مواضيع اليوم

عبقرية المكان. مقال منشور بمجلة طنجة الادبية

مصطفى الغرافي

2012-10-18 15:39:12

0

"عبقرية المكان"
مصطفى الغرافي

يرى الباحثون في العلوم الاجتماعية أن عالم الاجتماع لا يمكنه أن يتحدث عن قبيلته لأن العلاقة الخاصة والحميمة التي تجمعه بها ستقف عائقا أمام بناء معرفة علمية موضوعية لكونه جزءا من بالظاهرة المدروسة. ومعلوم أن أهم شرط في الدراسة الأكاديمية هو الحياد؛ أي القدرة على ترك مسافة بين الذات والموضوع الموصوف. غير أنني أرى أن هذه الملاحظة لا تنسحب على الأشخاص العاديين أمثالي الذين ينبرون للحديث عن مدينة يرتبطون بها بأكثر من حبل سري. لأنهم ينظرون إليها بعين العاشق الذي لا يرى الحبيبة بعينيه بل يرسم لها صورة انطلاقا من ولعه بطيفها وإبدالاته التي تتخذ أشكالا وصورا لا حصر لها تغذي أشواقه واستيهاماته.
القصر الكبير مسقط الرأس والقلب كما أنعتها دائما. مدينة صغيرة، هادئة وجميلة (في عيوننا طبعا). مدينة تجر خلفها ماضيا مشرقا ومجيدا ؛ فهي عند المؤرخين من أقدم الحواضر المغربية تعاقبت عليها أمم وحضارات كان لها شأو كبير في الماضي السحيق مثل الرومان والفنيقيين، كما كانت أرضها الطاهرة ساحة لمجموعة من الأحداث العظيمة أبرزها معركة وادي المخازن التي اكتست بعدا دوليا وكان لها أثر كبير في تاريخ المغرب قديما وحديثا لأنها أسهمت بشكل كبير في رسم صورة مشرقة وزاهية لمغرب قوي يستطيع الدفاع عن هويته الثقافية ومنجزاته الحضارية في وجه أي عدوان أو اعتداء خارجي. لقد أسهم هذا الانتصار الكبير الذي حققه الجيش المغربي في ترسيخ هيبة المغرب لدى دول الجوار لعقود طويلة بحيث لم تكن أي دولة بعد معركة وادي المخازن تجرؤ على النيل من سيادة المغرب أو تهديد سلامة أراضيه.
وبالرغم من الدلالات الرمزية الكثيفة التي تنطوي عليها معركة وادي المخازن فإن المسؤولين عن تدبير الشأن الثقافي في مدينة القصر الكبير لم يتنبهوا إلى الأهمية القصوى التي يكتسيها موضوع استثمار الرأس المال الرمزي الذي يوفره هذا الحدث. إذ يمكن على سبيل المثال لا الحصر استغلال الأصداء الواسعة التي حظيت بها المعركة في الذاكرة الجماعية محليا ودوليا لإنشاء مزار سياحي على الأرض التي شهدت وقائع المعركة وتزويده بالوسائل اللازمة التي تعرف بالحدث. ويمكن تجنيد وسائل الاعلام المحلية والوطنية للتعريف بهذا الحث الضخم واستقصاء أبعاده ودلالاته. ولست أشك لحظة أن هذا الأمر لو تحقق على النحو الذي وصفنا من شأنه أن يسهم في التعريف بالوجه المشرق لمدينة عريقة ترزح اليوم تحت طائلة التهميش والنسيان.
ورغم كل التهميش الممنهج الذي يطول القصر الكبير فما زالت هذه المدينة العريقة تقف صامدة في وجه النسيان. لأنها تعرف دائما كيف تلملم جراحها لتنبعث من جديد مثل طائر الفينيق الذي ينبعث من رماده كل مرة أكثر فتوة ونضارة. ولذلك ظلت مدينة القصر الكبير قلعة صامدة في عزة وشموخ أمام جميع أشكال الإقصاء والتهميش. وهو أمر لا يثير فينا الاستغراب خاصة عندما نستحضر أن الاسم الذي كان يطلق عليها في عهد الرومان هو "أوبيدوم نوفوم" ويعني "القلعة الجديدة".
فمن الذكريات الثقافية التي لا زالت موشومة في ذاكرة الشباب القصري المهووس بالإبداع زيارة الشاعر السوري نزار قباني إلى مدينة القصر الكبير حيث شارك في أمسية شعرية في قاعة "بيريس كالدوس" المأسوف عليها فقد ابتعلها "الزحف الإسمنتي" حيث تم هدمها وإقامة مشروع تجاري مكانها. وقد افتتن نزار بليل القصر الكبير فقال عبارته البليغة "أجمل ما في القصر ليله". وهي العبارة التي لا زال القصريون يرددونها إلى اليوم في أماسيهم وسهراتهم بكثير من الفخر والاعتزاز.
وإذن؛ رغم توالي الإحباطات والانكسارت المتلاحقة فإن القصر الكبير تعيش اليوم نهضة أدبية وثقافية مشهودة، حيث ظهرت في الآونة الأخيرة منشورات عديدة لأبناء المدينة في مختلف أجناس الكتابة، مما يدل على حركية ثقافية ونهضة إبداعية تشهدها هذه المدينة المباركة. أتمنى أن تتكاثف جهود المبدعين القصريين من أجل الدفع بحركة المدينة إلى الأمام على مختلف الصعد. تاريخ المدينة الثقافي والحضاري مشرف جدا. ونتمنى لها مزيدا من الازدهار الفكري الذي يستحقه أبناء هذه المدينة الصامدة في وجه التهميش والإقصاء. أنا أؤمن بأن الهوامش هي التي تصنع الحدث الثقافي وليس المراكز. يؤكد ذلك أن كثيرا من أبناء القصر الكبير أصبحوا يحظون بتقدير كبير من الفاعلين الثقافيين نظرا لجهودهم المشكورة من أجل الاسهام في إغناء المشهد الثقافي المغربي والعربي. وفي السنوات الأخيرة بدأنا نلحظ حضورا ثقافيا وإبداعيا لافتا لثلة مختارة من مبدعي هذه المدينة في مجموعة من المنابر الأدبية والفكرية التي تحظى بمتابعة كبيرة من طرف المهتمين بالشأن الثقافي. وهو ما لفت الأنظار إلى يمكن تسميته بالحدث الثقافي الذي يصنعه مبدعون ينحتون في الصخر من أجل توصيل صوتهم وانتزاع الاعتراف بأهمية ما ينتجون في قطاعات معرفية مختلفة؛ حيث جاءت إنتاجات الشباب القصري المبدع غنية ومتنوعة فشملت الشعر والقصة والرواية والمقالة والدراسة النقدية والموسيقى والتشكيل والمسرح....
فهذه الأسماء تمثل "النبوغ القصري" في الأدب المغربي والعربي. وما من شك أن ظهور هذه الأسماء الوازنة في دنيا الفكر والأدب لا يمكن أن يرتد إلى حكم المصادفة وحدها. إني أعتقد جازما أن الأمر يرجع، في بعض تفاصيله على الأقل، إلى "عبقرية المكان".

 


مصطفى الغرافي-المغرب (2012-10-15)
تعليقات:
أضف تعليقك :




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !