مهما اختلفت الحضارات وتنوعت أساليب الكتابة لدى الجنس البشري، تبقى الكتابة العربية وفنون الخط العربي محط أنظار الباحثين والمفكرين بشكل عام، ومتذوقي الفن الجميل بشكل خاص.
فنحن جميعاً نقف مكتوفي الأيدي وقصيري البعد النظري مقارنة بالمدة الزمنية القصيرة التي نعيشها على هذا الكوكب، أمام عمر من التاريخ تعاقبت عليه الأجيال فشيدت الحضارات وبنت معالم خالدة طوتها السنون ولفتها دقات الساعة العصرية الصامتة، فلم يبق لها إلا الاسم تاركاً خلفها جميع جوانب الحياة في أدغال الزمن الغابر.
إلا الكتابة العربية بقيت كماء الياقوت تسبق الزمن وتتكئ على أكتاف بناة الحضارات ليستعينوا بها في كتابة تاريخهم على جبهة الريح وبين أحضان التراث.
وعلى الرغم من التطور الكبير الذي حصل للحرف العربي في الفن التشكيلي سواء باستخدامه الرمزي أو التعبيري فإنه لم يزل يملك سحره داخل الكلمة والجملة ولم يزل يغري الكثير من الفنانين والخطاطين بالعمل من داخله للوصول إلى لمحات فنية تمتع المشاهد وتغني رؤيته البصرية. وإذا كان الخطاطون منذ أيام القلم المسند وقلم حران وحتى اليوم أبدعوا الشيء الجميل إلا أن الخطاطين المعاصرين استطاعوا أن يقدموا ما هو أكثر اتقاناً وأعمق حضوراً وذلك بفضل التطويرات الكثيرة التي أدخلوها عليه.
والكتابة هي تعبير، ليس عن طريق اللسان، وإنما عن طريق اليد، واليد أحياناً تعبر من خلال الإشارة أو من خلال الرسم، ورسم الإشارة هو جهد خاص له قواعده بحيث تكون الرسوم المكتوبة دالة من خلال تركيبها على بعض المعاني.
وكلما ارتقت صناعة الكتابة كانت أكثر دقة في التعبير، عما يجيش في النفس من أفكار وعواطف وانفعالات.
واختراع الإنسان لصناعة الكتابة هو تقدم فكري وتفوق عقلي.
فالإنسان استطاع أن يخترع أسلوباً للتعبير، والكتابة هي رسوم وأشكال اخترعها الإنسان، وجعل لكل رسم منها دلالة خاصة، وتؤدي تلك الرسوم في حالة تركيبها معاني دقيقة، قد تتجاوز حدود الكلمات الدالة على معاني حركية، وقد تفيد أحياناً أفكاراً دقيقة هي وسيلة الإنسان إلى المعرفة، والكتابة في جميع أحوالها هي مظهر من مظاهر الحضارة، ولا يمكن تصور نشأتها إلا في ظل حضارة الإنسان وتطوره, ولو أننا تتبعنا تاريخ الكتابة لوجدنا أن ذلك التاريخ ليس هو تاريخ الإنسان وإنما هو تاريخ حضارة الإنسان.
وليست الكتابة مجرد رسم لشكل من أشكال الحروف، إذ إن ذلك قد يتم التدريب عليه لبعض الحيوانات، وإنما هي أكثر تعقيداً من مجرد الرسم المادي لشكل الحرف، فهي في الدرجة الأولى رسم للشكل يعتمد على الترابط العاقل أو المنظم بين تلك الأشكال، ولو اكتفينا بمجرد الرسم لكانت الكتابة فاقدة معناها، غير مؤدية الغرض منها.
