Avril 2009
محمد لومة / أستاذ باحث
يعتبر محمد لومة صاحب كتاب "سنوات الصمود وسط الإعصار" من القلائل الذين نقبوا بدقة وتفان في مسار هذا القائد الوطني، إذ تحدث إليه كثيرا قبل وفاته، حيث أوصاه هذا الأخير بالمحافظة بأمانة على كل ما أسر له به، كما استجوب أغلب رفاقه في درب النضال والكفاح، سواء قبل الاستقلال وبعده، حيث لم يدخر أي مجهود لملاحقة أي شخص علم أن بحوزته ما يكشف عن جانب من جوانب حياة عبد الله إبراهيم اعتبارا لشساعة غنى حياة الفقيد، فكرا وموقفا وممارسة، على امتداد سبعين سنة، وتنوع مجالات اهتماماته، باعتباره عاش الكثير من التجارب الخطيرة منذ السابعة عشرة من عمره.
محمد لومة على اليمين رفقة إدريس ولد القابلة على اليسار
- قبل الحديث عن تكليف الأستاذ عبد الله إبراهيم بتشكيل حكومة جديدة بتاريخ 26 دجنبر 1958 والصعوبات التي اعترضت نشاطها وكيفية إعفائها، نود في البداية وضع القارئ في الإطار العام للإشكالية عبر الحديث عن المهام الحكومية التي اضطلع بها، فماذا عن توليه أولى المهام الحكومية بعد الاستقلال؟
+ بحكم تربية وتواضع الرجل فقد ظل دائم النفور من مسؤوليات المواجهة الكبرى كيفما كان نوعها، سواء كانت حزبية أو حكومية أو نقابية، وكان يميل أكثر إلى العمل القاعدي الصبور، طويل النفس في صمت، بعيدا عن أضواء الإعلام والشهرة.
فكثيرا ما كان يتحدث في مجالسه الخاصة عن ظروف تعيينه ككاتب للدولة مكلف بالأنباء وناطق باسم الحكومة (حكومة التسيير والمفاوضات) في 7 دجنبر 1955، مؤكدا بشدة على واقع أنه كان ضد المشاركة منذ البداية في تشكيل هذه الحكومة، حيث ظل يعتبرها ثمرة طبيعية لمفاوضات "إيكس ـ لي - بان"، تلك المفاوضات التي ناهضها شكلا ومضمونا، علما أن عبد الله إبراهيم كان قد اكتشف مبكرا من قلب زنزانته بالسجن المركزي بالقنيطرة، منذ أوائل 1954، بأن رفيقيه عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليزيدي كانا يباشران مفاوضات سرية مع الفرنسيين من داخل السجن!
وبمجرد الإفراج عنهما في شتنبر 1954 تابعا تلك المفاوضات من جديد رفقة عمر بنعبد الجليل بدون إشراك العديد من أعضاء القيادة بمن فيهم عبد الله إبراهيم، لقد استمات عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه في قيادة الحزب طيلة ليلة 6 – 7 دجنبر 1955 لإقناع عبد الله إبراهيم بقبول المشاركة في الحكومة وذلك على مدى عدة ساعات امتدت حتى اليوم الموالي.. وفي نهاية المطاف قبل عبد الله إبراهيم التجاوب مع طلب رفاقه تفاديا لانشقاق الحزب، لاسيما وأن صفوفه كانت وقتئذ ملغومة بالكثير من الخلافات.
فقد كان ينبغي، في تقديره الشخصي، فتح ورش إصلاح الحزب من الداخل قبل قبول المشاركة في أية حكومة،وهو الورش الذي تم تأجيله مرارا منذ 1952 بسبب الاحتلال الأجنبي للبلاد، فقد كانت قيادة الحزب على جانب كبير من عدم التجانس الفكري والسياسي.
