إيلاف" تفتح ملف الذاكرة المرئية في العراق، وتستجلي أسباب فقرها وقصورها
حاوره عدنان حسين أحمد من لندن: تشكّل الذاكرة الثقافية رصيداً بالغ الأهمية لأي شعب من الشعوب، فكيف اذا كان الأمر يتعلق ببلد عريق ذي حضارات متعددة وموغلة في القدم مثل العراق. ولأن الذاكرة الثقافية مفردة واسعة وعميقة الدلالة، وتضم في طياتها الذاكرة المرئية والمسموعة والمكتوبة، إلا أن استفتاء "إيلاف" مكرّس للذاكرة المرئية فقط، والتي تقتصر على السينما والتلفزيون على وجه التحديد. ونتيجة للتدمير الشامل الذي تعرضت له دار الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسة السينما والمسرح، بحيث لم يبقَ للعراق، إلا ما ندر، أية وثيقة مرئية. فلقد تلاشى الأرشيف السينمائي العراقي بشقيه الروائي والوثائقي. وعلى الرغم من أن السينما العراقية لم تأخذ حقها الطبيعي على مر الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، كما لم يحضَ السينمائيون العراقيون بأدنى اهتمام من مختلف الحكومات العراقية التي كانت منشغلة بموازناتها السياسية، وبأرشفة أنشطتها المحدودة التي لا تخرج عن إطار الذات المرَضية المتضخمة. وقبل سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد كان السينمائيون العراقيون يعلِّقون الآمال على حكومة العراق الجديد التي تمترست خلف أطاريح الديمقراطية، والتعددية السياسية، والتناوب السلمي على السلطة من دون انقلابات أو ثورات يفجرها مغامرون عسكريون مصابون بعقدتي السجادة الحمراء والموكب الرئاسي، غير أن واقع الحال يكشف، خلافاً للتمنيات المعقودة، بأن نصيب الذاكرة المرئية من الرعاية والاهتمام يكاد يكون معدوماً، بل أن بعض السينمائيين العراقيين قد بات يخشى من تحريم هذا الفن الرفيع أو اقامة الحد عليه. لقد عنَّ لـ "لإيلاف" أن تثير خمسة محاور أساسية في محاولة منها لاستجلاء واقع السينما العراقية عبر تفكيك منجزها الروائي والوثائقي على قلته، ورصد حاضرها المأزوم، واستشراف مستقبلها الذي نتمنى له أن يكون مشرقاً وواعداً بحجم تمنيات العراقيين وتطلعاتهم نحو حياة حرة، آمنة، مستقرة، كريمة.
أسئلة الملف السينمائي
1- على الرغم من غنى العراق وثرائه الشديدين، مادياً وبشرياً، إلا أنه يفتقر إلى الذاكرة المرئية. ما السبب في ذلك من وجهة نظرك كمخرج "أو ناقد" سينمائي؟
2- أيستطيع المخرجون العراقيون المقيمون في الداخل أو المُوزَعون في المنافي العالمية أن يصنعوا ذاكرة مرئية؟ وهل وضعنا بعض الأسس الصحيحة لهذه الذاكرة المرئية التي بلغت بالكاد " 105 " أفلام روائية فقط، ونحو 500 فيلم من الأفلام الوثائقية الناجحة فنياً؟
3- فيما يتعلق بـ " الذاكرة البصرية " كان غودار يقول " إذا كانت السينما هي الذاكرة فالتلفزيون هو النسيان " كيف تتعاطى مع التلفزيون، ألا يوجد عمل تلفزيوني ممكن أن يصمد مدة عشر سنوات أو أكثر؟ وهل كل ما يُصْنَع للتلفاز يُهمل ويُلقى به في سلة المهملات؟
4- كيف نُشيع ظاهرة الفيلم الوثائقي إذاً، أليس التلفاز من وجهة نظرك مجاله الحيوي. هناك المئات من الأفلام الوثائقية التي لا تحتملها صالات السينما، ألا يمكن إستيعابها من خلال الشاشة الفضية؟
5- في السابق كانت الدكتاتورية هي الشمّاعة التي نعلّق عليها أخطاءنا. ما هو عذرنا كسينمائيين في ظل العراق الجديد؟ وهل هناك بصيص أمل في التأسيس الجدي لذاكرة بصرية عراقية ترضي الجميع؟
فيما يلي الحلقة السادسة التي يجيب فيها الناقد السينمائي عبد الرحمن الماجدي على ملف السينما العراقية.
