عبدالمومن الديوري شبل ابن أسد
ظل واقفا صامدا بتصميم إلى أن غادر الحياة
غادرنا مؤخرا أحد أبرز معارضي النظام – عبد المومن الديوري- بعد إصابته بمرض عضال منذ سنوات، و عاش عقودا من الزمن في المنفى قبل عودته إلى الوطن. رقد الراحل بمصحة بالرباط في وضعية صحية جد متدهورة ،وصارع لوحده في صمت داء السرطان الذي استوطن جسده دون سابق إنذار. ووافته المنية يوم الأربعاء 16 ماي في مدينة الرباط عن عمر 74 سنة بعد أن دخل في غيبوبة. وكان كل من عبد الرحمان اليوسفي وبنسعيد أيت إيدر آخر من زاره . وري جثمانه بثرى مدينة القنيطرة مسقط رأسه حيث كان يقطن والده الشهيد محمد الديوري.
ويُعد عبد المومن الديوري المناضل اليساري، من أبرز المعارضين لحكم الحسن الثاني وأبرز الجيل الأول من قيادات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأحد رفاق بنبركة وعمر بنجلون وتشي غيفارا والفقيه البصري واليوسفي وشيخ العرب وبن بلا وغيرهم. قضى نصف عمره معارضا للملك الراحل الحسن الثاني، والنصف الآخر في المنفى، قبل أن يعود إلى أرض الوطن في سياق تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وطي صفحة الماضي الأسود لبناء مغرب أفضل.
هذا الشبل من ذاك الأسد
إن المناضل عبد المومن الديوري الذي رفض الخضوع لتهديدات الجنرال أوفقير له داخل السجن هو ابن المجاهد محمد الديوري أحد رواد الحركة الوطنية، وأحد الموقعين على وثيقة الاستقلال، الذي رفض الخضوع لتهديدات الباشا " الكلاوي"،أكبر عملاء الاستعمار الفرنسي في تاريخ المغرب، ولم يعرف الرجلان- الأب والابن- أيّ خوف من التهديد بفصل الرأس عن الجسد تنكيلا بهما لقناعاتهما الراسخة بواجب التضحية من أجل الوطن.
سماه والده عبد المومن، يوم العقيقة المحتفى بها بـالقنيطرة ذات يوم من أيام شتاء سنة 1938. و كان الوالد- الشهيد محمد الديوري- قد اختيارلنجله هذا الاسم تذكيرا وتجسيدا لمعاناته بسجن علي مومن الفلاحي –السيء السمعة- الذي قضى به ورفاقه ردحا من الزمن عقابا لهم على الاحتجاج ضد السياسة الاستعمارية ورفضا للظهير البربري . هكذا ارتبط اسم الصبي بالسجن كضريبة لاستحقاق الكرامة والعزة و استقلال توقا لمغرب أفضل.
ومن الموقع الطلابي ، خاض الشاب عبد المومن كفاحات آخر الخمسينات منذ التحاقه بباريس للدراسة سنة 1957 ثم بسويسرا سنة بعد ذلك حيث كان يدرس العلوم السياسية، ومن هناك، التحق بمواقع الكفاح في صفوف الثورة الجزائرية بتوجيه من المهدي بنبركة.
كان الشاب عبد المومن، وهو في سويسرا، يجمع بين متابعة دروسه ومتابعة توجيهات رفيقه و أستاذه بنبركة في تنسيق العمل بين ثوار الجزائر والثوار الأمميين وباقي فعاليات الكفاح التحرري ، لاسيما في الأقطار الإفريقية. وسيكون لحسن أداء التكليفات آثاره فيتم تحميل الشاب عبد المومن مسؤوليات أكبر - بعد لقائه أعضاء من الحكومة الجزائرية ا المؤقتة- كمفوض باسم جبهة التحرير الجزائرية بكل من سويسرا، فرنسا، ألمانيا و بلجيكا ثم ما لبث أن التحق بالجزائر كمنسق للولايات.