وأهم أغراض الكتابة تأدية الأغراض المطلوبة منها، عن طريق ربط الرسوم والأشكال بالمعاني الدالة عليها، فالمعنى في حدّ ذاته فكرة ضمنية تراود الإنسان وتتردد في صدره ولا يجد وسيلة لإبراز تلك الفكرة إلا عن طريق اللسان أو عن طريق الكتابة أو عن طريق الإشارة، والإشارة وسيلة قاصرة لأنها لا تعبر عن طريق المعاني البسيطة، في حالات القبول أو الرفض أو فيما هو في مستوى ذلك من الأفكار المبسطة، واللسان هو الوسيلة الأوضح والأقوى للتعبير، ومن هنا كانت الحاجة إلى اللغة كوسيلة للتعبير عن الأفكار، غير أن اللسان قد يكون قاصراً في بعض المواطن ليس عن أداء المعنى، وإنما عن استمرارية المعنى المطلوب، ولهذا فإن الكتابة تأخذ موقعها كوسيلة لنقل الأفكار وحمايتها واستمرارية عطائها.
والكتابة أكثر صعوبة من الكلام، لأن الكلام أقل جهداً من الكتابة ويتعلمه الإنسان عن طريق التلقين التلقائي في الطفولة، أما الكتابة فتحتاج إلى جهد مضاعف، لأنها عملية معقدة ودقيقة، تحتاج إلى تعليم رسوم وأشكال الحروف والأرقام أولاً، ثم إلى تعليم دلالات تلك الرسوم والأشكال على المعاني ثانياً، ثم إلى ربط المفردات اللغوية لتكوين معان معقدة ثالثاً، وهذه المراحل شاقة وتحتاج إلى مران وتعليم وتكرار إلى أن يتمكن الإنسان من امتلاك ناصية الكتابة وتكوين ملكتها.
ولا شك في أن اختراع الكتابة كان من أهم منجزات الإنسان، ولعل ذلك هو البداية الحقيقية لحضارة الإنسان ومسيرة الفكر الإنساني، ذلك أن الإنسان البدائي كان يعتمد على تجربته الذاتية في استكشاف معالم الطبيعة التي تحيط به.
ويعد الخط العربي منذ بداياته الأولى إلى يومنا هذا رمزاً من الرموز المهمة في بناء الحضارة العربية الإسلامية، بل والإسهام في الحضارة الإنسانية، كما يؤكد الخطاط العربي المسلم تفوقه في هذا المجال، لدرجة جعلت كل دراسي الخط العربي يجمعون على أن الفنان المسلم جعل للكلمة وظيفة جمالية مرئية إلى جانب وظيفتها السمعية.
وقد حظي الخط العربي في الإسلام بعناية خاصة، ولا غرو في ذلك، فهو ترجمان القرآن الكريم ووسيلته التي حفظه بها على مر العصور، حيث حرص الفنان المسلم عل مدى أربعة عشر قرناً على تجويد الخط العربي وتحسينه، ووضع أقصى ما يمكن أن يضعه العقل البشري من القواعد والمعايير في سبيل تجويد هذا الفن وأحكامه لتكون بمنزلة قوانين ونظريات هندسية غاية في الدقة، لا يجوز الزيادة عليها أو النقصان منها، يرجع إليها كل من أراد حذق الكتابة.
فالخط العربي يتمتع بإمكانات تشكيلية لا نهائية فحروفه مطاوعة للعقل وليد الخطاط الحاذق إلى أبعد الحدود، لما يتميز به من المدّ والقصر والاتكاء والإرداف والإرسال والقطع والرجوع والجمع مما لا يتوفر في أي من الخطوط في اللغات الأخرى، ولذلك فهو ينتمي إلى العالمية بكل قوة ودراية وشمولية.
وهو فن يجمع الليونة والصلابة في تناغم مذهل وتتجلى فيه قوة القلم وجودة المداد المستمدة من النفحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع في لحظة إبداع فلسفي لا تكرر نفسها.
فمن ساحة الفكر المخزون يقفز نص جذاب أو حكمة مأثورة أو آية كريمة يرافقه تخيل مبدئي لنوع الخط الذي ينبغي أن يكتب به، ومع إعمال الفكر وإجهاد القريحة تبدأ ملامح التكوين الخطي تظهر رويداً للروح ثم للعين ثم تنفذ اليد للإبداع الحقيقي.