المرحوم عبد الله إبراهيم في مكتبه بالوزارة
- ما هي ظروف وملابسات مشاركته في حكومة البكاي الثانية؟
+ بسبب اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين الخمسة وتجاوبا مع ملتمس تكتل حزب الشورى والاستقلال وقوى سياسية أخرى، وهو التكتل الذي طالب بإجراء انتخابات نزيهة في البلاد، بسبب ذلك قدمت حكومة البكاي الأولى استقالتها بتاريخ 26 أكتوبر 1956 ليجري تشكيل حكومة جديدة برئاسة البكاي مجددا، حيث أسند لعبد الله إبراهيم منصب وزير الشغل والشؤون الاجتماعية، مع العلم أنه رغم مرور أقل من عشرة أشهر على تحمله مسؤولية وزارة الأنباء فإنه استطاع بنجاح باهر تطهير جهاز الإذاعة الوطنية من كافة التقنيين الفرنسيين الذين كانوا يرفضون الخضوع لتعليمات الوزارة، وكانوا يرفضون كذلك بث البلاغات الرسمية والتعريف بأنشطة الحكومة وانجازاتها، كما لو أن البلاد لا تزال في ظل الاحتلال.
في حين إن نشاط عبد الله إبراهيم في وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية تميز أساسا بوضع أول تشريع وطني لممارسة العمل النقابي، وهو الذي لا يزال ساريا به العمل حتى اليوم، وذلك رغم معارضة أطر الوزارة الذين كانوا فرنسيين بالكامل، وكذا معارضة الاتحاد الدولي للنقابات الحرة..
ففي كلا المنصبين ظل الرجل يعاني من معارضة فرنسية رسمية شرسة، اتخذت أشكالا متنوعة، لذلك كثيرا ما كان الملك محمد الخامس يردد لعبد الله إبراهيم في العديد من المناسبات:"إن هؤلاء القوم (الفرنسيون) لا يريدونك مطلقا داخل الحكومة بصرف النظر عن هذا المنصب أو ذاك، وهم يشتكون بمرارة بأنك تقاومهم منذ سنة 1933، ولم يفلح اعتقالك لعدة مرات خلال فترة الحماية في ترويضك وجعلك تتقبل الحقائق الجديدة، وهم لا يرون في كل ما تقوم به سوى استمرار لنضالك السابق ضد وجودهم ومصالحهم".
- ما هي ظروف تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم؟
+ قبل ذلك بعدة أشهر كانت قد تشكلت الحكومة الثالثة بعد استقالة مبارك البكاي والتي كانت برئاسة الحاج أحمد بلافريج، وذلك بتاريخ 16 ماي 1958، وقد رفض عبد الله إبراهيم المشاركة فيها، وبسبب ما وصفه بمحدودية القدرات السياسية والتنظيمية لرئيسها على
الرغم من وطنيته وطيبوبته وصدقه كما يقول.. كما قاطعها حزب الشورى والاستقلال بسبب استمرار حملة القمع والاختطافات التي طالت العديد من قادته وأطره.
وقد فشلت هذه الحكومة في إخماد فتيل الأحداث الدامية التي عاشتها منطقة الريف ابتداء من أكتوبر 1958 بقيادة الثائر محمد سلام أمزيان، واكتفى قائدها بإقفال أبواب بيته أمام كل مساعي الصلح والتوفيق سواء بالنسبة لأحداث الريف أو بالنسبة للصراع الضاري الذي اشتعل في صفوف حزب الاستقلال بكل مكوناته (المقاومة، جيش التحرير، النقابة، اتحاد الطلبة...)، وجاءت استقالة نائب رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد الوطني عبد الرحيم بوعبيد بمثابة الضربة القاضية التي عجلت بسقوط حكومة بلافريج بعد حوالي سبعة أشهر من تشكيلها.
تجدر الإشارة إلى أن قبول عبد الله إبراهيم بمهمة تشكيل الحكومة، كما أكد مرارا، تطلب عدة مقابلات مع الملك محمد الخامس، وهنا يقول عبد الله إبراهيم :" مبدئيا أنا لم أكن أبحث عن المناصب، بل هي التي كانت تبحث عني، ذلك أن ثوابتي الوطنية تمنعني من قبول أي منصب بدون اقتناع كامل، غير أن الملك محمد الخامس خلال هذه المرة كان يدعوني بإلحاح للتعاون معه للتغلب على الأزمة التي وصلت إليها البلاد باعتبار ذلك واجبا وطنيا يعلو فوق كل شيء".
