عادل حمودة يكتب:ثورة التحرير تعلن: يذهب مبارك.. وتبقي مصر
نقلا عن جريده الفجر المصريه
ثورة التحرير تعلن:
يذهب مبارك.. وتبقي مصر
عيوب النظام
- انعزل عن الشعب وحكم بالشماشرجية.. تغاضي عن الفاسدين واستسلم للمنافقين
- تقارير الأجهزة المختلفة كانت فارغة من الحقيقة فكانت الغيبوبة
الانفجار
- جيل الكافيهات والمباريات هو الذي أشعل المظاهرات وصاغ الشعارات
- كان بمثابة المسيح المنتظر الذي أعاد الحياة للوطن تصور حكامه أنه مات ودفن ولن تقوم له قيامه
انجازات الأسبوع الأول للغضب
- حرق التوريث - دفن الحزب الوطني - إذلال أحمد عز - إهانة حبيب العادلي - اختفاء الكلاب المسعورة في الصحافة الحكومية
- طلاق السلطة والثروة
مطالب الأسبوع الثاني
- جمعية وطنية لتعديل الدستور - حكومة انتقالية تمثل القوي الوطنية - التهديد بالبقاء شهراً في الشارع - إعلان العصيان المدني - وتوقعات بانتقال سلمي للسلطة
- وزراء البيزنس اهتموا بالتكويش علي الثروة ورئيس الحكومة عاش حياته علي مزاجه - جمال مبارك كان الأول مكرر في الحكم له بروتوكول وحراسة وتأثير الرئيس
يستحيل أن نتابع ما يحدث في مصر بنصف انفعال.. أو نصف إحساس.. أو نصف اهتمام.. ويصعب أن نكتب عنه ونحن نخبئ تحت ملابسه الداخلية نصف الحقيقة.. أو نصف القصيدة.
إن الكتابة عن ثورة " المليون زهرة " كتابة علي سيور متحركة.. فكلما لحقنا بالحدث عند محطة ما.. جري إلي محطة أخري.. كأننا نكتب عن فيلم لا يزال يصورونه.. أو مسرحية لم يضع مؤلفها نهايتها بعد.
1
لقد ظل النظام طوال سنواته الطوال مقتنعا بأنه المغني الوحيد.. وجميع الأصوات نشاز.. مصرا علي أنه المفكر الوحيد.. ونحن أميون.. مؤمنا أنه المتحضر الوحيد.. ونحن همجيون.. متخيلا أنه الشمس.. ونحن الرعية.
وبسهولة يحسد عليها.. عزل النظام نفسه عن الفاهمين ووقع في براثن المنافقين.. وتسامح مع الفاسدين واستهان بوجود مستشارين.. إلا شخصيات بعينها.. "شماشرجية".. ضاعفوا من سُمك الطبقات العازلة التي احتاجت إلي صوت قوي غاضب صاخب هادر لتجاوزها.. صوت شارع يائس من إصلاح أو تغيير أو استجابة لأبسط حقوقه.. فتوحد عند مطلب واحد ردده في هدوء وثقة.. " الشعب يريد إسقاط النظام ".. في هذه اللحظة التي أتيح فيها للرئيس أن يسمع بدا أن الوقت قد فات.
2
لم يكن في التقارير التي تصل إلي الرئيس من أجهزته ما يعكس حقيقة ما يجري في البلاد.. كلها كانت تؤكد أن " كل شيء تحت السيطرة ".. أما السبب فهو خوف المسئولين من أن يكشفوا عما عندهم من عيوب ومتاعب ومعاناة فيتهمون بالتقصير ويطردون من مناصبهم.
منذ نحو سبع سنوات كان صبري العدوي قائد الحرس الجمهوري في مزرعته علي طريق السويس عندما طلب منه الرئيس أن يتصل به علي تليفون أرضي حتي لا يلتقط أحد المكالمة.. وعندما أصبح معه علي الخط كلفه بمهمة تقديم التقارير التي ترفع إليه.. ورغم سعادته بالمهمة فإنه ظل شهورا طويلة لا يجد في التقارير شيئا يلفت الانتباه ويستحق العرض.. فكل الحقائق تحجب من المنبع عن رأس الدولة.
ومن جانبها كانت المجموعة المحدودة القريبة من الرئيس تباعد بينه وبين كل الأصوات الجريئة
البعيدة المختلفة عن "شلل" المستفيدين من الحكم.