كما أن الرابطة الحميمية التي تجمع مثلث العقل والروح والعين بدءاً بالتوافق المنضبط في النسب المطلوبة بين الحروف والتناغم المألوف بين الحركات، والانطلاقة الوثابة لبعض الكلمات لتنصهر في علاقة واضحة بين نوع الخط ومعنى الكلام المخطوط في بناء لوحة قادرة على التعايش مع الوسط الفني زمناً طويلاً.
والخط في اللغة يعني الكثير، منه ما يبتعد عما نعنيه بمعنى الكتابة، من ذلك مثلاً رسم مستقيم له طول وليس له عرض ولا سمك، أو رسم علامة أو حفر القبر أو غزو الشيب للرأس... الخ. وقد ابتدأ الخط العربي من خلال علاقة «سيمولوجية» دلائلية أو رمزية متمثلة بالبيان الإلهي في القرآن الكريم عند توضيحه بالكتابة، ومن هنا تطلب كتابة فاضلة بالخط المنسوب، أي الخاضع لقواعد الخط الجميل.
والخط العربي مَلَكة تنضبط بها حركة الأنامل بالقلم على قواعد مخصوصة، وهذه الملكة تتربى بالتعليم وتقوى بالتمرين والاجتهاد، ولس كل إنسان قابلاً لأن يكون خطاطاً، وإنما البعض دون البعض، حيث إنه من أدق الأشكال الهندسية، وحسن الخط كامن في بعض الأفراد كمون النار في الحجر، لما وهبه الله تعالى من الاستعداد الفطري، فإذا ما اشتغل به نبغ نبوغاً عظيماً من غير عناء كبير، أما من لم يكن فيه هذا الاستعداد الفطري لتحسينه، فلا يرجى له النبوغ والوصول إلى غايته، مهما بذل من الجهد، وصرف فيه من الوقت، وقد ينال فيه قسطاً لا بأس به، إذ لكل مجتهد نصيب. ولكن نصيب هذا لا يرفعه إلى الدرجة التي يصح أن يطلق عليه لفظ /خطاط/.
وهو نص في مرآة يعكس الحلم الخالص بانتزاع اللغة من حقيقتها البشرية، وتقديمها في شكل فني وبشكل أكثر تحدياً، فإن فن الخط هو الفن الذي يعتبر نفسه متوفراً على هذه الصفة، وقائماً على بنية متميزة، وقواعد هندسية وزخرفية، وعندما نقول فن قائم الذات، فإننا نعني أنه يستتبع في تخطيطه نظرية في اللغة وفي الكتابة، وقبل كل شيء، فإن هذا الفن يدخل في نطاق البنية اللسانية ويشكل معجماً ثانياً للرموز، منحدراً من اللغة، إلا أنه يلعب بها ويضاعفها عن طريق حركة مرئية، ومن ثم فنحن نستبعد جميع التعريفات العائمة التي تطلق فن الرسم حتى يلتقي أحياناً بمنطلقات فن الخط، فإن هذين الفنيين يختلفان في طريقة إبراز الإشارة المستمدة من الحروف، وكذلك في طريقة إضفاء الحياة عليها.