عبد الرحمن الماجدي: العرب يقتلون السينما بالتلفزيون
إرث من النكات
1- حسب مافهمته من السؤال فإن الذاكرة المرئية موجودة ما وجدت التقنية الصانعة لها والأحداث التي توثِّقها. ولا يخلو العراق من ذاكرة مرئية حتى الآن، فهي موثّقة بما تبقى من أشرطة فلمية بغض النظر عن التقيّيم الفني والتقني لها.
أما إن كان السؤال يشير الى ذاكرة سينمائية فعلينا أولاً أن نثبت وجود سينما عراقية بالمعنى الدقيق للكلمة لنبحث بعد ذلك عن ذاكرة سينمائية. فالسينما كفن يشترط توفر المبدع المؤهل لصناعته إضافة الى الحرية كمقوِّم أولي لممارسته، وبانتفائهما ستبدو المحاولات التي تسمي نفسها "سينما" عبارة عن نكتة. ولدينا نماذج من هذه النكات في ذاكرة "السينمائيين" العراقيين التي لا زال كثير منهم يتباهى بها كإرث كبير، يبدو الآن كإرث من النكات!
أما الثراء فهو عامل مهم طبعاً لصناعة سينمائية، لكنها ليست كل شيء، ومثلها الثراء البشري ولدينا نماذج من الدول الثرية التي باتت أمثولة سهلة للفشل الذهني وتحولها لكائنات مستهلكة.
إنما في العراق يمكننا النظر بتفاؤل للمستقبل بسبب وجود كم نوعي من الطاقات البشرية التي لديها أحلام وخطط مستقبلية على مستويات شتى بما فيها السينما. وعلينا الانتظار لنر إن تحقق ربع تلك الاحلام التي نسمعها من مخرجين في الداخل والخارج حد المبالغة في سردها المتكرر فان تحقق هذا الربع منها ستكون هناك سينما عراقية بالمعنى الاحترافي للكلمة. ولنا في تجربة مخرجين هم محمد الدراجي روائياً، وسمير تسجيلياً، مع بعض الملاحظات التي لا تخلو منها أية تجربة فنية، مبعثاً للتفاؤل في التأسيس مستقبلاً لصناعة سينمائية عراقية.
النأي عن المنزلقات السياسية
2- يستطيعون إذا توفرت الشروط التي أشرنا اليها قبل قليل، لكن علينا الانتباه لظاهرة أصبحت كموضة يكاد يمارسها كل من يمتلك كاميرا فيديو منزلي مستسهلاً ما يُقَدم الآن باعتباره فناً سينمائياً في مهرجانات لا علاقة للقائمين عليها بالسينما بقدر ما تكون علاقتهم بجمع أكبر كمية من المال من صناديق الدعم الغربية، وحشد مقربين منهم وتقديمهم بوقاحة كسينمائيين. فيما لا يحسن أحدهم كيفية مسك كاميرا فوتوغراف بطريقة صحيحة ناهيك عن كاميرا الفيديو.
ولو دققنا مايُقدم في هذه المهرجانات لا نكاد نجد سوى القليل مما له علاقة بالسينما تقنيا وفنيا. اذ غدت الريبورتاجات الفيديوية المشغولة بجهل تقدم كأفلام سينمائية تسجيلية والكارثة أن بعضها ينال جوائز من تلك المهرجانات.
وقد أُقيم عدد من المهرجانات مؤخراً في العراق مرتْ من دون أن تثير أي اهتمام. فلا القائمين عليها ولا من شارك فيها ولا ماعرض فيها له علاقة بالسينما.
سألت عام 2002 أحد هؤلاء وهو اليوم يقدم كمخرج سينمائي عن سبب تمسكه بتقنية الفيديو وإصراره على أن يكون المخرج والسينارست والبطل والمنتج والمصور والمونتير فأجاب بأنه غير مضطر لجمع كادر من المساعدين من أجل إخراج فيلم سينمائي في وقت توفر له الكاميرا اليدوية وجهاز الكمبيوتر كل شيء! مع العلم أنه يصر على تسمية ما يقدمه أفلاماً روائية.
إذا تجاوزنا هذه الظاهرة يمكن فرز ما تبقى من القليل الذي يمكننا الاعتماد عليه في وضع الأسس الصحيحة لذاكرة سينمائية عراقية. أما الـ 105 أفلام روائية فهل تتوفر على مقومات الفيلم السينمائي الحرفي؟ لنأخذ فيلم "الحارس" أو "سعيد افندي" أو "من المسؤول؟" أو فيلم "بيوت في ذلك الزقاق" أو "القادسية" أو "الايام الطويلة" أو "فائق يتزوج" أو "حمد وحمود" أو "الفارس والجبل" أو"الرأس" أو "اللوحة" أو "البندول" وغيرها من أفلام مشغولة بتقنية مرتبكة وبلغة لا تخلو من فجاجة وتعبوية، ومشاهد تجتهد لتقدم كل ما ليس له علاقة بالفن السينمائي. فاذا اتكأنا على هكذا إرث سنجني على طلاب السينما في العراق الجديد.
