عام جديد في عالم متحضر
(إعادة نشر في الذكرى الأولى لمجازر غزه)
لسنا في مجال الحديث عما يُعرف بالعالم الأول, والثاني, ونحن, أي العالم الثالث. فهذه التصنيفات وان لم تكن دقيقة في حينها لم تعد اليوم موجودة, أو على الأقل لم يعد يأخذ بها أحد بجدية. ما نريد قوله هنا ليس مجاراة الغير في تقسيم للعالم على أساس اقتصادي: عالم غني, وأخر فقير, وثالث بين بين . أو على أساس حضاري: عالم متحضر, وأخر بلا حضارة, وثالث بين بين. أو سياسي: عالم ديمقراطي, وأخر مستبد ديكتاتوري, وثالث بين بين. أو تكنولوجي: عالم العلم والابتكار والتكنولوجيا المتطورة, وأخر متخلف بلا علوم عصرية أو تكنولوجيا وعبء عليها, وثالث بين بين. أ و قيمي: عالم حقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة, وآخر عدو للإنسان وحرياته وكرامته, وثالث بين بين. أو حتى تصنيف ثنائي بوشي بحت: عالم الخير وعالم الشر.
ما نحاول قوله, في وقت عز فيه صادق القول و صريحه, هو ونحن نرى توديع العام المنصرم غير المأسوف عليه, واستقبال عام 2009 المشكوك فيه عند من تتشابه أعوامهم, ونتنقل بين المحطات الفضائية المغطية أحداث الكرة الأرضية, وحدثها الآني انتهاء عام وقدوم آخر, نرى اختلاف المظاهر الاحتفالية, تعكس واقع هذا العالم الواحد, المتخذ من هذا الكوكب الأرضي وطنا وحيدا للبشرية جمعاء لا تعرف غيره, إلى الآن على الأقل, وفيه تتضارب وتتصارع المفاهيم والآراء و الأديان والمصالح صراعا سلميه لحظات قليلة إذا ما قيس بعمره الزمني.
تتسابق المحطات التلفزيونية وبكل اللغات , إلى جذب المحتفلين إليها بتنويع البرامج بين غنائية وراقصة ولقاءات بين نجوم و"نجمات" وفنانين وفنانات ومطربين ومطربات, ورياضيين ورياضيات, وقليل جدا جدا من المفكرين والمفكرات. فليس للفكر والتفكير, والعقل والتعقل, مكان في مثل هذه المناسبات. العاب بهلوانية ونكات لا تقف عند المحرمات. تتناول رؤساء وملوك ومسؤولين, ولا يسلم منها حتى بابا الفاتيكان. وينقل مراسلوها للمتفرجين في العالم اجمع أنواع الزينات والألعاب النارية وأماكن الأفراح.
ليس بين ما ينقله المحتفلون في العالم المتحضر صورة غزاوية واحدة, أو منظرا لطائرة اف 16 أو سمتية إسرائيلية تلاحق فلسطينيا, وتدمر منازل غزاوية. ولا وجه جندي إسرائيلي في دبابة يتهيأ للقتل, ولا وجه طفل فلسطيني مضرجا بالدماء يعكس روح التحدي. وإنما يبرز وجوه افني والمرت وباراك تكسوها براءة المعتدى عليه, المدافع بتحفظ عن النفس المهددة من إرهابي العصر.
في نفس اللحظات التي انطلقت فيها الألعاب النارية لتغطي سماء الجزء المتحضر والغني والمتطور, ابتهاجا بأعياد الميلاد وولادة العام الجديد السعيد, في الوقت نفسه وقبله وبعده, كان ينطلق الدخان الأسود, المنبعث من حرائق المنازل والأجساد الغزاوية لرضع وأطفال وشباب وشيوخ ونساء, ليغطي سماء غزة, معلنا ولادة عام جديد في العام الفلسطيني غير المحدد ببداية أو نهاية.
التقويم الفلسطيني ليس هجريا ولا ميلاديا. تقويم يبدأ من يوم نكبة 1948, بدايته حملات تهجير ومجاز دير ياسين, و فيه المجزرة تتلوها مجزرة. تقويم لا يدركه إلا الفلسطينيون, ولا يؤرخ به إلا الفلسطينيون. عامه ليس اثني عشر شهرا كشهور الآخرين. لا يأخذ أسماء الشهور العربية أو الأعجمية وإنما أسماء المجازر, وأسماء الشهداء في فلسطين وفي الشتات, شهر استشهاد عز الدين القسام, وشهر استشهاد كمال ناصر ورفاقه, وأبو جهاد, وأبو إياد, و الشيخ ياسين , وأبو علي مصطفى, وياسر عرفات ... و أسماء مراحل التهجير والنزوح. تقويم فلسطيني مكتوب بالدماء, منذ الثمانية والأربعين. تتشابه فيه الأيام والشهور والأعوام. تقويم فيه حروف وأرقام من البطولة والصمود والتحدي والشموخ, فيه معركة الكرامة, ويوم الأرض, وأعوام الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية, وفيه وفيه ما لا يدركه غير الفلسطيني.