عبد الله إراهيم رفقة الملك محمد الخامس
- في تقديرك من هم الخصوم الذين ناهضوا هذه الحكومة منذ يومها الأول، وكيف تصرف عبد الله إبراهيم تجاههم؟
+ كانت الدولة الفرنسية هي أشرس أولئك الخصوم.. وقد بذلت قصارى جهودها، حتى قبل تشكيل الحكومة لإقصاء عبد الله إبراهيم من أية مسؤولية حكومية.. أما حزب الاستقلال فقد عبأ كل وسائله الإعلامية والتنظيمية لمناهضة الحكومة الجديدة، لدرجة أنه لم يكتف بجريدة العلم والنشرات الداخلية للحزب، بل بادر إلى إصدار جريدة يومية باسم "الأيام" تحت إدارة السيد التسولي، وكان علال الفاسي في الغالب يكتب افتتاحياتها، وقد كانت هذه الجريدة مخصصة بالكامل للتهجم على شخص عبد الله إبراهيم وعلى حكومته، بل وعلى عدد كبير من المقاومين وقادة جيش التحرير والنقابيين المحسوبين على عبد الله إبراهيم.
لم تكتف جريدة "الأيام" باستعمال رسوم الكاريكاتور للمساس بهؤلاء مجتمعين، بل تعدت ذلك إلى اعتماد الإشاعات والأخبار غير الموثوقة، لخدمة هدفها الرئيسي والأساس: إسقاط الحكومة في أقرب الآجال، وبكل الوسائل الممكنة؛ ومن غرائب الصدف، فإن جريدة الأيام توقفت بصفة نهائية عن الصدور بمجرد إقالة الحكومة، كما لو أن مبرر إصدارها منذ اليوم الأول انحصر تحديدا في إسقاط الحكومة.
كما كان من خصوم هذه الحكومة جمهور عريض من المعمرين والمتعاونين الفرنسيين وأوساط الإقطاع المحلي الرافض لأية إصلاحات وكذا بقايا اللفيف الأجنبي داخل دواليب الدولة.
أما على الصعيد الرسمي، فقد كان هناك خصوم من نوع خاص يتوزعون من حيث مواقعهم بين صفوف الحكومة نفسها، والوسط المحيط بولي العهد وبين المتنفذين العاملين في مختلف الإدارات العمومية، فعلى سبيل المثال تحلقت حول ولي العهد مجموعة عمل مشكلة من أبرز أصدقائه الحميمين كأحمد رضا كديرة (مدير ديوانه) والوثيق الصلة بالمصالح الفرنسية والذي يُكّنَ أيضا العداء لكافة مكونات الحركة الوطنية، وأحمد العلوي (رئيس قسم الصحافة بالديوان الملكي) والكولونيل حفيظ العلوي (المرافق العسكري لولي العهد ذي الماضي المشين في خدمة الاحتلال في أكثر من منصب إداري وغيرهم)، إذ كانت مهمتهم التدخل في كل كبيرة وصغيرة من النشاط الحكومي، وكانوا يبشرون دوما بقرب سقوطها منذ اليوم الأول لتشكيلها، فأحمد العلوي كان لا يصفها على الدوام سوى بأنها حكومة "سبع أيام ديال المشماش"؟!.