أما الأفلام الوثائقية فللعديد منها ميزة الافلات مما سقطت فيه الروائية. فكانت هناك أفلام وثقت أحداثاً مهمة من تاريخ العراق ومعالمه وسجلت لظواهر مر بها العراقيون خلال القرن الماضي.
يستطيع المخرجون العراقيون التأسيس لإرث سينمائي للاجيال القادمة إذا كانوا يؤمنون بالسينما كفن راق وصناعة، وليس رسالة تعبوية أو تهريجية. فهي بالتأكيد صناعة صعبة لا يتأتى للجميع إتقناها. وإذا نأوا بأنفسهم عن التورط في منزلقات السياسة كما حصل لصناع أفلام فلسطينيين لم يقدموا حتى الآن أي فيلم يخلو من مقولة العدو الاسرائيلي والفلسطيني المظلوم. وثمة مثل قريب لنا في ايران. فبعد الثورة الاسلامية عام 1979 وفرضها قيود اجتماعية معينة وحربها مع العراق ومعاداتها لأميركا، لكن صناع السينما في إيران نأوا بأنفسهم عن تلك المنزلقات وتجاوزوا بكاء قوانين التشدد التي يفرضها النظام الديني هناك، وإستطاعوا أن يثبتوا وجودهم عالمياً كمبدعين. أرجو أن لا تصح مقولة أن لدينا مخرجين منظرين كثيرين في السينما ولا يوجد مخرج فاعل واحد.
تشويه الكائن الجميل
3- لنبدأ من نهاية السؤال؛ فليس كل ما يُصنع للتلفاز مكانه سهلة المهملات. ولدينا شواهد تلفازية مازالت ماثلة منذ سنوات كثيرة، ميزة نجاحها أنها صنعت للتلفزيون وصُنعت بحرفة جميلة كـ"الذئب وعيون المدينة" و "النسر وعيون المدينة" و "أعماق الرغبة" و "نادية" و "عبود يغني" و "تحت موس الحلاق" إذ ساهمت في تشكيل ذاكرة أجيال عراقية، لكن المشكلة حلت بعد الانفجار التلفزيوني وظهور الفضائيات التي حاولت وتحاول عربياً محو الفن السينمائي والسعي لامتلاك مسمياته كأن يدعى الريبورتاج التلفزيوني فيلماً وثائقياً وزجه مع أفلام سينمائية وثائقية لمنحه شرعية سينمائية. والغاية من كل ذلك- كما يرى المخرج ناصر خمير- للاجهاز على السينما لخطرها وكره السياسي العربي للسينما، وافهام المواطن العربي أن التفزيون هو بديل نموذجي لها. وهي خطة تبدو ممهدة لاغلاق أي دار عرض سينمائي مستقبلاً من أجل خلق أجيال كسولة تعتمد في متعتها ومعلوماتها وبحثها من جهاز التلفاز فقط. وهو جهاز لا يبتعد عن سطوة ما للسلطة عليه. وقد جرت عملية تشويه لهذا الكائن الجميل "التلفزيون" وتوريطه بقتل أية رغبة سينمائية حقيقية في العالم العربي. لو نظرنا لواقعنا العربي والعراقي خاصة لرأينا صدق مقولة غودار في التلفزيون حيث تجري عمليات محو للسينما بالقوة مع ركض باتجاه التلفزة حتى من قبل القوى الدينية التي تؤطر اليوم الواقع العربي بشكل عام، وكانت تنظر للتلفزيون نظرة ريبة وتحريم. ولو تأملنا لما يجري لرأينا سعياً حثيثاً لتأسيس فضائيات تلفزيونية باستمرار مع إهمال مستمر لدور العرض السينمائي.
العراق المشرذّم
4- ولمَ يقترن لدينا الفيلم الوثائقي بالتلفزيون؟ نشاهد أفلاما وثائقية في دور عرض سينمائية أوروبية وتحظى بأعداد من المشاهدين الذين يدفعون مالاً لأجل ذلك، بل ويوجد مخرجون عرفوا بصناعة أفلام وثائقية فقط لا تكتمل جماليتها الا بالعرض في دار سينما. فافضل فيلم وثائقي أنجز لحد الان حول العراق منذ عا م 2003 وهو فيلم (العراق المشرذّم) للمخرج الاميركي جيمس لونغلي نقله المخرج على شريط 35 مليم وحين تسأله عن ذلك قد يستغرب من السؤال فهو مخرج سينمائي لا تلفزيوني وإن اضطر لاستخدام كاميرا تلفزيونية فبسبب ظروف التصوير وخطورة عمل فيلم في مكان مثل العراق، لكن التقنية السينمائية توفر لك نقله لشريط سينمائي.
لا أدري لمَ نصر على تسمية الريبورتاج التلفزيوني أو التمثيلية التلفزيونية بالافلام السينمائية؟ وهي كما ورد في السؤال لا تحتملها صالات العرض السينمائي فلماذا نحشرها بهذا الشكل ونسيء للفن السينمائي، ونظلم التلفزيون الذي يمكن انجاز أعمال خاصة به؟
نعود للمهرجانات العربية التي أحمِّلها معظم ما يحصل من خلط بين السينمائي والتلفزيوني اذ يصل الامر في بعضها الى عرض تجارب لا تصلح تقنيا حتى للعرض المنزلي!
السينما صناعة وفن
5- ثمة بصيص أمل إنما بذاكرة سينمائية لن ترضي الجميع بالتاكيد، فالسياسي الذي يهيمن على واقعنا اليوم لن يتخلى بسهولة عن هذه الهيمنة التي يتغذى من الرعية الخانعة في ديمومته كمتسلط. وهو استمرار للدكتاتورية الفردية السابقة إنما هو اليوم يبدو بشكل جماعة تسعى لفرض سلطتها. ملامح الواقع بعد ست سنوات في العراق الجديد تدل على سعي للتخلص من السلطة الجماعية الجديدة. وهو سعي وإن مشى ببطء إنما يمكن حثه وتحريضه بزق الوعي الضروري في ذهنه. غير ذلك فمن أجل تأسيس ذاكرة سينمائية حقيقية علينا العمل على إفهام دارس السينما بأنها صناعة وفن، وليس رسالة تعبوية وطنية وقومية وربما دينية. وإسمح لي هنا الاتيان بمثل من الشعر فللشاعر كافافي قصيدة مهمة بعنوان "الخطوة الأولى" تتضمن مقاطعها درساً في الفن بشكل عام وهي عن شاعر شاب إسمه أومينيس جاء بقصيدة لاستاذه ثيوكريتس راجياً منه أن يتساهل معه في النقد لأنه لا زال في البداية: " أنا أكتب منذ عامين، ولم أُتم الا قصيدة رعوية بسيطة. وهي عملي الوحيد الذي أكملت. آه .. كم هو عال ٍ سلم الشعر! فيجيبة ثيو كريتس: كلماتك هذه ذميمة غير لائقة/ فحتى لو كنت في الخطوة الاولى.. عليك أن تكون سعيداً بها، وفخورا/ إن مكانك ليس سبيلاً ضئيلاً.. حتى هذه الدرجة متسامية كثيراً عن العالم العادي، ولأجل أن تضع قدميك فوق هذه الدرجة عليك أن تكون، ولك الحق في أن تكون مواطناً في مدينة المُثل.. ومن الصعب والنادر في هذه المدينة أن تمنح حق الاقتراع. في تلك الجماعة ستجد المشرعين الذين لايخدعهم مغامر.." هؤلاء النقاد الذين لا يستطيع مغامر في الشعر خداعهم صنعوا شعراء بكل ما في الكلمة من معنى. فهل نستطيع بمثل هذا الدرس الكافافاي تقبل نقدا قاسياً غير مجامل من أجل صناعة سينمائية حقيقية في العراق؟ في الوقت الحاضر أشك في ذلك كثيراً، إنما الرهان على المستقبل الذي، برأيي، لو طبقناه ربما لوفرنا الظروف لظهور مخرج عراقي بموهبة ناصر خمير التونسي وشادي عبد السلام المصري. وإن أشك برؤيته قريباً.
السيرة الذاتية والإبداعية لعبد الرحمن الماجدي
ولد عام 1965 على الأرجح
تخرج في كلية اللغات - جامعة بغداد عام 1989
عمل كمترجم في دار ثقافة الأطفال عام 1989
غادر العراق عام 1992
أقام في دمشق نحو أربع سنوات عمل خلالها في الصحافة العراقية في الخارج.
غادر الى هولندا عام 1997 حيث يقيم الآن.
شارك في تغطية العديد من المهرجانات السينمائية العربية والدولية.
عمل في اذاعة هولندا العالمية ووكالة أنباء نيوزماتيك ومازال يعمل في موقع إيلاف كنائب مدير التحرير.
صدر له:
ممالك لغد حيران عام 2002
المعنى في الحاشية 2005
تحت الطبع:
ليس كل الأحلام قصائد "ترجمة" سيصدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة
أحسن القصص "ترجمة"
ديوان "حروب أبجدية" مخطوط
إيلاف 10 مايو 2009
التعليقات (0)