عاصمة الحزن.. النبيل
بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
احتلت العواصم مكانا الصدارة في التاريخ السياسي للبشرية، وبخاصة في العصر الحديث، كونها رمز السيادة ومكان صناعة القرار السياسي والاقتصادي، ومع تطور التاريخ والعلوم السياسية وظهور "الجمهورية" كشكل للتنظيم السياسي ورث الإمبراطوريات والملكيات في معظم أنحاء العالم، بدأت مدن أخرى تزاحم العواصم في الأهمية، فأصبحت مدن لها صفات عالمية كنيويورك باحتضانها الأمم المتحدة، ولاهاي مقر محكمة العدل الدولية، وجنيف التي تضم المقر الأوروبي للأمم المتحدة، لا تقل تأثيرا عن واشنطن وأمستردام وبرن وهي عواصم الدول الثلاث على التوالي.
وقديما كان ذكر اسم أثينا يعني تلقائيا ذكر الفلسفة اليونانية، وتاليا أصبح ذكر اسم روما يعني تذكر القانون الروماني، فيما مكة المكرمة والفاتيكان عاصمتان دينيتان لا ينافسهما أحد.
ومع دخول العالم حقبة العولمة، وتضخمت ظواهر عديدة لتصبح "شبه مستقلة" عن الحدود السياسية للدولة الحديثة، وأصبح هناك قائمة من الألقاب تحملها مدن لتشير إلى أهمية خاصة تميزها، فمثلا، أصبحت باريس تذكر مقرونة بدورها التاريخي بوصفها مسقط رأس التنوير، والتالي أصبحت تحمل لقب "عاصمة النور"، وأحيانا يشار إليها بوصف "عاصمة الموضة". ومن المؤكد أنه لا يمكن المرور على ذكر العواصم ذات الألقاب المميزة دون ذكر مدينة أمريكية ذات لقب له سحره الخاص هو لقب هوليود عاصمة صناعة السينما.
وعلى قمة قائمة الجيل الثاني من العواصم التي توجها الاقتصاد الجديد يقف وادي السيليكون عاصمة صناعة التكنولوجيا الراقية. ومع تحول الاقتصاد إلى "صانع ملوك" من طراز رفيع في السياسة الدولية أصبحت البورصة الأكبر في العالم تمنح مدينتها لقب "عاصمة العالم المالية"، ومؤخرا رسم تقرير صورة متشائمة لمستقبل نيويورك التي ستبدأ – بحسب التقرير – في فقد بريقها ما سيهدد مكانتها كعاصمة عالمية للمال.
التقرير أعد بطلب من عمدة المدينة، مايكل بلومبيرج والسيناتور الديمقراطي شارلس شومر اللذين استشعرا قلقا من مخاطر تتهدد مركز المدينة المالي. وهو يتوقع تقدم مدن أخرى لتنافس على اللقب منها لندن ودبي وهونغ كونج وطوكيو.
وبينما تتصارع قوى غربية على اقتناص الألقاب التي تعزز مكانة عواصمها كرمز لتنامي تأثيرها في عالم السياسة والاقتصاد يشهد العالم العربي ظاهرة تداول لقب "عاصمة الثقافة العربية" بين العواصم العربية. والفكرة شرع في تطبيقها عام 1996 بناءًا على اقتراح للمجموعة العربية في اليونسكو خلال اجتماع اللجنة الدولية الحكومية العشرية العالمية للتنمية الثقافية (باريس 3 – 7 يناير 1995).
وهذا العام اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية وهو تكريم لم ينجح مطلقا في تخفيف الأحزان النبيلة التي يتجرع مراراتها بصبر أسطوري أهل المدينة التي تستحق عن جدارة – ودون منافس – لقب "عاصمة الحزن النبيل"، وهو لقب لا أظن عاصمة أخرى يمكن أن تفكر مجرد تفكير في منافستها عليه.
وقد وظف الشاعر الراحل الكبير نزار قباني هذا التعبير في قصيدة غناها كاظم الساهر:
"أنا أقدم عاصمة للحزن
وجرحي نقش فرعوني"
لكن عاصمة الحزن ليس قلب نزار بل هذه المدينة التي سفك لأجل السيطرة عليها من الدماء ما لم يسفك لأجل تحقيق هدف آخر في التاريخ، وتداول السيطرة عليها العرب القدماء والفراعنة وبنو إسرائيل والرومان والمسلمون والصليبيون والبريطانيون، قبل أن تبدأ محنتها الحالية.
لقد دفعت القدس على امتداد التاريخ قديمه وحديثه الضريبة الأكبر للمكانة الاستثنائية والمكان الاستراتيجي، ومن يقرأ ما ورد في التاريخ عن الدماء التي سفكتها معظم الجيوش التي دخلت من أبواب المدينة تصادفه تعبيرات مثل: "غاصت الخيول في الدماء حتى اللجام"، و"بلغت أكوام الجثث ارتفاعا يقترب من أسطح المنازل", و.. ..
ورغم ما ينطوي عليها اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية من دلالات، إلا أن معاناتها تظل أكبر من هذه "اللفتة"، كما أن أزمتها تظل أكبر بكثير من عالم الرموز!
والقدس كعاصمة للثقافة العربية شأنها شأن الثقافة العربية، فالثقافة في ظل الأوضاع العربية الراهنة تقبع في الظل ولا يكاد يحفل بها ولا بعاصمتها أحد. ومما يبعث على الأسى أنه مع التحول الواضح في بوصلة الاهتمام العربي نحو بؤر توتر أكثر اشتعالا كالعراق واليمن والسودان لم تعد أخبار القدس تشغل الشارع العربي كما كانت تشغله قبل سنوات. ومع الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني أصبحت غزة ورام الله معا من عوامل تضاؤل الاكتراث الفلسطيني بمعاناة القدس.
والمدينة التي لم يسلم مسجدها الأقصى، ولا كنائسها، ولا حتى مقابرها من الأذى، تحمل تاريخها وحزنها وتسير مثقلة في طابور عواصم الثقافة العربية. ومع اقتراب نهاية العام الذي ظلت في القدس عاصمة للثقافة العربية يبدو الحصاد أقل بكثير مما كان متوقعا.
والمدينة التي ترك الغزاة على اختلاف أجناسهم ومطامعهم وجرائمهم على ملامحها ندوبا، هي نفسها التي ترك الأنبياء في جنباتها علامات من نور، وهي التي جعلتها الصراعات الدامية على هويتها بل وجودها نفسه، وهي بجدارة "عاصمة الحزن النبيل"!
التعليقات (0)