ومما زاد من قوة وخطورة هذا اللوبي الموازي للحكومة الرسمية، إشرافه الكامل على شؤون الجيش والأمن والدرك والقوات المساعدة وعلى أسلاك وزارتي الداخلية والخارجية، وهذا ما يفسر حدوث العديد من الاعتقالات في صفوف قادة المقاومة وجيش التحرير بدون علم رئيس الحكومة الأستاذ عبد الله إبراهيم، كما يفسر التدخلات المسلحة العنيفة حيال أحداث منطقة الريف وتافيلالت ووالماس وكذا أحداث بني ملال وأزيلال وأمزميز.. كما يفسر منع الحزب الشيوعي المغربي وتضييق الخناق على نشاطات جيش التحرير في الجنوب عشية تعرضه لضربة (إكوفيون) الشهيرة.. كما يفسر الكثير من التدابير الشاذة والغريبة التي لا تستقيم مع شخصية عبد الله إبراهيم ومساره النضالي وأخلاقه وتربيته كما هو معروف عنه منذ بداية الثلاثينات؛ هذه التدابير التي نسبت ظلما وعدوانا لحكومته، بينما كان الرجل لا يستطيع فضح كل ذلك مراعاة لمشاعر الملك الذي كان يجتاز ظروفا صحية صعبة. كما كان يتجنب فتح مواجهة مباشرة مع ولي العهد طالما أنه مسؤول فقط أمام شخص الملك من الناحية القانونية والسياسية.
أما داخل الحكومة نفسها، فقد كان هناك وزراء من المحسوبين على الفريق الآنف الذكر، كانوا يعملون في تناغم كامل. فالقبطان محمد المدبوح، وزير البريد، كان ولي العهد هو الذي أوصى بتوزيره في حكومة عبد الله إبراهيم نظرا لعلاقتها الوثيقة آنذاك، واعتبارا للطابع الأمني والمخابراتي للمواصلات السلكية واللاسلكية، كما أوصى بتعيين صديقه الحميم إدريس السلاوي كاتبا للدولة في التجارة، وهو المدير الأسبق للأمن الوطني بالدار البيضاء والذي أشرف على عدد كبير من عمليات تصفية المقاومين على يد الدائرة السابعة للأمن بدرب البلدية.
ونفس الشيء يقال بالنسبة لأمحمد ابا حنيني (الأمين العام للحكومة)، الذي كان مكلفا كذلك بكل النفقات المالية المتعلقة برئاسة الحكومة، وهو صاحب الفتوى الشهيرة لولي العهد: "إذا كنت ترغب فعلا في ترحيل الحكومة بالسرعة القصوى، فما عليك سوى التمسك بأقدام والدك باكيا ومستجديا طالبا إقالة الحكومة، فلا تدعه حتى يستجيب لمطلبك، وذلك جريا على عادة أجدادك الأولين".
وحسب مذكرات عبد الرحيم بوعبيد المنشورة حديثا، فإن ولي العهد طبّق حرفيا هذه الفتوى حتى حصل على مبتغاه.
كما كان هناك محمد الغزاوي (مدير الأمن الوطني)، الذي وإن لم يكن وزيرا في الحكومة، إلا أنه كان يتمتع باختصاصات تفوق ما لدى عدة وزراء مجتمعين. فقد كان للرجل علاقات مباشرة بالملك وبشكل يومي. ويتذكر عبد الله إبراهيم مندهشا كيف كان الملك محمد الخامس يواجه أعضاء الحكومة بالقول: "هذا الرجل السي الغزاوي محل ثقتي المطلقة.. وأرجوكم التعاون معه بلا حدود"! فكان اعتبارا من هذا الموقع يقوم بأمور خطيرة بدون الرجوع لرئيس الحكومة، مثل اعتقال غيفارا، وزير كوبا ورفاقه في فندق "باليما" بالرباط، في غضون شهر شتنبر 1959، بينما هم ضيوف رسميون لدى رئيس الوزراء تلبية منهم لدعوة رسمية بالحضور إلى المغرب، وغير ذلك من المواقف السلبية.
تجدر الإشارة إلى أن القبطان المدبوح، وزير البريد، عضو هذا الفريق الذي كان يعمل داخل الحكومة كطابور خامس لمصلحة الفريق الوزاري الآنف الذكر، حاول عبثا إسقاط الحكومة منذ الشهور الأولى لتنصيبها حينما تقدم باستقالته احتجاجا على مضمون بيان صادر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بمدينة أكادير، والذي رأى فيه قذفا في حق المؤسسة العسكرية المغربية .. وذلك بضغط من "الطابور الخامس" الآنف الذكر، علما بأن المنطق كان يقتضي أن يحتج كبار الضباط آنذاك من رتبة جنرال وكولونيل ضد هذا البيان إذا كان فيه أصلا ما يعيب، وليس أن يصدر الاحتجاج من طرف ضابط صغير الرتبة كالقبطان المدبوح.