ذات يوم سألني الرئيس: "أنت فين طلبناك في كل التليفونات ولم نجدك؟".. ولم أجد ما أرد به.. فالمؤكد أن من كلفه الرئيس بالاتصال كذب عليه.. ليست هناك مصلحة من "البطانة" في توسيع الدائرة الضيقة.. القابضة.
حدث ذلك في آخر لقاء جري بين الرئيس ورؤساء تحرير الصحف المختلفة منذ ست سنوات.. ومن يومها لم نر الرئيس ولم نناقشه وجها لوجه.. وبعدها ألغي اللقاء السنوي في معرض الكتاب مع المثقفين.. وكانت الدعوي التي سادت من بطانته.. "لا تزعجوا الرئيس".. " لا تنكدوا عليه ".. فهم يريدون مضحكين لا مهمومين.. فكانت نكات طلعت زكريا (بطل فيلم طباخ الريس) أهم من تصورات محمد حسنين هيكل عن المستقبل.
وبهذه الدعاوي حجب عن الرئيس ما رأته الشريحة الملتصقة به مزعجا مهما بلغت أهميته.. فدخل النظام في حالة من الطمأنينة لم يكن بينها وبين الغيبوبة مسافة كبيرة.. وهو ما كرس حكم الفرد في مصر.. حيث وضعت كل السلطات والصلاحيات في يد الرئيس.. ولم يعد شيء ينفذ إلا بعد الرجوع إليه.. وهو ما عطل أمورا بدت عاجلة.. وخلق مسئولين ينتظرون التعليمات.. وكرس تأخر إصدار القرار الذي أصبح سمة شهيرة من سمات الحكم.
3
إن " مسرح الشخص الواحد " لم يعد له وجود في هذا العصر.. فلا يمكن لإنسان مهما تعددت قدراته ومواهبه أن يعتبر خشبة المسرح أملاكا خاصة له.. فيشطب النص المكتوب.. ويلغي السيناريو.. ويطرد الممثلين وعمال الإضاءة ومهندسي الديكور والجمهور.. ويعتبر نفسه ملهما ومعصوما.. أرسلته العناية الإلهية ليحكمنا.. وينقذنا.. ويأخذنا إلي جنات تجري من تحتها الأنهار.. فأصبحت مصائرنا معلقة في شفتيه.. أو قدميه.. دون أن يكون لنا رأي في المسرحية التي تعالج شئون يومنا وغدنا.. حياتنا وموتنا.. إن المسرح الوحيد المعترف به في هذا العصر هو " المسرح القومي ".. حيث لا يوجد سوي بطل واحد.. اسمه الوطن.
4
وقد عبر الوطن عن نفسه بمظاهرات فاجأت وأذهلت وشلت الجميع.. وأثبتت أن كل شيء ممكن
الأعمي أبصر.. وبعد طول خرس نطق.. والموت الجماعي الذي دفن فيه سنوات طوال انتهي بعودته مرة أخري للحياة.. وكان الشباب هو المسيح المنتظر الذي حقق كل ذلك بوعي إجباري فرضته عليه ظروف صعبة عجز عن التكيف معها.. فقرر الرهان بحياته مقابل حريته.
إن الجيل الذي وصف بجيل "الكافيهات" و"المباريات" هو الذي أشعل المظاهرات.. نزل من عالمه الفضائي الافتراضي عبر أجهزة الكمبيوتر إلي أرض الواقع.. مستخدما شفرة التكنولوجيا ولغتها (الفيس بوك والتويتر ورسائل الموبايل) في التجمع والتوحد وصياغة الشعارات وتحديد المطالب.. دون قيادة حزبية توجهه.. أو شخصية تقليدية تديره.. فكل الوجوه ممسوخة.. محروقة.. غير مهضومة.
لقد دخلت جميع أطراف اللعبة السياسية مرحلة الكهولة.. لذلك لم تفهم براءة الشباب الذي وجد الشارع خاليا منها.. فخرج علي الطاعة الأبوية وتقاليد العائلة وطلب الحقوق بالشوكة والسكين.
إن القيادات التلقائية التي صهرتها الأحداث الأخيرة ليست قيادات سابقة التجهيز.. ليست تمثالا محدد القسمات في متحف الشمع السياسي.. إنهم ظاهرة استثنائية.. كالبرق والرعد ورياح الخماسين.. وعلي هذا الأساس يجب فهمهم.
