بقلم : د. رمضان عمر |
سأحمل روحي على راحتي............. وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق.............وإما ممات يغيظ العدى
من عبق الجراح النازفة، تصاغ مقاطع الشعر المقاوم ؛فلهب القصيد ترجمة فلسفية للفعل السياسي المقاوم،وجدارية تزيين ابداعية لتاريخ الحركة الجهادية، ولهب يوقد حماس المجاهدين لتشعل ثورة في فلسطين،ويحيي روح الفداء؛ لتصبح اسطورة تغتال خنوع المتثاقلين،ومن لهب القصيد تولد الاماني الكبار في أعماق الأجيال، لتنتصر ذاكرة النضال والمقاومة على آلات التهويد والتهميش.!
هكذا يقع هذان البيتان، محطتي انتظار لقافلة النفير،لرسم معالم حياة
آمن بها صاحبنا، شامخة تسر عزيزا، او هادئة تغيظ عدوا.
وين ميلاده في قرية عنبتا في محافظة طولكرم وسقوطه شهيدا في معركة الشجرة تصطف محطات عظام صقلت شاعرتيه وسيرة حياته ؛ وتعد مدينة نابلس من أبرز تلك المحطات التي صبغت شاعريته بمفهومها الثوري،فسمي شاعر جبل النار وان لم يكن من مواليد جبل النار.
نابلس عاصمة الثورات عبر التاريخ الفلسطيني، وموقد الجهاد الذي لا تخبو له جذوة، تلك المدينة الفلسطينية التي انجبت الكثير من الأدباء والشعراء الفلسطينيين في القرن العشرين مع بداية الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني وحتى الآن .وما زالت تدفع بأعداد لو قدر لباحث ان يتناولهم لوقع على كنز من العمالقة الافذاذ.
نابلس في مسيرة حياة عبد الرحيم محمود
لقد كان لنابلس(جبل النار) تأثير كبير في حياة عبد الرحيم محمود، في شاعريته وحياته وتوجهاته الوطنية، ولعلنا نقسم هذه المؤثرات الى ثلاث محطات بارزة:
الأولى مرحلة الدراسة الثانوية في كلية النجاح الوطنية مدة سنتين منذ عام 1929 وحتى عام 1931
الثانية :عودته إلى نابلس بعد استقالته من سلك الشرطة في حكومة الانتداب عام 1933 وحتى عام 1937 ومشاركته في الجهاد حتى عام 1939 مع لواء نابلس بقيادة المجاهد عبد الرحيم الحاج محمد.
الثالثة : عمله في كلية النجاح الوطنية بنابلس مدرسا للغة العربية والتاريخ منذ عام 1941 وحتى عام 1947.
ولعل المرحلة الأولى من هذه المراحل اتسمت بما يتسم نه حال الشباب في بداية مشوارهم من روح الدعابة ولم تكن شاعريته قد برزت بشكلها المعروف فقد كانت قصائده المبكرة تتسم بروح الشباب والفكاهة وأحيانا استخدام الأساليب البسيطة واللهو والعبث أحيانا أخرى ؛ فمثلا يقول في أبيات له بمناسبة زيادة الممثلة فاطمة رشدي إلى نابلس عام 1930:
ووجنتاك ورود الروض بللها.............قطر الندى من لماك العذب فانفتحت
لهفي على قبلة أطفي بها ظمأي.............ما ضر فاطمة لو انها منحت !
لكن هذه الدعابة تخفي وراءها شاعرة فطنة، وان كان وقودها عاطفة عابثة،إلا ان قوة الدفق التعبيري فيها واضح جلي.