كما أن الخط فن رائع ملتصق باللغة العربية، غني بالبهاء والرواء، وقد يراه بعضهم أنه باب من أبواب الرسم ولا شك في أن له صلة بالرسم ولكنه باب تميز عن أي باب من أبواب الرسم الأخرى، متميز بوظيفته وطبيعته وارتباطه بأشرف لغة وأكرم أدب، وكأنه أصبح بهذا الارتباط جزءاً من الأدب، وإذا لم ير بعضهم أنه شكل من أشكال الأدب فهو باب من أبواب اللغة العربية خاص باللغة ذاتها وقد قالوا إن الخط توقيف من عند الله جل وعلا، واستفاد البشر لتركيب حروفه عن طريق العقل البشري، وقد فسر هذه النظرية عمر بن عتبة، بقوله: العقل عقلان، عقل تفرد الله بصنعه وهو الأصل، وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفرع، فإذا اجتمعا قوّى كل منهما صاحبه، تقوية النار في الظلمة للبصر، واجتماع العقلين آلف عند الناس وأقرب للواقع، فإنهم يتبنون دائماً تقوية العقل الموهوب، بما يكتسب من ممارسة واستفادة من تجربة وتكرار حصل علم الكتابة الذي نسميه الخط.
كما ويعدّ الخط الجانب الذي يعبر عن الترابط القوي في مختلف الأقطار الإسلامية وبين المهتمين بالخط العربي لا باعتباره وسيلة تواصل وتفاهم فحسب، بل لكونه فناً برزت فيه نخبة من الخطاطين المسلمين على غيرها بما لا تزال بعض خزائن الكتب تزدان به من روائع آثارهم بما أضفوه عليه من سمات الإبداع والجمال، وما رسموه له من قواعد ثابتة، حتى اصبح علماً راسخ الأصول مع اعتباره بما تتصف به من صور حروفه وهندسة تراكيبها من مرونة وتناسب- من الفنون التي تفسح للأخيلة المبدعة، وللأذواق السليمة أرحب المجالات للإبداع والإمتاع.
وكان على الخط أن يبالغ في تجويد كتابة القرآن الكريم كي يرقى إلى مستوى بلاغته، وكان أول المعتنين بذلك الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب/ كرم الله وجهه ورضي الله عنه/ الذي قال: «جوّدوا كتابتكم، فإنها تزيد الحق سطوع البرهان» (ابن أبي الحديد-نهج البلاغة) والصلة الروحانية في التفريغ الفني، ورد عن الفارابي قوله: «إن الخط أصيل في الروح وإن ظهر بحواس الجسد». وقد ورد في جواب بعض الخطاطين، عن متى يستحق أن يوصف الخط العربي بالجودة قائلين: (إذا اعتدلت أقسامه وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه وأسرع إلى العيون تصوره، وإلى القلوب ثمره، وقدرت فصوله، واندمجت أصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وخرج عن نمط الورّاقين، وبعد عن تصنيع المحررين، وقام لكاتبه النسبة والحلية).
حيث تمتاز الحروف العربية أنها تكتب متصلة أكثر الأحيان، وهذا يعطي للحروف إمكانيات تشكيلية كبيرة، دون أن يخرج عن الهيكل الأساسي لها.
ولذلك كانت عملية الوصل بين الحروف المتجاورة ذات قيمة هامة في إعطاء الكتابة العربية جمالية من نوع خاص، من حيث تراصف الحروف مثل/ ب،ن،ق،ف،س،ش/ وغيرها، تأخذ دوراً في إعطاء الكتابة العربية تناسقاً ورشاقة عندما تكون هذه المدّات متقنة وفي مواضعها الصحيحة، ويمكن أن نلاحظ أن طريقة الوصل بين الحروف تختلف من نوع إلى آخر من أنواع الخط العربي، كما في الديواني والنسخي والكوفي والثلث والفارسي/ التعليق/ وهذا الاختلاف ناتج عن الأسس في كتابة كل خط من هذه الخطوط، حيث نجد الزوايا والخطوط المستقيمة سائدة في أنواع الكوفي ونجد الأقواس والزوايا في كل من النسخي والثلث بينما تكون الأقواس الرشيقة والمدّات الانسيابية سائدة في الخط الديواني.
وتتخذ الوصلات سماكات مختلفة في الخط الفارسي، لتعطي للحروف المتباينة في عرضها تناغماً موسيقياً رائعاً. (وإن مجموع حركة الخط وما يتولد عنه من إشعاع موسيقي مطابق لشاعرية مرئية ساعية نحو اللامرئي، كل ذلك يحدده النص بالنسبة ليد الخطاط الراقصة).