لقد كان عمل عبد الله إبراهيم ضمن هذه التركيبة العجيبة قرابة سنة ونصف محفوفا بالعراقيل، ولكن الرجل تابع نشاطه بحمية وحماس معتمدا على ثقة ودعم الملك محمد الخامس، وعلى الحماس الشعبي الكبير الذي كانت قرارات حكومته تحظى به لدى مختلف الفئات الشعبية، وإذا كانت حكومة عبد الله إبراهيم مشكلة من 11 زيرا فإنه كان شخصيا يزاول إلى جانب مهام الرئاسة مهام الداخلية ومهام وزارة الخارجية والإعلام والسياحة عند غياب إدريس لمحمدي خارج البلاد، فكان لا ينام سوى أربع ساعات يوميا، مما أثر على صحته تأثيرا كبيرا جعله يتردد على المستشفيات في ألمانيا بعد إقالته وذلك لفترات طويلة.
- تحدثت عن قرارات وتدابير اتخذت خارج الإطار الحكومي الرسمي ألحقت ضررا فادحا بهيبة الدولة ومصداقية الحكومة، ما هي أبرز تلك القرارات والتدابير؟
+ إن أبرز تلك القرارات والتدابير بتقديري تجلت على الشكل التالي :
- الضغط على وزير البريد القبطان المدبوح، كما ذكرت آنفا، لتقديم استقالته من الحكومة أملا في إسقاطها بشكل كامل، إلا أن الملك محمد الخامس حرص على إفشال هذا المخطط فترك المدبوح وحده ليبقى بدون مسؤوليات حتى أعاده صاحبه ولي العهد إلى وظيفته بعد ذلك جزاءا له، ولكنه سرعان ما سيتآمر على قتل الملك نفسه، بعد ذلك بحوالي 12 سنة.
- في 31 دجنبر 1959 تم اعتقال محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي، وكان الأخير آنذاك رئيس تحرير جريدة "التحرير" والأول مديرها، وذلك بتهمة المس بشخص الملك.
- حل الحزب الشيوعي المغربي يوم 10 فبراير 1960، وذلك في فترة كان رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم في طور توثيق العلاقات مع المعسكر الشرقي سعيا وراء خدمة المصالح العليا للبلاد، فكانت فرنسا وخدامها المحليون يرون في ذلك تهديدا لمصالحهم رغم أن قواتها المسلحة المقدرة آنذاك بحوالي 64 ألف جندي، كانت لا تزال متمركزة في ثكناتها ومواقعها على طول المغرب وعرضه.
- في 14 فبراير 1960 انطلقت حملة اعتقالات واسعة في صفوف قادة المقاومة وجيش التحرير بتهمة اكتشاف ما سمي بـ "مؤامرة"، لاغتيال ولي العهد، وكان المصدر الوحيد لهذا الاتهام هو مقالات جريدة (لي فار)، لصاحبها أحمد رضا كديرة مدير ديوان ولي العهد وقتئذ، إلا أنه تم حفظ ملف النازلة لاحقا نظرا لانعدام الأدلة والشهود، كما قدم شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي استقالته من وزارة التاج احتجاجا على هذه الاعتقالات.
- الزج بالجيش في مواجهات دامية في مناطق الريف، والماس وتافيلات وبني ملال، أزيلال وأمزميز.
- الإقدام على احتجاز الوفد الرسمي الكوبي برئاسة "شي غيفارا" والذي زار المغرب بدعوة رسمية من رئيس الوزراء، عبد الله إبراهيم.
- تضييق الخناق على وحدات جيش التحرير في الجنوب عبر ما يشبه نوعا من التنسيق مع الفرنسيين والإسبان لإلحاق الضربة العسكرية القاضية بهذا الجيش، المعروفة بـ "إكوفيون".