أما المرحلة الثانية فقد كانت عبقريته الشعرية قد برزت،وبرز شعوره الوطني فيها بشكل بارز (في شعره)، وهي التي نظم فيها قصيدته الشهيرة " الشهيد " والتي نشرت في مجلة الآمالي عام 1938م، وفيها يبين أن أمنيته هي الشهادة دفاعا عن وطنه، وأنها نهاية يفضلها الرجال الذين نذروا أنفسهم دفاعا عن وطنهم في وجه العداة وخير مثال ما قاله فيها :
لعمــرك هــذا ممــات الرجـال .............ومــن رام موتــا شــريفا فــذا
فكــيف اصطبـاري لكيـد الحـقود............. وكــيف احتمــالى لســوم الأذى
أخوفــا وعنــدي تهــون الحيـاة............. وذلا وإنــــي لـــرب الإبـــا
بقلبــي ســأرمي وجــوه العـداة.............فقلبــي حــديد ونــاري لظــى
وأحــمي حيــاضي بحـد الحسـام .............فيعلـــم قــومي بأنــي الفتــى
وتبدو في هذه اللوحة الشعرية معالم التشكيل الهندسي وهي ترتسم في ألق تشكل المفارقة التصويرية عنصرا من عناصره لكنها مفارقة لا تنفك تلتحم التحاما عضويا بإيقاع موسيقي لاهب، مقاطعه قسمة متساوية بين الاساليب الخبرية والإنشائية؛ فيلتحم القسم مع الاستفهام الانكاري مع الجمل الخبرية التقريرية لتشكيل حالة شعورية تجمع بين الاستعداد والرغبة.
وأما المرحلة الثالثة فقد اتسمت بنضوج شاعريته، وقد رأيت أن كثيرا من إنتاجه الأدبي كان في مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي في المرحلة الثالثة في علاقته بمدينة نابلس.
ولم تكن المراحل التي قضاها عبد الرحيم محمود طالبا في كلية النجاح الوطنية بنابلس، أو مدرسا للغة العربية والتاريخ فيها،هي الفترة التي نضجت شاعريته خلالها والتقى بالعديد من الادباء الذين تأثر بهم ومنهم إبراهيم طوقان فحسب؛ بل كان له تفاعل كبير مع مختلف جوانب الحياة النابلسية؛ حيث يبدو ذلك واضحا في شعره من خلال تنوع النشاطات التي كان يساهم فيها بين ما هو تعليمي وما هو ديني وما هو اجتماعي ؛ فمن مشاركاته التعليمية العديد من القصائد منها ما ألقي في حفلات التخرج في كلية النجاح مثل قصيدة يقول في مطلعها :
روض وإني عندليبه .............يوحي لي المعني رطيبه
وأخرى ذات مناسبة دينية: قيلت في حفل ختم القرآن الكريم فقال فيها:
كتاب أضاء رياحي الظلم.............ودل الأنام لأهدى أمم
أشاع الجمال بقبح الحياة .............وأفشى الحياة ببالي الرمم
وسل السخائم من أكبد .............غلاظ وبَيَّضَ منها السخم
والقى السلام على العالمين .............فذاقوا حلاوة طعم السلم
عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان والمحكم المتشابه !
لقد تأثر عبد الرحيم محمود بالشاعر إبراهيم طوقان في شعره فإبراهيم طوقان استاذ عبد الرحيم محمود، وله الكثير من القصائد التي يظهر فيها تأثره به فعلى سبيل المثال (من أبيات ابراهيم طوقان) :
قد قلت لما أن رأيت صلبيها .............ذهبا تدلى فوق صفحة عاج
يا ليتني كنت المسيح لساعة .............متعلقا في صدرها الوهاج
لم أخش قطفهما وحق عيونها .............رمانتين ولو بغير نضاج
فهذه الأبيات تناصت مع قول عبد الرحيم محمود في قصيدة بيني وبين قلبي:
قلت لقلبي إنها كافرة .............تعبد يا قلب صليب المسيح
فهناك تشابه واضح في القصيدتين و.ربما يرجع السبب إلى تأثر هبد الرحيم محمود بإبراهيم طوقان من حيث هو استاذه ثم ما قيل إن حبيبة عبد الرحيم محمود كانت مسيحية كما كانت حبيبة إبراهيم طوقان مسيحية ايضا .
ومن وجود التشابه- أيضا بينهما كثرة القصائد التي تغزل كلاهما فيها بممرضات في مستشفيات نابلس، وممن ذكرن في هذا المجال ممرضة لبنانية تدعى سلمى كان تعمل في أحد مستشفيات نابلس في تلك الفترة .
