عبد الحميد الديب - شاعر البؤس
بقلم : حسن توفيق
الناس كما يقال أجناس ففيهم طيبون وخبثاء وفيهم من تحب عشرتهم، ومن تهرب منهم منذ أول لقاء وفيهم كرماء يتصفون بالجود والسخاء، ومقابل هؤلاء هناك ناس بخلاء، وقد تصادف أن لبى الضيوف دعوة للغداء من أحد هؤلاء الذين يعشقون البخل، فظل هذا البخيل يتحدث معهم أحاديث طويلة، ويقعد أحيانا وسطهم، ثم يقوم من مكانه فجأة، فيتصور الضيوف أن المائدة قد أُعدت، وأنهم على وشك أن يلتهموا ما لذ وطاب، وظل الحال على هذا المنوال، فاغتاظ أحد الضيوف، وقال على الفور للرجل البخيل :
يا قائماً في داره قاعداً
من غير معنى لا ولا فائدة
قد مات أضيافك من جوعهم
فاقرأ عليهم سورة المائدة
الضيوف بالطبع لم يموتوا، ولكنهم انصرفوا مغتاظين، ونادمين على ما أضاعوه من وقت في بيت هذا البخيل، وفي الطريق التقى هؤلاء مع «أبي الصلت» وكان بيته قريباً، فدعاهم إليه، وظل يتحدث هو الآخر، دون أن يهتم بحكاية الجوع الذي يستبد بمن دعاهم، وفي خاتمة حديثه نصحهم جميعاً بألا يأكلوا غير وجبة واحدة في اليوم، والأفضل أن تكون وجبة عشاء خفيفة، حرصاً على سلامة معدة كل منهم، وخوفاً عليهم مما تجلبه التخمة من متاعب صحية، ولم يجد «حماد بن جعفر» وكان واحدا من الجائعين ما يقوله لمن دعاهم إلا قوله :
حديثُ أبي الصلت ذو خبرةٍ
بما يُصلح المعدة الفاسدة
تخوَّف تخمة إخوانِه
فعوَّدهم أكلةً واحدة
إذا كان هذان البخيلان من الذين يبخلون على سواهم من الآخرين، فإن هناك من هم أشد بخلاً منهم، وهم أولئك الذين يبخلون على أنفسهم، وقد رأى «ابن الرومي» واحداً من هؤلاء وهو المدعو عيسى يحاول أن يتنفس من منخر واحد، بدلا من منخريه الاثنين، لكي يوفر الهواء الذي حوله، ولا يستخدمه إلا للضرورة القصوى، وبالطبع فإن ابن الرومي تـملكه الغيظ من هذا البخيل حتى على نفسه، فهجاه على الفور قائلا :
يقتِّرُ عيسى على نفسه
وليس بباقٍ ولا خالدِ
ولو يستطيع لتقتيره
تنفَّسَ من منخرٍ واحدِ
وفي بعض الأحيان، يشعر البخلاء بالندم، حين يرتكبون «جريمة» الكرم، وهذا الشعور بالندم يدفعهم إلى قطع علاقاتهم مع الذين كانوا قد دعوهم للغداء، لأن هؤلاء المدعوين هم الذين تسببوا فيما جرى، والمثال الواضح لهؤلاء يتجلى في شخص «عمرو» وهو «عمرو» آخر غير الذي هجاه ابن الرومي، وشبه وجهه في الطول بأنه مثل وجوه الكلاب، وإن كانت الكلاب وفية ومخلصة، لقد تنكر هذا الشخص المدعو «عمرو» لصديقه، وقاطعه نهائياً لمجرد أنه لبى دعوته للغداء، رغم أن هذه الدعوة كانت دعوة يتيمة لم تتكرر أبداً :
خان عهدي «عمروُ» وما خنتُ عهدهْ
وجفاني وما تغيرت بعده
ليس لي ما حييت ذنبٌ إليه
غير أني يوماً تغديتُ عندَهْ
لم يكن الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي بخيلا طيلة حياته، لدرجة أنه كان يدفع ثمن الدواء لمرضاه الفقراء، بل كان يساعد المحتاجين بانتظام، كما أنه كان إنسانا رقيقا عذبا، ومع هذا كله فإنه خرج عن رقته وعذوبته، بعد أن غاظه «عبدالحميد» بكثرة مطالبه التي لا تنتهي، فمرة يطلب منه ثمن الغداء لأنه جائع، ومرة يعود إليه شاكيا من أن النقود التي حصل عليها منه قد ضاعت أو «سقطت سهوا» كما يقال في لغة الصحافة «ولذا لزم التنويه» بأنه محتاج إلى نقود أخرى بدل التي ضاعت، ولما فاض الكيل بإبراهيم ناجي خرج كما قلت عن رقته، واندفع يهجوه هجاء مقذعاً على نحو ما رأينا من قبل، حيث أكد أنه فخر «داروين» وخلاصة نظريته القذرة التي تؤكد أن الإنسان في الأصل كان قرداً .
لم يحصل «عبدالحميد» من ناجي هذه المرة إلا على أبيات في هجائه، وفي الطريق مر على المقهى، فاستمع إلى صيحات الشامتين وتهجم المتهجمين، وهكذا ضاقت الدنيا واسودت في عينيه، ورأى أن يبادل الناس عداوة بعداوة :
أمر على المقهى فأسمعُ شامتاً
يمزق في عرضي وآخر يشفعُ
وقد ساء ظني بالعباد جميعهم
فأجمعتُ أمري في العداء وأجمعوا
أظن الآن أن كثيرين قد عرفوا أن قائل هذين البيتين هو عبدالحميد الديب الذي لم يكن في أحيان كثيرة يجد أي مأوى ينام فيه حين يريد النوم فكان يدخل في قلب مواسير المجاري التي يستعد العمال لتركيبها ووضعها في الأماكن المخصصة لها ، أما أصدقاؤه من الشعراء الأثرياء فإنهم كانوا يحاولون إثارته وإغاظته في سهراته معهم لكي يظفروا بقصائد هجاء ضدهم تنطلق ارتجالا كطلقات مدفع رشاش من حنجرة صديقهم الجائع والفقير الذي لم يحصل بالطبع على أية جائزة أدبية طيلة حياته لكنه حصل من الجميع على لقب شاعر البؤس، وهذا بعض مما قاله عبد الحميد الديب مصورا محنته ولكني قمت بتغيير عدة كلمات ، رأيت أني لن أستطيع كتابتها كما قالها صاحبها :
أردنا أن «نصيدَ» بك الليالي
«فصادتنا وسهمُ» الدهر أكبرْ
وهامَ بيَ الأسى والبؤسُ حتى
كأني «عبلةٌ» والبؤسُ عنتر
كأني حائطٌ كتبوا عليه
هنا يا أيها المزنوقُ طَرْطَرْ
التعليقات (0)