الكلام القديم لم يعجبهم لذلك تخانقوا مع المنتج والمخرج والمصور والماكيير والمؤيد والمعارض.. وطلبوا من الجمهور أن يسترد ثمن التذكرة.. فالسينما كلها "أونطة" في "أونطة".
لقد تصرفوا كمن يقود موتوسيكلا بأقصي سرعة في شوارع مصر النائمة.. وكتبوا بالطباشير الملون كلاما غريبا علي كل الأبواب لم يجرؤ عليه أحد من قبل.. مسوا القمم المحصنة.. وسكبوا البنزين علي الخطط المسبقة.. وأمسكوا بمقاليد الأمور لأول مرة في التاريخ المصري.. الفرعوني.
5
إن أول إنجاز حققوه فور خروجهم إلي الشارع هو شطب كلمة " التوريث " من القاموس السياسي وطرد فريق "الصغار" الهواة من دوري الشأن العام.. فقد خرج من الملعب جمال مبارك ومرشده الروحي أحمد عز.. وبحرق مقر الحزب الوطني بدا أن "العجل المقدس" قد فقد صلاحيته.. ولم يعد هناك من يصلي وراءه.. واختفت حناجره القيادية.. وأصابها الخرس.
إن الانعطاف الحاد في النظام بدأ منذ نحو عشر سنوات عندما كبرت في رأسه فكرة التوريث.. ورغم
مصر ليست سوريا " فإن قوي المصالح الشخصية الضيقة نجحت في أن تجعل الجمهورية المصرية.. ملكية.. فقد أصبح "ابن الرئيس" الأول مكرر في الحكم.. أحلامه أوامر.. وأفكاره قوانين.. ورغباته قرارات.. فكل رؤساء البنوك ورؤساء التحرير ووزراء البيزنس أتوا بكلمة منه.. وبقاء وزير الداخلية اللواء حبيب العادلي بقاء مزمنا في السلطة ــ محققا رقماً قياسياً لم يصل إليه ضابط شرطة من قبل ــ كان دعما له.. من يرضي عنه جمال مبارك ترفعه الأعناق.. ومن يغضب منه تدوسه الأقدام.. وفي الشهور الأخيرة أصبح يحظي بموكب وبروتوكول وحراسة وصلاحيات رئيس الجمهورية.. وكان المبرر الذي يسوقه المقربون منهم ـــ مثل وزير الصناعة والتجارة السابق رشيد محمد رشيد ــ إنه يساعد والده.. وكأن مصر مشروع خاص يمتلكه الرئيس هو وابنه الكبير.
وقد وصفه أمين تنظيمه أحمد عز في مؤتمر الحزب الوطني السادس العام الماضي بأنه " مفجر ثورة التصحيح ".. وفي حضور الرئيس بدا الوصف تجاوزا فجا.. فثورة تصحيح الأبن كانت لمسيرة الأب.
ويعرف هواة الكواليس أن أحمد عز نجح في السيطرة علي جمال مبارك واستخدمه في ضرب المقربين منه (مثل أسامة الغزالي حرب ومني ذوالفقار وأسامة الباز وحسام بدراوي وطاهر حلمي) وتجميد بعضهم وتحويل البعض الآخر إلي خصوم وقفوا لمشروع توريثه بالمرصاد.
وبانحياز جمال مبارك إلي أحمد عز تراجع نفوذ الحرس القديم في الحزب الحاكم.. وتركت له الفرصة كاملة ــ بمساعدة ومساندة من حبيب العادلي في تزوير الانتخابات الأخيرة ــ كي يحتكر سيطرته علي مجلس الشعب.. نقطة اللاعودة بين الشعب والنظام.
6
إن نظريات الحرب تنصح المنتصر أن يفتح منفذا لجيوب مقاومة الخصم كي يصبح أفرادها أسري وأن لا يخنقهم بالحصار حتي لا يتحولوا إلي انتحاريين يوقعون الخسائر في صفوف جنوده قبل أن يقتلوا أنفسهم.