- الإيعاز للجان التحقيق العسكرية المكلفة بإعداد محاضر لمعتقلي أحداث بني ملال ـ أزيلال وأمزيز وتاحناوت بالزج بشخص عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة باعتباره الشخص الذي أوعز لهم بهذا التمرد المسلح، وقد روجت صحافة رضا كديرة وحزب الاستقلال (ما كان يسمى بصحافة المعارضة آنذاك) لهذه "الأسطوانة" وإشاعتها على نطاق واسع ومسايرتها أيضا.
- الاتصال بالسلطات الاسبانية لمطالبتها بتأخير الانسحاب من بعض مناطق الجنوب المغربي، حيث كانت قد تعهدت لعبد الله إبراهيم بالانسحاب منها نتيجة مباحثات مكثفة، وذلك بذريعة أن الحكومة في أيامها الأخيرة، حيث من الأفضل حرمانها من هذا المكسب الهام مادام رحيلها قد أضحى مسألة أيام معدودات، وسيؤدي هذا الموقف المخزني ـ مع بالغ الأسف ـ إلى تأخير هذه الانسحابات لأكثر من عشر سنوات بعد ذلك، حيث إن البعض فضل ترتيب أوراقه على مستوى العاصمة كأولوية مطلقة على حسابات الحدود والجلاء واستكمال تحرير باقي المناطق المحتلة.
- ما هي تداعيات إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم؟
+ كما هو معلوم، رفض عبد الله إبراهيم تقديم استقالة الحكومة، كما طلب منه عبر عدة قنوات كانت تنتهي كلها إلى حلقة فريق ولي العهد آنذاك، لكنه رفض ذلك بدعوى أنه لم يكن يوجد أي سبب منطقي وجيه يدعو إلى الاستقالة لحظتئذ حسب تقديره، فالحكومة كانت تقوم بواجبها أحسن قيام وهي تشعر بأنها في حال الاستقالة ستبدو أمام الجميع بمظهر العاجز غير القادر على متابعة مهامها، والحال أن العكس هو الصحيح، وفي هذا الشأن، كثيرا ما كان الفقيه البصري يقص علينا واقعة مفادها أن الملك محمد الخامس بعث في طلبه عن طريق أحد أقربائه ليؤكد له أسفه البالغ عما حصل واستعداده لإرجاع حكومة عبد الله إبراهيم إلى الحكم لمتابعة نشاطها واستكمال البرامج والخطوات المهمة التي بدأتها، بل أكثر من ذلك أكد جلالته على قبوله فكرة وضع الدستور على يد مجلس تأسيسي وتوفير الضمانات اللازمة لإجراء الانتخابات بعد ذلك في أجواء سليمة ووفق ما كانت تطالب به قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ولكن شريطة أن تتعهد القيادة الاتحادية للملك وبصفة جماعية بالحفاظ على النظام الملكي الدستوري والابتعاد عن أية توجهات جمهورية في المستقبل، ويضيف الفقيه البصري قائلا " لقد جمعت لهذه الغاية، في منزلي بالدار البيضاء، كلا من عبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد عبد الرزاق، علما أن المهدي بن بركة كان وقتها غائبا، بالديار السويسرية، فتقررت الموافقة، على عرض الملك بدون قيد و لا شرط، في حين تحفظ كل من المحجوب بن الصديق ومحمد عبد الرزاق لأسباب غير مفهومة؟!
