتلقي الواعي أن يمسك بها دون دلالة مباشرة من كاتبها، هذه هي القراءة المجدية، التي تفتح النص على احتمالات أخرى جديرة بأن تكتشف من قبل المتلقي الباحث عن ما وراء الكلمات، مسهماً بذلك في إعادة صياغة النص وفق منظوره الثقافي، وفي إطار أفقه المعرفي، فلم يعد الكاتب كلفا بدغدغة مشاعر المتلقي، وتخدير أحاسيسه، بل عليه أنْ يسعى لإثارة الأسئلة الصعبة في عقله ووجدانه، وهذا ما تفعله نصوص "عبق النافذة" التي لا توغل في رمزيتها، ولكنها تظل عصية على مَنْ يريد التعامل معها كما يتعامل مع أي نص إبداعي من ظاهره، ودون محاولة سبر أغواره العميقة.
ولتكتمل صورة النافذة/ الرمز، لجأ الكاتب إلى تقسيمها كما هي أجزاء "النافذة" وكل جزء ضم مجموعة من النصوص ذات المعاني الموحية بعلاقتها مع غيرها من قصص المجموعة، فالمزلاج، والدرفة اليمنى، والدرفة اليسرى،، والستارة وما خلف الستارة، عناوين عامة، انضوى تحت لواء كل واحد منها عدد من القصص المتفاوتة المساحات، والمتنوعة التشكيل، والمختلفة المضمون، تنتظمها رؤية واعية لما تقدمه للمتلقي من معنى ظاهر، يستتر خلفه معنى خفي، حاملة معها أسئلة مشروعة عن ما يمكن أن تقدمه القصة القصيرة والقصيرة جدبا من حوافز التفكير في واقع مأزوم يراد منه أن يبدو مثاليا، وهو في حقيقته أبعد ما يكون عن المثالية، لأنه يرزح تحت أعباء المثالب والعيوب.
ومن طبيعة القصة القصيرة جدا ـ هكذا معظم قصص المجموعة ـ ألا تستجيب لمحاولة الاختصار أو التلخيص، فكيف يمكن اختصار المختصر؟ أو تلخيص الملخص؟ وعندما أقول إن هذه النصوص تتجاوز معناها الظاهر، فسأختار نصين قصيرين، النص الأول "فراشة" حيث نقرأ: (رفرفت بجناحيها فراشة مختالة؛ فلوت أعناق المارة تجاهها.
عزم أنْ يصطادها فأعدَّ شركه، ودون كثير عناء وقعت بين يديه. أمسك بجناحيها فاصطبغت أطراف أصابعه بألوانها لتفقد بهرجها. ارتدى نظارته فأبصر وجها دميماً مقرفاً. ازدردها كلفاً فأصيب بالغثيان. استفرغ ما في جوفه وفر هاربا). والنص الثاني "بالونة" حيث نقرأ: (شاحبة هزيلة تشتكي الضجر. داعبها بشفتيه حتى انتفخت فاستسلمت ليديه. قيدها بخيط رخيص عقده بسبابته فحلقت جذلى.
ملَّها فقطع الخيط لتطير وأنفاسه بين حناياها. فرّت من غير وجهة، تناوشتها حجارة المارة فخرت هزيلة ممزقة).
فلا الفراشة هنا هي الفراشة ولا البالونة هي البالونة، وهذه هي إمكانية انفتاح النص على أكثر من معنى، وهي إمكانية لا يمكن لأي كاتب قصة قصيرة أن يوفرها لقارئه، ما لم يكن هذا الكاتب مدركا لنتائج هذه المغامرة، وواعيا لمسؤولياتها بالنسبة للنص وللمتلقي وله ذاته باعتباره يملك فكرا معينا يحاول العبور به إلى هدفه وسط حقول من الألغام.
بقي أن نقول: إن هذه المجموعة كانت بحاجة إلى عناية أكثر بالنسبة لعلامات الترقيم، لتكون رائحة الإبداع أكثر أريجا حين تصافح حروفُ هذه النافذة عينيّ القارئ، وينعشه عبقها.
التعليقات (0)