يضاف إلى ذلك الغنى الفني الذي يمكن أن يضيفه التشكيل والزخرفة الملحقة بالحروف، فعلامات الفتح والكسر والضم والسكون والتنوين والمد والإدغام (الشدة) كلها عناصر تزيينية زخرفية لا غنى عنها لإتمام التناسق وملء الفراغات، إضافة إلى ضبط الكلمات وصحة قراءتها، وذلك في خطوط النسخي والثلث والديواني الجلي، وللزخرفة أيضاً دور كبير في جماليات الخط الكوفي حيث تضيف إليه وإلى الخطوط السابقة نوعاً من الأبهة والفخامة.
كل ذلك يعطي للكتابة العربية تفرّداً في جمالها بين الكتابات العالمية وهذا ما جعلها تدخل في صميم الفنون التشكيلية قديماً وحديثاً.
ويروي المستشرق/ريتر/ أستاذ اللغات الشرقية في جامعة استنبول وهو من الأساتذة المخضرمين الذين حضروا وحاضروا في العهدين العثماني والكمالي قال: «إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أتلو عليهم من محاضرات بسرعة فائقة لأن الحرف العربي اختزالي بطبيعته، أما اليوم فإن الطلاب يكتبون بالحرف اللاتيني ولذلك فهم لا يفتأون يطلبون إلي أن أعيد عليهم العبارات مراراً، إنهم معذورون ولا شك في ذلك فيما يطلبون لأن الكتابة اللاتينية لا اختزال فيها فلا بدّ من كتابة الحروف بتمامها، ثم أضاف قوله: «إن الكتابة العربية أسهل كتابات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح». هذا من الناحية الاختزالية، أما من الناحية الجمالية فهناك إجماع على تفوق الخط العربي واحتلاله مركز الصدارة بين خطوط العالم، ويروي لنا التاريخ أن الخليفة العباسي/ الواثق بالله، أنفذ ابن الترجمان بهدايا إلى ملك الروم فرآهم قد علقوا على باب كنيستهم كتباً بالعربية فسأل عنها، فقيل له: هذه كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خالد استحسنوا صورتها فعلّقوها، هذا ما حكاه الصولي.
وقد أورد أيضاً أن سليمان بن وهب كتب كتاباً إلى ملك الروم في أيام الخليفة المعتمد فقال ملك الروم: ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي على جمال حروفهم، وملك الروم لا يقرأ الخط العربي وإنما راقه باعتداله وهندسته.
ويقول الخليفة المأمون «لو فاخرنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط، يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان».
وما أحسن وأدق قول الكندي وهو من أهل القرن الثالث عشر للهجرة: «لا أعلم كتابة تحتمل من تجليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية، ويمكن فيها من السرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات.
ويقول الشيخ محمد عبده في المقارنة ما بين الخط والشعر فيقول:
إذا كان الرسم ضرباً من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرباً من الرسم الذي يسمع ولا يرى، فالخط هو اليد الشاعرة التي تسمع وترى.
ويقول الأمير والفنان خالد الفيصل: بأن للخط العربي رحلة وجدانية يستشعر المتتبع لها دفء الإيمان وتوهج الرسالة وصدق الإنتماء فالحروف ليست قطعاً جامدة ولكنها كائنات حية تنبض بمشاعر الفنان المسلم وتعكس إصراره وتفانيه لتحقيق أعلى درجات الإتقان والإحسان، فالحروف لا بدّ أن ترتقي إلى مستوى التعبير عن الرسالة، رسالة الخلاق البديع إلى الناس أجمعين.