مجزرة غزة سُطرت في نهاية عام 2008 بداية 2009 في تقويم أعياد الآخرين المتحضرين, وستُنسى عند "وقف إطلاق النار". وتبقى في التقويم الفلسطيني إلى ابد الآبدين, فهي مكتوبة بالدماء ولن ينسي الفلسطيني دماء الشهداء.
يحتفل العالم الحر رقصا وطربا وتبادل للقبلات في الشوارع المكشوفة والخلفية, ويضيء شموع العام الجديد. هذا ما تنقله محطات العالم المتحضر للعالم غير المتحضر ولعالم البين بين, بين دهشة, أو استنكار, أو إعجاب بعض المشاهدين.
مضيء الشموع والأنوار, ومُطلق الألعاب النارية هو العالم الحر الديمقراطي المتحضر. ومُشعل النيران والحرائق الملتهمة للأجساد البشرية منسوب لهذا العالم المتواطئ, الصامت على أفعاله والمبرر لها. فالأجساد غزاوية, والمنازل غزاوية, وكل غزة إرهابية. وما حولها ليسوا من العالم المتحضر, ولا حتى من عالم البين بين. فلا داع إذن لتعكير الأفراح وتعليق الأعياد. فالضحية غير حضارية.
العالم الحر المتحضر المنادي بالحقوق وحقوق الإنسان لا يعترف لهذا الجزء من المعمورة, العامر بأهله منذ بداية البشرية, بأية حقوق وكأن إنسانه مستوطن محتل, وغاصب لأرض الغير. وكأنه منقول من القارات الأخرى إلى فلسطين . وكان حقوق الإنسان, وحق تقرير المصير كما عرفتها المواثيق الدولية, وحق العيش في دولة مستقرة آمنة, غير معترف بها للفلسطيني, وللشعب الفلسطيني.
قصف غزة في موسم الأعياد, وأمام أنظار العالم وسمعه, لم يحرم أهل غزة والشعب الفلسطيني من الأعياد المحرومين منها منذ 61 عاما, عمر النكبة, ولم يحرم منها الشعوب العربية, المشرقية والمغربية ــ التي لا تعرف من الاحتفالات إلا حدها الأدنى, في أحسن الحالات, في ظل الطغاة ــ وإنما حرم منها جزءا كبيرا من الشعوب الحرة في الشرق و الغرب, التي استبدلت الاحتفالات بالنزول للشوارع للتعبير عن الغضب, والتنديد بالظلم ونازية العدو ووحشيته, وانتهازية حكامها, رابطة في هتافاتها بينهم وبين قتلة تل أبيب, ومنددة بخنوع الحكام العرب.
غضبة الشعوب العربية والشرقية والغربية ليست إلا انتصارا للحق الفلسطيني, وتنديدا بالعدو الهمجي وأنصاره, والمتواطئين من دعاة حقوق الإنسان المتغطرسين. غضبة شعوب العالم مساندة لشعب فلسطين كاملا لا لفصائل, لدولة فلسطينية لا لجزء منها. غضبة الشعوب الحرة في هذا العالم, غير منقسمة في تأييد الحق إلى عوالم. غضبة لا تقبل أن يمتطيها المهللون من محطاتهم الفضائية العربية, المتصدون للمجاز الصهيونية بالأناشيد الوطنية, فهم كانوا وسيبقون, رغم الصراخ والضجيج, تجار القضية.
المجرم محترف. بدم بارد يقتل. بدم بارد يرتكب المجازر ضد الإنسانية. بدم بارد يجابه التنديد والغضب الشعبي المحلي والعالمي. بدم بارد يتحدى القرارات الدولية. بدم بارد يحرق الأعياد والأعراف البشرية. وبدم بارد يفعل كل هذا, ما دام عضوا في ناد المتحضرين ودعاة الديمقراطية, ودون خشية من سحب العضوية. وما دام الخنوع والجبن والتأمر ميزات الأنظمة العربية , سيبقى طليقا دون عقاب أو مسؤولية.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)