مواضيع اليوم

عاشقُ الشّاة

شيرين سباهي الطائي

2009-12-07 02:24:34

0

أتذكّرُ بأنّي قبلَ أكثر من عشرين سنة كنتُ أعملُ في شركة الكهرباء بمكة المكرمة قارئاً للعدّادات وموزّعاً للفواتير بالإضافة إلى متابعتي لدراستي الجامعية وكانَ استلامي لمجموعة الفواتير اليوميّة في الصباح الباكر ممّا يدعوني للاستيقاظ قبل صلاة الفجر والذهاب لمقر الشركة لأصل إليه بعد الصلاة ولمّا يُغادرني النُّعاس والحزنُ الشديد على مفارقة الفراش،وأقبضُ على تلك الحزمة الباردة من فواتير تجمع في طيّاتها بشارة سوء لكلّ من أسلّمه إيّاها أو يراني من بعيد اتنقّل بين المنازل ..

في أحد الصّباحات الباردة صعدتُ لجبل عمر المحاذي للمسجد الحرام أجرّ خطى متثاقلة من بيتٍ لآخر في صعودٍ متواصل ومن ثَمّ هبوطٍ مستمرّ وبينهما متعرّجات طُرق لا يسلكُها إلا من يسكنُ هذه المناطق القديمة جدّاً أو من كتبَ الله عليه أن يعملَ في قطاعٍ يحشُرُ أنفَه في كلّ شبرٍ من الأرض كقطاع الكهرباء الذي ابتلاني الله به طلباً للرزق والعيش،وحينَ وصلتُ لبابٍ حديديّ مسجّلٍ عليه ذات الترقيم الذي أحملُه في يدي لفاتورة كهرباء يجبُ تسلميها والأهمّ من ذلك قراءة العدّاد وتسجيل "مقدار الاستهلاك" طرقتُ البابَ ..

ومن أوّل طرقةٍ على ذلك الباب تهادى إلى سمعي صوتٌ من بعيد لفتاةٍ في سنّ لم يتجاوز العاشرة حسبَ تقدير أذني الخبيرة في الأصوات تُنادي "مِين؟" وتلك كلمةٌ تعوّدتُّ عليها وانطلَقَ لساني دونَ انتظارٍ بإجابتي الروتينيّة المُصطلح عليها في علم توزيع الفواتير "كَهرباء" ومن العادة أنّه بعدها يُفتَحُ الباب ويدلُّني من يفتحُه على موطن العدّاد الذي غالباً ما يكونُ تحتَ "الدّرج" بداخل المنزل في مثل هذه الأحياء العتيقة،ولكنّ الأمر طال ولم يفتحْ أحدٌ ولا جاءني مُجيب ..

طرقتُ للمرّة الثانية وانطلقَ ذلك الصوت الذي تحقّقتُ بل تأكّدتُ بأنّه صوتٌ نسائيّ يقول "مِينْ؟" فأجبتُ وأنا أتحلى بالصبر والأدب المصطنع "كهرباء" ورفعتُ من نبرة صوتي لعلي أُبلغهم بأنّ الأمر هام وعاجل،ولكنّ السيناريو الأول تكرّر وطال الانتظار ولم يأتِ مخلوق،فطرقتُ الثالثة الثابتة الغاضبة ووردَّ عليّ في شكلٍ تقني منتظم نفسُ الصوت بذاتِ الخفّة والبعدُ "مييين؟" وقلتُ وأنا ألوي "بوزاً" وأقرضُ آخر "كهرباء" وانتظرتُ فلم يحدث شيءٌ مما أتوقّعه ولا تحرّكَ ساكنٌ من محلّه ..

كانتْ في الباب فُرْجة تُشعِرُني بأنّه ليس مُغلقاً بإحكامٍ ويمكنُ فتحُه دونَ جُهدٍ أو عناء،فتجرّأَتُ على ذلك خاصّةً وأنّي علمتُ من مُراقبتي للمبنى طيلة الدّقائق التي أتنظرُ فيها إجابة النداء بأنّ هذا الباب نافذٌ على ساحةٍ خارجيّة وليس على ذات المنزل القابع في وسط الفناء،فلا ضيرَ إذن من التأكّد وفتح الباب ليكشف اليقينُ ما انتابَ قلبي من استغرابٍ مُختلطٍ بغضب ..

أزَحْتُ دفّةَ البابِ اليُمنى متربّصاً بالمفاجأة احترازاً واستعداداً قائلاً "كهرباء" فانطلَقَ صوتُ "جَفرَةٍ من الماعِز" تصيحُ " ما ا ا ا ء" وفي لحظَتِها عرفتُ بأنّ الكلمةَ التي سمعتُها ثلاثَ مرّاتٍ وأنا لابسٌ ثوبَ الحلمِ والأدب خلف الباب كانت "ما ا ا ا ء" وليستْ "مييين؟" وأنّ الإجابة كانت من حيوانٍ تستفزّه الأصواتُ ويصيحُ بما لا أفهمه أنا وليست من بنتٍ صغيرةٍ ولا امرأة ولا إنسانٍ حيّ ..