بل إن عقلاء الإفرنج والمتنورين من المستشرقين، يقرّون ما للعرب ولغتهم من شرف المكانة وما لحروفهم من الجمال والحسن، حتى إن منهم من انبرى يدافع عن الكتابة العربية وأخذ يسفه رأي من استبدلها بالحروف اللاتينية، فالخط العربي يمتاز عن غيره من الخطوط الأجنبية بموازين عديدة أهمها:
- إنه يقبل أن يتشكل بأي شكل هندسي، ،يتمشي على أي صورة بحيث لا تختلف ماهيته ولا يطرأ على جوهره تغيير أو تبديل، ولذا تجده قد مر عليه منذ صدر الإسلام إلي الآن، وما يزال يقبل ما يدخله عليه أهل هذه الصناعة /الخطاط/ والذين ينتمون إلى أصحاب الذوق السليم، من خلال التدقيقات والتحسينات والزخارف، لأنه في الحقيقة عبارة عن نقوش منظمة، وأشكال هندسية ورسوم فنية، ودائرة هذه الأشياء واسعة لا حدّ لها ولا تدخل تحت أي حصر.
- إن من يمعن النظر في الخط العربي يجد بينه وبين سائر الأشياء تشابهاً وتقارباً نسبياً، يميز ذلك من نبغ في فن الخط وصار خبيراً بأسراره وخفاياه.
ومن ألطف الأدلة وأظرف البراهين على منزلة الخط العربي الرفيعة أن الشعراء كثيراً ما كانوا يشبهون محاسن المحبوب بأنواع الحروف العربية، فقد شبهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصدغ بالواو، والفم بالميم والصاد، والثنايا بالسين، والطرة المضفورة بالشين، وبعضهم عكس المعنى فشبه الأحرف العربية بأعضاء المحبوب، ولنذكر هنا شيئاً مما قيل في ذلك وهو قول أبو المطاع ذو القرنين بن حمدان المتوفى سنة 428هـ:
إني لأحسد لا في أسطر الصحف
إذا رأيت اعتناق اللام للألف
وما أظنهما طال اعتناقهما
إلا لما لقيا من شدة الشغف
وقال أحمد بن الخيمي:
إن صدغ الحبيب والفم والعا
رض منه: واو وصاد ولام
هي وصل بين المحاسن لما
تم حسناً وبالعذار التمام
غير أني أراه وصل وداع
فيه تقضى افتراقنا والسلام
وبعض الناس يأخذ من هيئة الحروف العربية معاني غريبة وإشارات لطيفة كقول أبي طالب يحيى بن أبي الفرج زيادة، المتوفى سنة 594هـ في الحث على الاستقامة.
إذا كنت تسعى للسعادة فاستقم
تنل المراد ولو سموت إلى السما
ألف الكتابة وهو بعض حروفها
لما استقام على الجميع تقدما
ويقول الخطاط محمد طاهر المكي الكردي/ صاحب كتاب تاريخ الخط العربي وآدابه:
كل الحروف إذا نظرت فإنها
من نقطة أجزاؤها تتركب
صور الحروف جميعها مأخوذة
من صورة الألف التي تتقلب
فترى لصورته رموزاً جمّة
فانظر بعين حقيقة تتهذّب
- إن الحروف العربية، قد خدمها علماء المسلمين خدمة جليلة بحيث لا يتطرق إليها خلل ولا يطرأ عليها تغيير، فعلماء القراءات الأجلاء لم يكتفوا بقراءة القرآن الذي هو بلسان عربي بمجرد النظر إلى صور الحروف التي هي عربية أيضاً.
بل وضعوا لقراءتها قواعد تحفظ اللسان من الخطأ في نطق الحروف وألقابها وصفاتها، وما يفخم منها، وما يرافق وما يدغم منها.
- إن الله سبحانه وتعالى أودع في الحروف الهجائية العربية أسراراً عجيبة وتصرفات غريبة سواء كانت أفراداً أو تركيباً، فعلى هذه الحروف يتوقف نجاح الطلاسم وعمل السحر والسيمياء وهذه الخصوصية غير موجودة في الحروف الأجنبية مطلقاً (بقطع النظر عن الحكم الشرعي في ذلك كله).
- إن الحروف العربية صالحة لأن تدل على الأرقام الحسابية وتقوم مكانها على الوجه الأتم لأن فيها تسعة أحرف للآحاد وتسعة أحرف للعشرات وتسعة أحرف للمئات، وحرف واحد للألف، وهذا ما يطلقون عليه حساب/ أبجد/ وترتتبيه: أبجد، هوّز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضطع
- إن اللغة العربية التي تكتب بحروفها واسعة جداً، لذلك نجد أن بعض الحروف تنوب عن بعض، وتجد كثيراً من الكلمات مترادفة المعنى، كما نجد لبعض المسميات كثيراً من الأسماء وفي هذا ما يسهل للإنسان طريقة الشعر واتّساق النثر ويجعل للكلام وقعاً حسناً وتأثيراً بليغاً، وذلك فالفنون الجميلة عند المسلمين بكافة فروعها المعماري والزخرفة وفن الخط، تلك الصناعة التي أدهشت العالم ووضعتها أمام الجوهر المبدع المنطلق من الجمال الإلهي والممتزج بالقدرة البشرية. وفي ذلك قول الشاعر:
ربع الكتابة في سواد مدادها
والربع حسن صناعة الكتاب
والربع من قلم تسوى بريه
وعلى الكواغد رابع الأسباب
وقالوا عن الخط العربي...
بنيّت الكتابة على خمس: قوة الأخماس، وحدة الألماس، وجودة القرطاس، ولمعان الأنقاس، وحبس الأنفاس.
ولما كانت الحكمة تقول: المعرفة تتبع الاهتمام) فإن الخطاطين اليوم دخلوا في قافلة الفنانين الذين لم يوجه إليهم أي اهتمام أو ترغيب وذلك بعد ظهور أجهزة الكمبيوتر والتي جعلت معظم الناس خطاطين، علماً بأن الكثيرين منهم لا يتصلون من قريب أو بعيد بشيء اسمه فن الخط أو علم الخط.
غير أنه لم تنطفئ تماماً التأثير الكبير والمكانة العظيمة للخط في الفن الإسلامي، حيث كان الوازع الداخلي في الحث على ممارسته وابتكار أساليب جديدة وأنواع مترادفة تدخل جميعها في الإطار المخصص لها بقواعد الخط، حيث الجمال الأخّاذ والروحانية السمحة التي تعطي للعين الملهمة حنين الكتابة ولليد المبدعة ظمأ المداد وللقصبة العذبة مشارف من روائع الحرف والكلمة والتشكيل.
مراجع البحث:
تاريخ الخط العربي وآدابه، محمد طاهر الكردي المكي الخطاط، هدية من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
الخط العربي، حسن المسعود، دار فلاماريون، باريس، فرنسا.
الخط العربي، أصوله، نهضته، انتشاره، الدكتور عفيف البهنسي، دار الفكر، دمشق، الجمهورية العربية السورية.
موسوعة الخطوط العربية وزخارفها، معروف زريق، دار المعرفة، دمشق.
أطلس الخط والخطوط، حبيب الله فضائلي، ترجمة: محمد التونجي، دار طلاس، دمشق.
الخط العربي، تاريخه، حاضره، بلال عبد الوهاب الرفاعي، دار ابن كثير، دمشق.
مجلة الوحدة، العدد المزدوج/ 70-71/ سنة 1990م موريس سنكري، الرباط، المغرب.
ديوان الخط العربي، عبد الكبير الخطيبي، الرباط، المغرب.
الأدب الإسلامي، إنسانيته وعالميته، د. عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي، الرياض.
الخط العربي من خلال المخطوطات، هدية من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي، المجلد الثالث، دار الفكر، دمشق.
الفكر الخلدوني من خلال المقدمة، د. محمد فاروق النبهان، مؤسسة الرسالة، دمشق-بيروت.
التعليقات (0)