بداية المحن وأداء الضريبة
صادفت عودة عبد المومن انطلاق مرحلة "الحكم الفردي المطلق"، بإدارة أحمد رضا كديرة، أو "ظل مولاه" بتعبير بنبركة، الذي احتكر في آن واحد، منصب الرئيس القانوني للحكومة، والمدير العام للديوان الملكي، ومدير ديوان رئيس الحكومة –الملك آنذاك-ووزيرا للفلاحة، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للداخلية، ووزيرا للخارجية بالنيابة. وبتنفيذ أذرع الاستعمار وقدماء الضباط في الجيش الفرنسي كأوفقير وأحرضان و الدليمي وغيرهم. وسيقع عبد المومن في قبضة هؤلاء الضباط، ليصبح فريسة للحقد والضغينة وستشكل تجربته، إلى جانب الفقيه البصري وعمر بنجلون ، واحدة من أفظع المحطات للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على يد كبار جلادي الكاب1 ودار المقري.. فعند اختطافه سنة 1963، وبعد التحقيق معه في الثكنة الأمريكية بالقنيطرة، تم نقله إلى المعتقل السري دار المقري، مورس عليه مختلف أنواع التعذيب لحمله على الشهادة ضد قيادة الاتحاد للإقرار بمؤامرتها ضد النظام والملك ، وحتى لا يتم ترك أي هامش لأي تردد، فإن الجنرال أوفقير فرض على عبد المومن، من باب الترهيب، معاينة مما ينتظره في حال التراجع عن الشهادة أمام القاضي.. جعله أوفقير يعاين بقر بطن الضابط الوطني الصقلي المعلق من رجليه بواسطة سكين بيده وبشكل جعل أمعاءه تندلق على وجهه.
أوهم الديوري الجنرال أنه موافق لكنه فجر خلال المحاكمة قنبلة من العيار الثقيل عندما نودي عليه كشاهد ضد رفاقه الاتحاديين ليقول أمام المحكمة إن أوفقير ساومه بالاعتراف ضد رفاقه من أجل وقف التعذيب الشديد الذي كان يخضع له المعتقلون.
آنذاك كانت الحكومة وصحافتها قد رتبت كل شيء لإدانة قيادة الاتحاد، بناء على التزام عبد المومن بـ "الاعتراف" بتورط القيادة في المؤامرة ضد الملك. لكن الديوري صرح قائلا: "نعم سيدي الرئيس إن هناك مؤامرة كبرى لكنها ليست ضد الملك وإنما ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقيادته ومناضليه"، وبذلك انقلب السحر على الساحر. فكان طبيعيا ألا يكون الحكم أقل من حكم الإعدام له و لرفيقيه الفقيه البصري وعمر بنجلون. سيقضي بالسجن، في حي الإعدام بالسجن المركزي بمدينة القنيطرة حوالي سنتين، وقبل مدة قصيرة من إعدامهم، اندلعت أحداث الدار البيضاء 23 مارس 1965 واضطر النظام إلى إلغاء أحكام الإعدام ثم إخلاء سبيل المحكومين . ويحكى أن الديوري اقترح على رفاقه رفض الخروج من السجن على إثر العفو الصادر في حقهم حتى لا يسهم ذلك في تخفيف الخناق على النظام.
خبر السجون والمعتقلات السرية
تعرض طوال حياته النضالية الى السجون قبل ان يلجأ الى الخارج متزعما عدة حركات معارضة للملك الحسن الثاني بعد الحكم عليه بالإعدام بتهمة محاولة اسقاط نظام الحكم خلال المحاكمة الشهيرة للاتحاديين التي اشتهرت بـ "مؤامرة 1963"، والتي حكم فيها أيضا بالإعدام على المهدي بنبركة وعبدالرحمان اليوسفي وعدد كبير من القادة الاتحاديين.
خرج عبد المومن الديوري من السجن، واكتشف أن رفيقه ومثله الأعلى -شيخ العرب ( أحمد أكوليز) قتل، وهو في السجن تم اختطاف وتصفية، بعد ذلك، رفيقه المهدي بنبركة (29 أكتوبر 1965) بالديار الفرنسية. ولما اشتد القمع، شد الرحال سنة 1971 إلى فرنسا. وهناك، تزوج ابنة أحد قادة الثورة الفيتنامية، لينجبان أمين، و صاحب بعد ذلك الثائر شي غيفارا في جولة في البلدان الإفريقية لخدمة الثورة.
بعد الخروج من السجن عاش أجمل سنوات عمره
بعد مغادرة السجن اعتمد اختفاء طوعيا دام خمس سنوات كانت أجمل سنوات عمره.إذ اقترن بالمخرجة السينمائية الشهيرة فريدة بليزيد التي رزق منها بنتان؛ عايدة و كنزة. لكن في سياق القمع الذي رافق أجواء محاكمة الفرقاني ومن معه انتهت السكينة وفترة العسل واضطرعبد المومن الديوري للفرار من جديد ليجد نفسه سنة 1971في الديار الفرنسية خارج القبضة الحديدية الأمنية التي خنقت المغرب والمغاربة زمنئذ.
في باريس، سيكون عرضة لصعقة غرامية قوية ،من حيث لا يدري، عندما اكتسحت الشابة الفيتنامية من قيادة شبيبة الفيتكونغ، ابنة أحد قادة الثورة الفيتنامية إلى جانب هو شي مينه والجينرال جياب قلبه المكلوم، ليقترن وينجبان أمين، ريما وإيمان.