ضَحِكْتُ على نفسي كثيراً من هذا الموقف وزادَ ضحكي لمّا تأكّدتُ بأنّ هذا المنزل مهجورٌ منذُ زمن وأصبحَ مرتعاً لأغنام الحي وحيواناتهم الضالّة وأنّني وقعتُ فريسةَ وهْمٍ اسمُهُ التوقّع والتصوّر المُسبق الذي ربَما إن استمسكَ بنفسي صوّرَ لي الطائرةَ جُرذاً والشمسَ حلاوة عِيد،ولكنّ القراءةَ لعدّاد هذا البيت الخالي إلا من "أنثى ماعز" لا تستخدم الكهرباءَ مرّتْ بسلام ووجدتُها لم تتحرّك عن الرقم السابق المسجّل لديّ في الكشوف الرّماديّة التي أحملها،فأودعْتُ الفاتورة في أنفِ العدّاد وانطلقتُ أبستم وأكتمُ ضحكي حتى لا يتّهمني سُكان الحي بالجنون الرّسمي الكهربائي ..

بحثتُ لنفسي عن مخرجٍ أو عُذرٍ يجعلُ هذا الموقف الذي مرّ بي "يحصُلُ في أكبر العائلات" كما يقولون فلم أجِدْ سوى أنّها أضحتْ قصّة أستظرفُ بها عندَ زملائي وأصدقائي وعائلتي،وفي سنينٍ أربعٍ خلَتْ اشتكيتُ وتأذّيتُ شهوراً من قططٍ اعتادتْ على السكنى في سطحِ غرفة خارجيّة ملحقة بمنزلي وتعبتُ حتى أقنعتُ ابني بطردها ومباشرة العمليات العسكريّة تجاهها لأنّ أباه يخشى القطط خشيتَه من البحر،وتأكدنا بأنّ العمليّة تكللت بالنجاح،ولكنّي ظللتُ أسمع صوتَ أنينِ قطّة صغيرة يصدُرُ تباعاً من سطح ذات الغرفة فحزنتُ وبكيتُ وتأثّرتُ أن كنتُ وابني سبباً في الفرقة بين أمّ وابنتها ..

صعدَ الجندي المغوار للسطح مرّة أخرى ولم يجد شيئاً والصوتُ لا يزالُ يتكرّر في الليل بالذات والحزنُ يتكرّرُ كلّ ليلة بتكرّر الصوت،وحينَ زارني صديقٌ لي وحكيتُ لهُ القصّة وجلسنا في نفس الغرفة وأسمعتُه الصوت اتّجه مباشرة لجهاز التكييف وأغلقَ "زِرّاً" خاصّاً بتوزيع الهواء وانقطع صوتُ أنين القطّة وانفجرَ صديق ضاحكاً على توهّمي وظنّي وأصبحتُ بالنسبة له نُدرةً لمدّة طويلة،وحقّ لهُ فكيفَ برجلٌ يظنُّ بأنّ صوت احتكاك "ريش" توزيع الهواء في المكيّف أنينَ قطّة؟ ..

اليوم ولله الحمد تذكّرتُ شيئاً قريباً من هذا في كتب التراث فرجعتُ لكتاب "طبقات الشعراء لابن المُعتز" ووجدتُه قد قال في الصفحة 385 من الكتاب الذي حقّقه عبد الستار أحمد فراج في طبعته الرابعة لدار المعارف القاهريّة المصريّة عن الشاعر مصعب الموسوس "حدثني جعفر بن عبد الله الخزيمي قال مرّ مصعب الموسوس بدرب الثلج ببغداد فنظر إلى عينِ شاةٍ من شُبّاك رَوْشَنٍ إلى الطريق لبعض التجار فظنّ أنها عينُ جارية،فعشقها وظلّ يتردّدُ إلى ذات المكان شهراً" وقال ابن المعتز في معرض القصّة أيضاً "بأنّ مصعب كان يقولُ شعراً ويُسمعه للشاة وهو يظنها جارية ويرمي لها بالتّفاحة والأُتْرُجَّة والشمَّامة والتُّحفة الحَسَنة من المناديل،فانكسرَ الشُّباك يوماً فإذا هي عينُ شاةٍ فرآهُ الصبيانُ وأصبحوا ينادونه ياعاشقَ الشاة" ..

تنفّستُ الصُّعداء وتاقَ قلمي لأَنْ يكتبَ عن هذه المواقف التي حصلت لي رغم احتفاظي بها في نطاقٍ ضيّقٍ طيلة هذه السنوات،ولعلي أرضى بأن أكونَ موسوساً ولستُ "أبله" وقلتُ لنفسي الحمد لله لستُ وحدي ولي في طبقات الشعراء أسوةُ وسوسة،وربما كانت صداقة بني البشر مع الحيوانات الأليفة البيتيّة كالأغنام والقطط والدواجن ملاذَ عُذرٍ لاشتراكي مع الشاعر القديم في التوهّم رؤيةً وسمعاً ..
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات