زكى نجيب محمود فى عاشر طبعة لـ(تجديد الفكر العربى): نريد خلفًا يعيش عصره.. لا عصر السلف
«إسلامية.. إسلامية» واحدة من الشعارات التى ستتردد على مسامعك كثيرا كلما اقتربنا من الموسم الانتخابى، التى تعكس اعتقادا لدى الكثيرين بأن لدينا تراثا إسلاميا يصلح كبديل للأيدلوجيات المعروفة، ولكن تم إقصاؤه من الحياة السياسية على مدى العقود الماضية، وهو التباس فى فهم الدين والسياسة والعصر، شغل الفيلسوف الكبير زكى نجيب محمود، وألف فى سبيله كتابه الشهير «تجديد الفكر العربى» الصادر طبعته العاشرة عن دار الشروق، وسط مناقشات سياسية محمومة حول هذه القضية.
لم يكن زكى نجيب محمود داعيا إلى تجاهل الدين، أو مدعيا أن الزمن قد تجاوزه، ولكن أسطر كتابه تكشف عن مدى قلقه من ترديد تعبيرات كـ«إحياء التراث»، تلك التعبيرات المطاطة التى تخلط بين الدين كعقيدة سماوية وبين الحضارة الإسلامية بتاريخها وصراعتها الفكرية، كل تلك التراكمات التى تظهر فى صورة مجلدات فاخرة تشعر البعض بأن أجدادنا توصلوا إلى حل كل مشكلاتنا الراهنة، وليس علينا إلا السمع والطاعة والتطبيق الحرفى، ولكن بنظرة أقرب «سنكتشف أن هناك الآلاف من المجلدات التى لا تضيف حرفا واحدا جديدا، فهى شروح، وشروح للشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق»، وبعض كبار الكتاب القدامى تم تخليد ذكراهم لأسباب كتلك التى يسوقها زكى نجيب محمود فى اندهاش «هذا خلده المؤرخون، لأنه سرد النسب النبوى طردا وعكسا، وآخر لأنه قرأ القرآن على فلان وقرأ السيرة النبوية على فلان، وتلقن من فلان وفلان من المشايخ وأذنوا له بالتلقين».
وبالرغم من كل جوانب الضعف تلك، يظل لتعبير إحياء التراث بريقه الخاص عند الكثيرين، ويكون للسلف كل هذا الضغط الفكرى علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه وما عادوه ألف ألف مرة، وهو يعكس ما سماه المؤلف بسلطان الماضى على الحاضر وهو بمثابة سيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وقد يكون غريبا ان يكون للموتى مثل هذه السيطرة، مع انه لم يبق منهم الا صفحات مرقومة صامتة، ويتحول الاعجاب بالقديم فى بعض الاحيان إلى تقديس له يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ.
ووسط جمهور من الميالين إلى تقديس كل ما هو قديم، تلقى دعاوى إحياء التراث تأييدا واسعا، خاصة عندما تكون لغة الحديث تتسم بالعمومية فما أسهل أن نسوق الفاظا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من من التفصيلات والعناصر، أضف إلى ذلك كاريزما المروجون لتلك الفكرة فهنالك دروشة تعجب الجماهير العريضة.
ويبنى زكى نجيب محمود، نقده للدعاوى المغالية فى الارتكان على التراث كثقافة للعصر، بأن مفهوم الثقافة نفسه تغير بين العصرين، فقديما كانت الثقافة ثقافة اللفظ، والآن الثقافة مبنية على العلم والتقنية والصناعة، بل إن القضايا التى كان الأقدمون مهمومين بها، لم تعد هى التى تشغلنا فى العصر الحالى، «لم تكن هى نفسها المشكلات التى صادفت اسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول».
فالباحث فى مجلدات التراث عن حل لمشاكل العصر، سيتفاجأ مثل مؤلف الكتاب، بأن مئات الصفحات منها كانت مشغولة بالنقاش حول قضايا كقضية استحقاق على بن ابى طالب، رضى الله عنه، للخلافة، وهل نص الرسول، صلى الله عليه وسلم، على إمامته «ولست ارى كيف انتفع بهذه العدة كلها، بملحقاتها وملحقات ملحقاتها، سلاحا أخوض به معمعان هذا العصر؟» يتساءل أديب الفلاسفة.