لكن.. تاجر حديد وسيراميك بدأ حياته طبالا في فرقة موسيقي غربية مثل أحمد عز لم يفهم مثل هذه النظريات التي يعرفها تلاميذ السنوات الأولي في العلوم السياسية.. وتصور أن الدولة مثل الشركة يجب الاستحواذ علي كامل أسهمها.. فقتل أسري المعارضة في البرلمان بكل ما كانوا يمثلونه من ديكور شكلي فبدأت المقاومة بالأحزمة الناسفة.
وطالت نتائج الانتخابات المخزية الحكم ذاته.. فقد وجد الرئيس نفسه في مأزق حرج.. فمن أصبح من حقهم ترشيح أنفسهم أمامه في سبتمبر القادم ليسوا في مستوي قامته وتاريخه وشرعيته.. وهو ما جعله يرسل إلي البرلمان بتعديل قانون الانتخابات الرئاسية كي يتيح الفرصة لمرشحين مستقلين محترمين للنزول أمامه.. وكان مقررا أن يناقش مجلس الشوري هذه التعديلات يوم الأحد الماضي.. لكن.. مظاهرات الغضب التي اشتعلت تجاوزتها إلي ما هو أصعب.. وأبعد.. المطالبة برحيل الرئيس نفسه.
وأغلب الظن أن عقدة التوريث هي التي جاءت بشخصيات متواضعة للمنافسة علي الانتخابات الرئاسية.. فقد تصور "عز وشركاه" أن الرئيس لظروف قدرية معروفة قد لا يستمر في الحكم.. ولو خلفه ابنه فلابد أن ينتصر علي خصوم ضعفاء تقتصر مهمتهم علي استكمال الشكل ولو جري التشكيك في الشرعية.. المهم أن يركب السلطة ويهز ساقيه.. وكأن أول من فكر في رحيل الرئيس وحسب حسابه وتوقع حدوثه مقربون منه لا بعاد عنه.
7
وليست بطولة متأخرة أن أذكر أننا كنا أول من كشف أحمد عز وتساءلنا عن مصادر ثروته الخرافية ومصادر قوته الفجائية التي نقلته فجأة من خانة المديونين إلي خانة المسيطرين.. وظلنا نطارده دون توقف.. وكان الثمن الذي دفعناه غاليا.. شتائم من صحفيين معبرين عنه مثل عبدالله كمال الذي مول له صحيفته اليومية منهارة التوزيع ومسخ تاريخ مؤسسة عريقة مثل روز اليوسف ومحمد علي إبراهيم الذي أجهز علي صحيفة الجمهورية التي خرج ترخيصها باسم جمال عبدالناصر.. وغيرهم ممن يجدون أنفسهم في ورطة الآن يصعب عليهم الخروج منها إلا بالإنقلاب علي سادتهم.
يضاف إلي ذلك أن أحمد عز بكل قوته وثروته جرجرنا إلي المحاكم في قضايا مختلفة تصور أنها يمكن أن تسكتنا.
8
ونجح الشباب الذي نزل الشارع وأصر علي البقاء فيه أن يهز أركان الحكم ويلخلخه.. ويفقده توازنه.. فلم يجد الرئيس سوي أن يلجأ إلي المؤسسة العسكرية في خطوة إجبارية متوقعة أعاد فيها الأمانة إلي أصحابها.
بعد ثلاثين سنة من فراغ منصب نائب الرئيس
شغل المنصب عمر سليمان فيما يشبه المعجزة السياسية التي فرضتها الثورة بسهولة فور أن أصرت علي موقفها وعلي بقائها في الشارع.
كان انتقال السلطة إلي عمر سليمان مطلب جماعات سياسية وحزبية وشبابية أن يلعب دورا مباشرا في الحكم تحت شعار: "لا جمال ولا الإخوان وإنما عمر سليمان".. وفتحوا موقعا إلكترونيا وضعوا عليه كل ما يمت للرجل بصلة.. وهو ما سبب له حرجا وصل إلي ذروته عندما وضعت ملصقات تطالب به رئيسا في شوارع القاهرة.
في ذلك الوقت كنا في واشنطن نغطي رحلة الرئيس التي أطلق فيها باراك أوباما إعادة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.. وكان متوقعا أن نلتقي عمر سليمان كما تعودنا.. فهو الوحيد الذي يعرف كل خبايا ذلك الملف.. لكننا.. لم نره ولو عابرا في فندق فورسيزونز (بمنطقة جورج تاون) وإن لمحناه خاطفا ــ دون فرصة للحوار معه ــ في البيت الأبيض قبل ساعة واحدة من عودته مع الرئيس إلي القاهرة.