كما تم تكليف عبد الرحمان اليوسفي بمتابعة هذا الموضوع عن كتب مع الملك محمد الخامس سواء بالرباط أو في سويسرا، حيث كان جلالته يخضع لفحوصات طبية، يضيف الفقيه البصري، لكن لم تنفع مختلف الاحتياطات التي حرصنا على اتخاذها آنذاك لمنع خصومنا المتواجدين في المحيط الملكي من الاطلاع على هذه التحركات وفحوى ما دار في هذا الاجتماع، ذلك أن ممثلي الجهاز "البورصوي" [علاقة ببورصة الشغل] قاموا مباشرة بعد فض الاجتماع "بواجب" التبليغ لفريق ولي العهد الذين ارتبطوا به قبل ذلك بشكل سري كطابور خامس بين ظهراني الجسم الاتحادي، أما تحفظات هؤلاء أثناء الاجتماع، فكان سببها عنصر المفاجأة وعدم توفرهم على تعليمات مسبقة بهذا الخصوص، كما تعودوا دائما، غير أن مواقفهم المخزية عشية المؤامرة المزعومة (16 يوليوز 1963) أسقطت جميع أقنعة الغدر والعمالة.
أما الباقي فقد أضحى معروفا، ذلك أن الوفاة المفاجئة للملك محمد الخامس في تلك الفترة بالذات، قلبت كل الموازين وأعادت كل الحسابات، في أعقاب الرسائل التي وجهها الحسن الثاني إلى رؤساء الأحزاب السياسية والنقابات بعد فشل المحاولة الانقلابية لعاشر يوليوز 1971، طالبا المساعدة للخروج من الأزمة العامة للبلاد والتي زجت بالقوات المسلحة في الميدان السياسي، ففي أعقاب ذلك، دخل عبد الله إبراهيم ورفاقه في الكتلة الوطنية (علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، المحجوب بن الصديق)، الذين هرعوا إلى حوار مكثف مع الملك دام عدة شهور أسفر عن قبول الملك الحسن الثاني مبدأ قيام الكتلة الوطنية بتشكيل حكومة جديدة تلتزم ببرنامج عام، هو نفس برنامج الكتلة الوطنية، بحيث يكون معظم أعضائها ممثلا من طرف الكتلة على أن يترك للملك حق تعيين بعض الأشخاص على رأس بعض الوزارات السيادية.
لقد استمر الحوار مع القصر الملكي على مدى سبعة أشهر (من أكتوبر 1971 إلى أبريل 1972)، كان الملك الحسن الثاني خلالها يكلف أحيانا كلا من أوفقير وإدريس السلاوي وأحمد الدليمي بمتابعة الاتصالات بالنيابة عنه مع الطرف الآخر، لكن الطرفين سرعان ما تحولا في وقت متقدم إلى موقف المفاوض لحسابهما الخاص دون الملك، بل وعلى حساب الملك نفسه!!
لقد أكدت التحضيرات المتعلقة بمحاولة إسقاط الطائرة الملكية، بعد ذلك، في 16 غشت 1972 جانبا هاما من هذه الحقيقة المرة، وقد أشرت إلى ذلك بتفصيل في الطبعة الثالثة لكتابي المعنون بـ "مؤامرة 16 غشت 1972 ضد الحسن الثاني.
ويبدو أن الملك الحسن الثاني كان لا يستهدف من وراء سبعة أشهر من المفاوضات مع الكتلة، التي كان خلالها يلوح بمنصب رئاسة الحكومة، مرة لعبد الله إبراهيم وأخرى لعبد الرحيم بوعبيد، حيث لا يستهدف سوى ربح بعض الوقت لإعادة ترتيب أوضاعه الداخلية، لاسيما في صفوف الجيش والأمن والمخابرات بعد الهزة العنيفة التي مست كل مفاصل الدولة المغربية بعد انقلاب 10 يوليوز 1971.
هكذا تراجع الملك الحسن الثاني عن كافة تعهداته، ليكلف صهره ومدير ديوانه أحمد عصمان (الملقب بالأمير الصغير آنذاك) بإبلاغ الكتلة الوطنية وقف الحوار بشكل مفاجئ من طرف واحد (القصر) وعزمه على تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة كريم العمراني.