كما أن التراث العربى لم يكن كتلة واحدة، ولكنه متفرق بين العديد من المذاهب الدينية، كالسنة والشيعة والمعتزلة، وتنعكس فيه ثقافات مختلفة، كثقافات الفرس واليونان، فما هو الفكر المقصود حينما يتحدث البعض عن إحياء التراث؟
يقول المؤلف، بعد أن يعدد الاختلافات فى الرؤى بين المذاهب والثقافات العربية المختلفة أن فكر ومواقف أهل السنة والجماعة، عادة ما يكون «الجزء الأكبر مما يعنيه القائلون بضرورة احياء التراث فى حياتنا الفكرية العصرية».
ثم يعدد أركان فكر اهل السنة كما جاءت فى كتب التراث، فاذا هى تنقسم إلى ابواب كـ«معرفة صانع العالم، وصفات ذاته، وصفاته الأزلية، ورسله وانبيائه، ومعرفة ما أجمعت الأمة عليه من أركان شريعة الإسلام وأحكام الإيمان والاسلام فى الجملة»، ثم يطرح فيلسوفنا الكبير تساؤلا مهما «نفترض أن مسلما معاصرا قد الم بتفصيلات هذه الأقسام كلها، فهل تكون الحصيلة النهائية إلا رجلا كمل اسلامه بحيث يرجو عند الله يوم الحساب نعيم الفردوس؟».
فى مقابل تلك القضايا التاريخية، عجز زكى نجيب محمود عن أن يجد فى كتاب التراث رؤية لعلاج أهم مشكلة تشغلنا عصرنا الراهن، وهى مشكلة الحرية بمعناها السياسى ومعناها الاجتماعى «وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين».
لأن مفهوم الحرية عند كتاب التراث كان يقابله الرق، ولكن مع تحرر البشر من العبودية، اتسع مفهوم الحرية لتصبح الحرية السياسية فى انتخاب السلطة.
تلك الثقافة التى كانت بعيدة عن حياة أجدادنا «على طول التاريخ العربى ندر ان زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير أخذ الحكم وراثة أو أخذه عنوة، مشكلة الحرية السياسية إذن على رأس مشكلاتنا المعاصرة، ولن أجد فى التراث حلولا لها».
فالحديث إذن عن النظام الأمثل لإدارة الحياة الديمقراطية، بين نظم برلمانية ورئاسية، لن يكون إلا بلسان أعجمى، لأن منشأ الحضارة الحديثة التى نعيشها كان أوروبيا.
والقضية الأخطر من الحرية السياسية، هى «الحرية الاجتماعية التى تكفل الحياة المادية للمواطنين حتى لا يجدوا رقابهم فى أيدى من يوفرون لهم سبل العمل والعيش».
تلك الحرية التى انقسمت الحضارة الحديثة حولها إلى مذاهب اقتصادية مختلفة، بين النزعة الليبرالية الميالة إلى تقليص دور الدولة فى الاقتصاد والنزعة الاشتراكية المقابلة لها. وهى المذاهب التى كانت وليدة للتطورات الحديثة فى الحياة الاقتصادية كظهور الصناعة والإنتاج الضخم، والتى استدعت بطبيعة الحال دورا جديدا للدولة اختلف الاقتصاديون حوله.
أما التراث فيقول المؤلف إننا لن نجد فيه إلا «مبادئ نظرية تكفل لنا الحرية الاجتماعية» وهى «أقرب إلى التوصية بالصدقات يتصدق بها الغنى على الفقير، فإن فعل كان له الجزاء عند ربه، وان لم يفعل كان له الجزاء كذلك عند ربه، وفى كلتا الحالتين لا شأن للدولة بالأمر».
ويبدو أن زكى نجيب محمود، المعروف بانحيازه لمذهب الوضعية المنطقية ذا الطابع التجريبى، كان يخشى من ان يظن القارئ خطأ انه يدعو إلى اهمال التراث، وان يرسم له صورة المفكر المفتون بثورة العلم فى الغرب، لذا سعى على مدار الكتاب أن يؤكد أنه يريد «تحديد موقفنا من تراثنا تحديدا يجعل الخلف موصولا بالسلف، دون ان تفوت هذه الصلة على الخلف أن يعيش فى عصره ولعصره»، فصحيح أنه «لن يجد المعاصرون عند الأقدمين قبسا يهتدون به فى ازماتهم الفكرية من حيث مضموناتها» .
التعليقات (0)