وترتب علي تلك الوقيعة بين الرئيس ومدير مخابراته أن قبض علي ثلاثة شباب من حزب الجبهة الديمقراطية ــ خطفوا من أمام بيوتهم ــ لمعرفة الحقيقة.. وعند التحقيق معهم ــ من جهات أمنية غير معتاد لها الظهور مدنيا ــ كان ردهم: " إننا كنا نطالب بعمر سليمان طلبا لإصلاح من داخل النظام.. لكن.. بعد ظهور محمد البرادعي تغيرت وجهة نظرنا ولم نعد نثق بغيره ".
ورغم طول بقائه في منصبه السابق لم ينسب لعمر سليمان ما يوحي باستغلال نفوذه.. كما أنه لم يفقد تواضعه.. ولم يتنازل عن أدبه الجم.. ولم ينفد صبره الذي اشتهر به.. يضاف إلي ذلك عزوفه عن السلطة.. ورغبته في السنوات الأخيرة في التقاعد ليقضي وقتا أطول مع أحفاده.
ويحمل عمر سليمان غالبية ملفات السياسة الخارجية (المياه والسودان ومفاوضات السلام والعلاقات المصرية ـ الأمريكية) ويحظي بعلاقات طيبة مع صناع القرار في المنطقة العربية والغربية.
9
وأغلب الظن أن الرئيس شعر بصدمة مروعة من الهتافات المصرة علي رحيله.. بل وتجاوزت الرحيل إلي المحاسبة.. فبعد شعار المظاهرات المتفرقة في المحافظات.. " الشعب يريد إسقاط الرئيس " أصبح شعار مظاهرة المليون مواطن.. "الشعب أسقط الرئيس".. فكأن إصرار كل هذه
الجموع علي مطلب واحد استفتاء علي عدم بقاء الرئيس في مكانه.
وهو ما أقنع مبارك علي ما يبدو بأن وجوده في السلطة لن يتجاوز الشهور الباقية في فترته الرئاسية الحالية.. دون حماس واضح لترشيح نفسه كما كان متوقعا لفترة رئاسية جديدة.. لكنه.. لم يشأ أن يترك موقعه مستجيبا لأصوات في الشارع حتي لا يحدث فراغ في السلطة.. ربما يغري بصراعات قوي قادرة عليها.. كما يغري بدخول الإخوان المسلمين معركتهم الأخيرة مع النظام.. فقد أدركوا أن النظام لو استرد عافيته ــ مهما كان من فيه ــ لن يتركهم.. فراحوا يثبتون المعتصمين في ميدان التحرير بنفس الدعوي.. " لو انسحبتم من الميدان ستسحلون في الشارع الذي تسيطرون عليه ".
لقد كلف الرئيس نائبه بفتح الحوار مع القوي السياسية الأخري، ولكن الدعوة جاءت قبل أن تجري اتصالات برموز المعارضة إلي حد أن رفعت السعيد خرج علي الهواء قائلا: " لقد تلقينا الدعوة من التليفزيون ".
ولم يكن معروفا أو محددا من هي القوي التي ستُدعي للحوار: هل هي الأحزاب التقليدية فقط، أم ستضم الجماعات الشبابية التي فجرت الحدث؟.. هل ستضم شخصيات مشاركة مثل محمد البرادعي، أم سيضاف إليها شخصيات دعيت للتعبير عن رأيها مثل عمرو موسي؟
ولكن.. قبل أن يجيب النظام عن هذه الأسئلة رفضت القوي الوطنية الحوار إلا لو خرج الرئيس من الحكم.. فعاد الجميع إلي المربع الأول لأزمة الحكم وانهيار الشرعية.
10
والحقيقة أن النظام لم يتصرف بالسرعة الكافية لاستيعاب الأزمة.. فكان يوافق علي المطلب متأخرا بعد أن يكون الشارع قد انتقل إلي مطلب أكبر.