ظل قلمه سيالا وباثرا
في أول "كتاب –قذيفة" استعرض مختلف الفظاعات التي عاشها وكان ضحية لها بمعية العديد من المخلصين للوطن أو التي واكبها ورصدها بدقة، وستتلوه كتب أخرى أثارت ضجة، في حينها.
لقد كان عبد المومن الديوري من أوائل المغاربة الذين حشدوا أقلامهم مبكرا ويكتبون بكل حرية وشجاعة دون أن يأبهون بما يمكن أن يؤول إليه الأمر بسبب جرأتهم الشديدة ، و كان أول شخص يتحدث بشكل مباشر عن مجموعة أونا" التي وصفها بالجاثمة على الاقتصاد المغربي لفائدة "مغرب أونا" في كتاب عنوانه "من يمتلك المغرب" والذي تسبب في أزمة سياسية بين الرباط وباريس أيام الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما قامت السلطات الفرنسية بترحيله إلى الغابون تحت ضغط الحسن الثاني، لتندلع بعدها موجة من الاستنكار للقرار انتهت بعودة الديوري إلى منفاه بباريس بعد 26 يوما كانت كافية لإسقاط مشروع فيليب مارشان وزير الداخلية الفرنسي ضد هذا الكاتب منذ فشله في ثني مؤلفه عن نشر الكتاب الذي لم تهدأ عاصفته حتى بدأت إرهاصات عاصفة جديدة مع كتاب جديد "الخيانة العظمى" يتضمن نقدا، ليس للنظام وحسب و إنما للنخبة كذلك .
"لستُ نادما على أي شيء في حياتي"
قبل عودة الديوري إلى المغرب ، تم الاتصال به كواحد من أهم المعنيين باستحقاقات العدالة الانتقالية وبداية السير على درب التغيير، لكن عودته اشترطت بتقديم اعتذار بواسطة رسالة مكتوبة كثمن تسلمه جواز سفر مغربي، لكن الفقيد أدار ظهره لهذه العروض. وبعد فترة قصيرة تم الاتصال به لإخباره باختيار أي قنصلية تناسبه لتسلم جوازه دون قيد وشرط.
قضى الديوري أزيد من 40 سنة في المنفى بفرنسا قبل ان يعتزل السياسة و يعود لأرض الوطن في إطار طي صفحة الماضي أو ما صار يعرف بالانصاف والمصالحة بعد تولي الملك محمد السادس حكم البلاد في صيف 1999.
عاد عبد المومن الديوري إلى وطنه وهو يرتدي رداء النضال الذي رضعه في لبن الأم وترعرع بين أحضانه، وجاءت عودتُه إلى بلاده ليقول للجميع كلمته الشهيرة: "لستُ نادما على أي شيء في حياتي"، والسبب في ذلك راجع إلى أن الإنسان الحق يتصرف وفق مبادئه التي يؤمن بها، وهو كذلك يطور أفكاره ونظرته الفكرية للحياة، وهذا ما جعل المفكر المناضل يصل في نهاية المطاف إلى أن "الإسلام هو الحل".
لقد كان عبد المومن، في خضم مهامه بين الجزائر والدول التي كان يتحرك فيها لمواجهة الاستعمار ومخططاته وعملائه، يتابع مجريات نفس المعركة واستحقاقاتها في المغرب. وعند إعلان استقلال الجزائر سنة 1962 سيعود ليجد أمامه وضعا محتقنا بعد حل جيش التحرير و اعتقال الناطق الرسمي باسم المقاومة وجيش التحرير وإقالة حكومة عبد إبراهيم الذي كان برنامجها الاستقلال الاقتصادي وتدارك أخطاء إتفاقية إيكس ليبان وانتقال محمد الخامس إلى بارئه و إعدام قادة المقاومة: "مولاي إدريس بن أحمد الدكالي، وأحمد بن محمد تاجا (الجابون)، وعبد الله الزناكي، ومحمد بن حمو، الذي كان قد حكم عليه بالإعدام أيام الاستعمار .. و لم ينفذ فيه ... لكنه أعدم في عهد الاستقلال .
ختامه مسك
بعد كل هذه التجربة الطويلة العريصة التي بدأها مع بنبركة وتشي غيفارا والفقيه البصري وشيخ العرب وبن بلا... وأنهاها بلقاءات مع جيمي كارتر وبيل كلينتون وغيرهما، يقر الفقيد: "لست نادما على أي شيء في حياتي." ولربما أقر بذلك لأنه أنهى مساره الفكري بالإيمان الرسخ بالتالي: "إن الحل لأزماتنا، كل أزماتنا هي في عمق ثقافتنا و ميراثنا الحضاري، إن الحل في الإسلام بما هو دين العقل والخلق و الحرية وكل القيم السامية والمثل العليا"
إدريس ولد القابلة
التعليقات (0)