تمر على أمم الدنيا فترات ينبغي التوقف خلالها لتقييم المسار و تصحيح الاختلالات و الاستعداد لخوض غمار التجارب المستقبلية. و ربما يعيش المغرب منذ عدة شهور حالة من هذا النوع تحتم علينا القيام بهذه الوقفة. فنحن أمام ولادة وعي جديد عبرت عنه فئات مختلفة من أبناء هذا الشعب الذين خرجوا إلى الشوارع و كسروا جدار الصمت و عبروا عن مطالبهم و انشغالاتهم. لذلك جاء الإعلان عن التعديل الدستوري كخطوة استباقية تعبر عن تفهم المؤسسة الملكية للمطالب الشعبية، وتقدم بعض الإشارات الدالة على السير في طريق القطع مع الماضي. و كانت هذه المناسبة كافية للعودة إلى الحديث مجددا حول " الاستثناء المغربي" الذي جسدته هذه المبادرة الإصلاحية التي لم يعرف لها مثيل في كل دول المنطقة. و طيلة المدة التي تلت الإعلان عن تغيير الدستور، بدا المغرب محافظا على فرادته و اختلافه بالرغم من بعض الشوائب التي رافقت التعاطي الأمني مع بعض مناسبات الحراك الشعبي. غير أن ما يحدث هذه الأيام بعد الكشف عن مشروع الدستور الجديد المعروض للاستفتاء الشعبي يؤكد أن دار لقمان مازالت على حالها، و أن هذا الاستثناء لم يكتمل بعد.
يتعلق الأمر هنا بطبيعة السلوكات المرصودة ضمن حملة "الترويج" للاستفتاء الدستوري. حيث تنتمي كثير من الأساليب التي تستعملها الدولة في هذه الحملة إلى ممارسات عهد " أم الوزارات". ففي كل استفتاءات الدنيا تكون الخيارات المتاحة أمام الناخبين هي : القبول أو الرفض أو الامتناع. و في كل الدول الديموقراطية يكون المواطن حرا في اختياره. و الواقع أن المغرب عرف بعض التقدم على هذا المستوى بالمقارنة مع استفتاء 1996 مثلا، حيث تم منح مساحات لبعض الأطراف المقاطعة للدستور من أجل شرح موقفها في وسائل الإعلام. لكن التوجه العام السائد يؤكد مع ذلك أن الدولة لا تريد أن تسمع سوى كلمة " نعم". و قد بدا ذلك واضحا من خلال استغلال خطبة الجمعة لحشد التأييد للدستور. و ذلك ما يتنافى مع الدور الحيادي للدولة في هذا المجال، خصوصا و أن المسجد هو دار للعبادة و ليس وسيلة للتوجيه السياسي، و إلا فماذا سيكون الموقف إذا ثبت أن أطرافا رافضة للدستور تستغل هذه المؤسسة الدينية بدورها لتمرير و شرح مواقفها؟.
المثير في النقاش الدستوري أن النخبة السياسية المغربية منقسمة إلى تيارين، الأول يعبر عن ترحيبه بالدستور الجديد و الثاني يعلن مقاطعة هذا الاستحقاق الانتخابي. و الامتناع عن التصويت هو تعبير مقنع عن رفض مضامين الدستور طبعا. لكنه في العمق عزوف سياسي يدل على أن أزمة الثقة مازالت قائمة، و أن مغرب 2011 ليس ببعيد عن تجربة 2007، حيث أفرزت الانتخابات البرلمانية آنذاك مشاركة ضعيفة كشفت عن قوة جديدة تتمثل في " حزب المقاطعين" سواء عن اقتناع أو لامبالاة. لذلك كان حريا بالدولة أن تبدي إشارات واضحة في اتجاه تخليق الحياة السياسية حتى يقتنع المقاطعون بجدوى المشاركة الانتخابية. أما ما نراه في المهرجانات الخطابية التي تشهدها كل مناطق المغرب من تجييش للمواطنين و دعوات إلى التصويت ب" نعم " و تخوين الأطراف التي تنادي بمقاطعة هذا الاستحقاق، فلن تغير شيئا من حقيقة أن المشهد السياسي في المغرب مازال هشا، و أن الأحزاب السياسية لا تمارس إلا تأثيرا قليلا على الرأي العام. بل إن كثيرا من المشاهد التي أفرزتها الحملة توحي بأن آليات الممارسة السياسية في المغرب لا تختلف عن الدول التي عرفت و تعرف ثورات شعبية، فإذا كان " البلطجية " في مصر، و " الشبيحة" في سوريا يقدمون صورة مأساوية عن هذه الممارسة، فإن مفهوم " الشماكرية" قد قفز إلى الواجهة في المغرب هذه الأيام كتعبير عن نفس السلوك، و إن اختلفت الظروف و الأساليب. و يبدو أن أطرافا ما تسخر هؤلاء للتشويش على الجهات التي تنادي بالمقاطعة و تقديمهم في صورة مارقين يفتقدون للوطنية... و لا يمكن للمغرب أن يتقدم أبدا إذا كان الرأي الآخر مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي، فقد بدا منذ عدة شهور أن بعض الجهات لا تستسيغ هذا المناخ المنفتح للتعبير و الاحتجاج، و تحاول أن تشد المغاربة إلى ثقافة " قولوا العام زين". و ذلك ما نراه بالملموس هذه الأيام.
و بغض النظر عن مضامين الوثيقة الدستورية و المواقف المتضاربة بشأنها، فإن ما تشهده حملة الاستفتاء من سلوكات تكرس عقلية الماضي، تثبت أن الطريق لا يزال طويلا ما دامت هذه العقليات على حالها. و قد استوقفني في هذا الشأن منظر في مهرجان خطابي لصالح التصويت ب" نعم "، حيث سمعت أحدهم من خلال مكبرات الصوت و هو يحث المتحلقين حوله على ترديد عبارة " عاش الدستور" ... و قلت في قرارة نفسي: إنه على حق لأن كثيرا من الحاضرين لا يفهمون ما يجري، و لا يعرفون أي كائن هو هذا الدستور. محمد مغوتي. 28/06/2011.
التعليقات (0)