كنت قد طالبت علي شاشة "المحور" في حوار مع معتز الدمرداش بأن يحاكم أحمد عز ويعلن النظام عن فض التوريث ويتعهد بتنفيذ أحكام محكمة النقض الخاصة بطعون الانتخابات الأخيرة، بجانب تشكيل لجنة عليا لمواجهة الفساد ومجموعة تحقيق قضائية في تزوير الانتخابات، وتحويل المدانين إلي محكمة الجنايات، ولم أنس بالطبع التخلص من حكومة رجال الأعمال ومحاسبة الفاسدين فيها.. كان ذلك ليلة الأربعاء الماضي.. ومن ردود الفعل الفورية.. كان واضحا أن ما قلته اعتبره الشارع برنامجاً فورياً عاجلاً
لعلاج الموقف الحرج الذي وجد النظام نفسه فيه.
لكن.. لم يتحرك النظام مستجيبا إلا في وقت متأخر من يوم الجمعة، بعد أن انهارت الدولة البوليسية وعمت الفوضي وبدأت القاهرة في الاحتراق.. خرج الرئيس مكتفيا بتغيير الحكومة.. وبعد يومين آخرين.. خرج رئيس مجلس الشعب ليتحدث عن تنفيذ أحكام محكمة النقض.. وبعد يوم آخر.. كرر الحديث نائب الرئيس.. علي أن ذلك كله كان شيئا بسيطا.. لا يرضي طموح الشارع الذي تمسك بطلب واحد.. رحيل الرئيس.
ولا شك أن هناك مسافة شاسعة بين رؤية الرئيس بوجود شيء ما يدبر للبلد لو وافق علي الرحيل وترك البلاد قد يكون ثمنه فادحا، وبين التيارات المعارضة التي تصلبت عند مطلب التخلص منه خشية الانتقام منها لو منحته فرصة الحياة من جديد.. وفشل كل طرف في أن يقنع الآخر بوجهة نظره.
11
وبتعيين أحمد شفيق رئيسا للحكومة تضاعف نفوذ المؤسسة العسكرية في السلطة التنفيذية.. وفي الوقت نفسه سقطت حكومة البيزنس التي شكلها أحمد نظيف وخرج رموزها (مثل أحمد المغربي ورشيد محمد رشيد وزهير جرانة وحاتم الجبلي).. كما خرج غالبية رجال أحمد نظيف (مثل علاء فهمي ومحمد نصر علام).
واللافت للنظر أن استغراق أحمد نظيف في حياته الشخصية تجاوز اهتمامه بالحياة العامة.. فقد مشي "بمزاجه".. إذ أعلن عن زواجه الثاني من سيدة عملت معه في مركز دعم القرار وهو مجرد أستاذ في الجامعة.. وتسببت في أمر ما جعل طلعت حماد وزير شئون مجلس الوزراء (في حكومة كمال الجنزوري) يستدعي وزير قطاع الأعمال عاطف عبيد ويخيره بين استقالته وإقالة أحمد نظيف من المركز.. وعندما اصبح عاطف عبيد رئيسا للحكومة اختار أحمد نظيف وزيرا للاتصالات.. دون أن يعي أنه سيحل محله في رئاسة الحكومة.
وفور الزواج الثاني لم يتردد أحمد نظيف في أن يبدا شهر عسل لم يتوقف تقريبا إلا بعد خروجه من السلطة.
وفي الوقت نفسه اهتم أحمد نظيف بالتكويش علي ثروة عقارية راح يجمعها بصورة مثيرة للدهشة.. وكنا أول من نشر وثائق تسجيل قصوره الثلاثة في منتجع النخيل الذي راح في عهده يتوسع ويمتد ويكتسب أراضي جديدة..
المخصصة للزراعة إلي منتجعات سكنية قال ـ في حواره مع عبد اللطيف المناوي علي شاشة التلفزيون المصري: " نحن نزرع البلح ".. وكان ذلك كفيلا بوصف حكومته بحكومة " عجوة ".
وكشفت المستندات عن امتلاكه لجناح في فورسيزونز سان ستفانو بما يساوي ثمانية ملايين جنيه، بجانب تحويل كابينة علي شاطئ المنتزه إلي فيللا بعد إصلاحات وإضافات دفعت الشركة المسئولة (وهي قطاع عام) ثمنها.
بهذه الممتلكات التي رحنا نرصدها له كسب ملايين لم يحاسبه أحد عليها، وكان يوم دخل الحكومة يسكن بيتا بالإيجار يملكه أيمن رستم زوج شقيقته في منتجع جاردينا.