كان عبد الرحيم محمود شاعرا فحلا، وأستاذا رائدا فن الشعر المقاوم، وكان يمتلك لغة شعرية مجلجة، تصطف مقاطعها لترسل نشيد القوة والجزالة، وتتمايل اغصانها لترقص البلابل الصداحة،و من هذه القصائد الرائعة " قصيدة الشعب " حيث بدأها بوصف همة الشعب الفلسطيني في وقته بأنه شعب صلب المراس قوي لا تنال منه الصعاب بل هو قادر على تجاوز كل المحن فيقول في مطلعها:
شعب تَمرَّس في الصِّعاب ............. ولم تَنَلْ منه الصعاب
لو هَمُّه انتاب الهضاب............. لدُكْدِكَتْ منه الهضاب
مُتَمَرِّدٌ لم يَرْضَ يومًا .............أن يُقِرَّ على عذاب
ويصف ذلة الأعداء أمام صموده وثباته فيقول:
وعُداته رغم الأنوف .............تذلُّلاً حانو الرقاب
وأيضا يصف نضاله ضد الأعداء بقوله :
لَفَتَ الورى منك الزَّئير .............مُزَمْجِرًا من حول غاب
وأرى العِدا ما أذهل الدنيا.............وشاب له الغُراب
وهو بعد ذلك بحسه الشاعري المتشوف يرى أن الحقوق بل تسترد إلا بالقوة فيقول :
الحقُّ ليس براجع ............. لذويه إلا بالحِرابْ
والصرخة النكراء تجدي.............لا التلطف والعتاب
والنار تضمن والحديد .............لمن تساءَل أن يُجاب
حَكِّمْهُما فيما تريد ............. ففيهما فَصْلُ الخطابْ
ومن قصائده الرائعة أيضا قصيدة "نداء الوطن " حيث يصف خفته في تلبية نداء الوطن إلى الدفاع عنه ويذم المتكاسلين عن الذود عن حياضه وهو حق بالنسبة للشاعر الشهيد فقد قال وفعل ويقول في مطلعها :
دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد ............. فخف لفرط فرحته فؤادي
وسابق النسيم لا افتخار.............. أليس علي أن أفدى بلادي ؟
حملت على يدي روحي وقلبي ... وما حملتها إلا عتادي
وقلت لمن يخاف من المنايا .............أتفرق من مجابهة الأعادي
أتقعد والحمى يرجوك عونا .............وتجبن عن مصاولة الأعادي؟
فدونك خالوطن:فاقتحمه ............. وحسبك خسة هذا التهادي
وهنا ينتقل الشاعر إلى مرحلة الوصف للمجاهدين الشباب وحث من هم في مثل عمرهم وقدرتهم على خوض غمار النضال من أجل الوطن:
بني وطني دنا يوم الضحايا .............أغر على ربا ارض الميعاد
فمن كبش الفداء سوى شباب............. أبي لا يقيم على اضطهاد ؟
ومن للحرب إن هاجت لظاها ............. ومن إلا كم قدح الزناد
فسيروا للنضال الحق نارا ............. نصب على العدى في كل واد
ويحث الشاعر في نهاية القصيدة الأمة على الجهاد ويدعو العرب ان يفيقوا من رقادهم قبل أن تذهب فلسطين صريعة في ايدي الصهاينة ولعل هذا تشوف المستقبل من قبل الشاعر الذي عاصر حقبة خطرة من تاريخ فلسطين الحديث:
بني وطني أفيقوا من رقاد .............فما بعد التعسف من رقاد
قفوا في وجه أي كان صفا .............حديدا لا يؤول إلى انفراد
ولا تجموا إذا اربدت سماء .............ولا تهنوا ‘ذا ثارت بوادي
ولا تقفوا إذا الدنيا تصدت .............لكم وتكاتفوا في كل نادي
إذا ضاعت فلسطين وأنتم .............على قيد الحياة ففي اعتقادي
بأن بني عروبتنا استكانوا .............وأخطأ سعيهم نهج الرشاد
التعليقات (0)