ولعل هذا الموقف المتشدد من طرف الملك هو ما كان الانقلابيون الجدد يبحثون عنه لمعاودة الكرة من جديد، فهذا الموقف في نظرهم، سينظر إليه من كافة الزوايا والمستويات، بمنظار عزلة النظام السياسي في المغرب وافتقاده إلى السند الشعبي اللازم، ليبقى التساؤل الكبير مطروحا بقوة، حيث يبدو بأن الإجابة عليه ستبقى في رحم الغيب، ترى لو سار الملك الحسن الثاني مع الكتلة الوطنية على مسار ما أسلفنا ذكره، هل كان الانقلابيون سيجرؤون على الإعداد لمغامرة عسكرية جديدة؟
- في تقديرك، ما هي أهم منجزات حكومة عبد الله إبراهيم؟
+ على امتداد حوالي 520 يوما من عمر هذه التجربة الطلائعية في تاريخ المغرب الحديث يمكن رصد مجموعة من المحطات:
- تسريع إيقاع جلاء كافة القوات الأجنبية عن البلاد، إذ دخل عبد الله إبراهيم في مفاوضات مباشرة قادته إلى مفاوضة الجنرال إيزنهاور بعد إقناعه بأن لا حق للحكومة الفرنسية في بيع قواعد ومنشآت للأمريكيين باعتبارها كانت سلطة احتلال.
- مباشرة مخطط واسع للإصلاح الزراعي عبر بناء صناعة للحديد والفولاذ ونزع الضيعات المستغلة من طرف الفرنسيين وإنشاء تعاونيات كبرى.
- تطهير الإذاعة الوطنية من الأجانب.
- الفصل مع الفرنك الفرنسي وإنشاء بنك مركزي مغربي وصندوق للإيداع والتدبير وبنك للاستثمارات الوطنية وصندوق للتوفير.
- تسريع المباحثات لبناء المغرب العربي الكبير باستضافة مؤتمرين في كل من طنجة والرباط ومواصلة دعم الثورة الجزائرية على كافة المستويات.
- نشر الأمن في مختلف مناطق البلاد، بإقناع حملة السلاح بالتفاوض وإلقاء السلاح.
- العمل على تعريب وتوحيد ودمقرطة التعليم.
- العمل على وضع اتفاق للتبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إيزنهاور.
- تأطير عقلاني لمندوبية المقاومة وأعضاء جيش التحرير في اتجاه تكريم المجاهدين والمقاومين الحقيقيين ومعارضة مدعي المقاومة.
- تحديد اختصاصات وزارة الداخلية ومديرية الأمن.
- وضع المخطط الخماسي للفترة الزمنية من 1960 إلى 1965.
- اتخاذ قرار شجاع بصرف كل المتعاقدين الأجانب العاملين في أجهزة الجيش والأمن والمخابرات قبل مستهل يوليوز 1960.
وإذا كانت حكومة عبد الله إبراهيم قد شكلت تجربة نموذجية خلال فجر الاستقلال، فإن خصومها العديدين حاصروها من كل جانب وأضاعوا على المغرب ما يناهز نصف قرن، دخلت فيها مرغمة مرحلة "التيه" الدستوري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي..
- أثارت بعض الجهات تشنج علاقتك بعائلة عبد الله إبراهيم بعد نشر مؤلفك المعنون بـ "سنوات الصمود وسط الإعصار"، ماذا تقول بهذا الخصوص؟
+ للأسف الشديد، كان الأمر متعلقا بمجرد سوء تفاهم مع أحد أفراد عائلة المرحوم،وكل ما في الأمر أنني قمت بصدق وأمانة بتنفيذ توصية غالية من طرف المرحوم عبد الله إبراهيم، مفادها "اتهلا في هاد العمل... وعنداك ضيعو ... والله غادي يجازيك"، حيث يبقى أن كل ما قمت بنشره هو عمل نضالي بالدرجة الأولى وليست له أية صبغة تجارية، ولعل بيانات شركة "سبريس" للتوزيع أبلغ دليل على ما أقول، إذ يمكن لأي أحد الإطلاع عليها.
ومهما يكن من أمر إن علاقتي بأسرة الفقيد جيدة وألبي كل دعواتها بحضور المناسبات التي تنظمها، كما نتبادل دوريا تهاني الأعياد والمناسبات الدينية، وآخرها كان خلال رمضان وعيد الفطر.
التعليقات (0)