عالم صوفي
لـ ( جوستاين غاردر )
اعتدنا في أدبنا العربي تحويل العلوم لمنظومات شعرية حتى يسهل لحفظها كمنظومة ( ألفية ابن مالك ) في علم النحو ، و ( منظومة الشاطبي ) في علم التجويد ؛ ثم نجد في القرن الأخير فنا أدبيا نثريا يعتمد على الوثيقة التأريخية ، ولكن ليس لتحويلها إلى منظومة شعرية – إن وجد – وإنما لتحويلها إلى رواية تاريخية ، كروايات ( جرجي زيدان ) ، و ( السحار ) وغيرهما ممن أبدع في هذا الجنس الأدبي .
أقول وجد ذلك ، ولكن أن نجد رواية تتحدث عن ( تأريخ الفلسفة ) فهذا شيء جديد في فكرته ، وربما يكون مستعصيا في تناوله وقد يمل القارئ هذا النوع من القصص لتركيزه على المعلومة وابتعاده عن البناء الفني للرواية المعتمِد على جذب القارئ .
إلا أن روايتنا - ( عالم صوفي ) لـ ( جوستاين غاردر ) وهو نرويجي ولد عام ( 1952م ) – قد أجادت في إبلاغ الدروس الفلسفية ، والتمكن من البناء الفني .
أما الدروس الفلسفية فقد اعتمد ( جوستاين غاردر ) في طرح الرواية على شخصيتين ، الأولى ( المعلم ) ، وهو ( ألبرتو كنوكس ) والطالبة ( صوفي ) حيث ميز الروائي شخصياته بميزات تستحقها ، فـ ( ألبرتو ) رجل خمسيني ذو ذقن ، وشخصية علمية مسيطرة ومتمكنة يقرأ ذهن تلميذته . والأخيرة فتاة عمرها ( 14 عاما ) لديها ميل معرفي نوعا ما تمكن ( ألبرتو ) من إثارته بقوة عبر محفزين مناسبين وعمر الفتاة ؛ أولاهما : وهو وصول رسالة على غير العادة لـ ( صوفي ) من شخص مجهول دون أن تعرف اسمه وهو ( ألبرتو ) . وثانيهما : ما حوته هذه الرسالة وقد كان غير معتاد وهو عبارة عن سؤال واحد فقط.
( من أنتِ؟؟؟ )
يبدو أن الحبكة الفنية تبدأ من هنا فالسؤال عامل جذب للقارئ ، ولـ ( صوفي ) على حد سواء كمدخل لدروس الفلسفة التي نرتحل معها ونشتاق إليها كما الفتاة . إلا أن ( جوستاين ) لا يكتفي بجذبنا لدروسه، ولكن يدخل علينا شخصيتين تثير اهتمامنا وهما : ( موللر كناغ ) وهو جنرال في قوة حفظ السلام في لبنان – كوالد صوفي – وابنته ( هيلد ) ؛ ليتعجب القارئ من تشابه عمر ( صوفي ) و ( هيلد ) ، وتقارب عيد ميلادهما .
من ذلك ينطلق ( جوستاين ) ليمزج الخيال ، بخيال الخيال لنقوم نحن بوضع يدنا على كليهما عبر إشارات ( ألبرتو – معلم الفلسفة ) هنا وهناك .
وبذا نعيش متعتين في هذه الرواية ؛ متعة دروسها السلسة ، وحبكتها المترابطة التي تستطيع من خلالها الفصل بين الخيال وخيال الخيال . كما يمكن أن نشير إلى ما ركز عليه ( جوستاين ) من خلال الرواية وهو مدى معاناة الروائي حيث العيش بين نصه وحياته لدرجة أن ( موللر كناغ ) والد ( هيلد ) يحب أن يربط بين ابنته و ( صوفي ) بعلاقات متشابهة .
إن القارئ لـ ( عالم صوفي ) يلاحظ مدى التناظر في اختيار الشخصيات فـ ( ألبرتو كنوكس ) يناظره والد ( هيلد ) ( موللر كناغ ) وبذا يشير ( جوستاين ) إلى مدى تأثير الواقع للروائي على عمله الأدبي ، وكذلك نرجسيته التي يقوم فيها بحصر البطولة في ( الأنا ) .
أما ( صوفي ) فتناظرها ( هيلد ) ، ونلاحظ قلة الفروقات بين الفتاتين لدرجة تتعاطف فيها ( هيلد ) مع ( صوفي ) ، وتقرر أن تعطي أباها درسا مشابها لدروسه في الرسائل في محطة وصوله.
يبدو أن ( جوستاين ) جعل متلقِي دروس الفلسفة فتاة للإشارة لمدى أهمية تكامل الإنسانية والذي لا يتم إلا بطرفيها ( المذكر والمؤنث ) ؛ وقد جعل ( صوفي ) تسأل كثيرا عن وجهة نظر الفلاسفة حول المرأة ، بل ونجدها تستنكر عدم وجود فيلسوفات كان لهن الأثر البارز في الفلسفة الإنسانية .
أما بالنسبة للدروس الفلسفية التي حوتها الرواية بدأت بعبارة ( جوته ) الجميلة:
( الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة ، يبقى في العتمة ) ومن منا يرغب بالبقاء في العتمة .
العبارة السابقة تثير الرغبة في الخروج من الظلام ، كما أن تعلم الفلسفة الإنسانية ، أو الاطلاع عليها من خلال ( 542 صفحة ) يعد أمرا مشجعا .
و ( عالم صوفي ) تجمع بين عمق المعلومة وسلاسة الإسلوب وكأنها تجمع بين ضدين ، ومن هنا ظهر جمالها ، كما أنها تذكرك بالأسلوب الرائع والجميل لـ ( ول ديورانت ) في ( قصة الفلسفة ) .
( عالم صوفي ) رواية متقطعة وبظلم مؤكد على إغفال تأثير المسلمين في الفلسفة وقد سار على نهج سلفه – أعني ( ول ديورانت ) – معتمدا على فكرة أن المسلمين ليسوا سوى نقلة ، إلا أن ( جوستاين ) ذكر ثلاثة من فلاسفتنا – ( ابن باجه ، ابن رشد ، ابن خلدون ) – على استحياء ولا تدري سببا لهذا الإغفال الذي يردده مفكرون عرب كـ ( محمد عابد الجابري ) الذي لا يرى العقلية العربية تميل إلى العقل والعقلانية وإنما تميل إلى البيان ؛ ويكفيني هنا أن أرجع القارئ لكتاب ( مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ) لـ ( جورج طرابيشي ) .
ومما يُلاحَظ على الروائي مناقشته لأمر إنساني وهو الفلسفة واستشهاده بكثرة بشواهد قطرية قد تتصل أحيانا بالفلسفة أو إيضاح فكرة ، هذه الشواهد ترتبط بشعراء ومغنين نرويجيين .
( عالم صوفي ) رواية تستحق القراءة ، والاحترام ، ولن أبالغ حينما أقول : إنها تستحق الدراسة .
التعليقات (0)