وسيطرت الزوجة الشابة علي القرية الذكية التي فضل العمل منها والبقاء فيها، وكانت شيكات أرباح وزارة الاتصالات التي تمثلها في مجلس إدارة القرية تخرج باسمها ـ حسب تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات التي نشرناها ـ دون أن يسأله أحد عن ذلك.. كذلك لم يسأله أحد عن ملف جامعة النيل التي أنفق عليها من ميزانية وزارة الاتصالات يوم كان علي رأسها رغم أن ترخيص الجامعة خرج باسم جمعية أهلية.
وقد طلب الرئيس من الجهاز المركزي للمحاسبات تقريرا عن الجامعة وعندما وصل إليه لم يحدث شيء.
والمؤلم أن ملفات الفساد كانت الملفات الوحيدة التي تضخمت علي مكتب النظام دون أن يفكر في محاسبة أحد أو عقاب أحد.. وعندما فلت ملف وزير الإسكان الأسبق محمد إبراهيم سليمان ووصل إلي النيابة العامة.. كنا متأكدين أنه سيخرج من التحقيقات كالشعرة من العجين.. وكتبت بوضوح عن " القوي العظمي التي ستنقذ إبراهيم سليمان من السجن ".. وتحقق ما توقعت.
ويمكن القول إن هناك إدارة بالإهداف وإدارة أخري بالخطط، ولكن النظام اخترع طريقة جديدة للإدارة هي الإدارة بالفساد.. فالفاسد يسهل السيطرة عليه.. ويسهل إخضاعه وإسكاته.
12
والمفاجأة الإضافية للأحداث.. هي خروج حبيب العادلي من وزارة الداخلية.. وكان مؤكدا بقاؤه في منصبه إلي ما بعد توريث جمال مبارك الحكم.. فقد وضع نفسه وقوات الشرطة (نحو مليون ونصف المليون جندي) في خدمة الخلافة العائلية.
ويمكن القول إنه تمتع بحسن الحظ.. فقبل
توليه منصبه بعد المجزرة الإرهابية في الأقصر (نوفمبر 1977) ورفض الرئيس إعادة سلفه حسن الألفي علي طائرته إلي القاهرة.. كان حبيب العادلي يبحث عن وظيفة مستشار أمني في الجامعة العربية بمرتب مناسب بالدولار يعينه علي سنوات التقاعد.. لكنه.. وكان رئيسا لجهاز أمن الدولة قد وجد نفسه وزيرا للداخلية.. وقد كان يتفاءل بحوار يجريه معه مفيد فوزي كل سنة في عيد الشرطة.. لكنه كسر تفاؤله بحوار مع الأهرام أجراه معه أسامة سرايا.. كان علي ما يبدو نحسا عليه.. فلم تمر ساعات علي نشره حتي انفجرت مظاهرات الغضب وراحت تتصاعد ودارت الدوائر بكل ما هو غير متوقع.
وكان أهم ما فعل داخل وزارته نقل مهمة التسجيلات من أمن الدولة إلي مكتبه حتي لا يستخدم ما في الأشرطة استخداما ضده ـ كما حدث من قبل.
وهناك من يري أنه يستحق المحاكمة بسبب الفراغ الأمني الذي حدث يوم الجمعة الماضي قبل ساعتين من نزول القوات المسلحة.. ويصر البعض علي علي أن ما حدث مؤامرة أدت إلي ليلة من الفزع عاشتها مصر في مواجهة قوي عشوائية مجهولة راحت تسرق وتنهب وتروع الآمنين.
وقد جاء خليفته محمود وجدي من المعاش بعد أن أخرجه من منصبه الأخير مسئولا عن السجون قبل فترة وجيزة من التجديد له.. ولعلاقته القوية برئيس ديوان رئيس الجمهورية الدكتور زكريا عزمي ورئيس الحكومة أحمد شفيق.. وقع الاختيار عليه ليخلف خصمه حبيب العادلي.
إن الفترة القادمة ستكشف عن أسرار مذهلة عما جري من انقلاب الأمن علي نفسه وعلي من يحميه، وتسليم البلد للبلطجية وفتح أبواب السجون بالقوة وهروب نحو 70 ألف سجين منهم قيادات إخوانية.
13
لم يكن من الصعب أن يتجمع مليون مواطن فور الدعوة للمظاهرة المليونية.. فقد أجمع المصريون علي أن النظام قد انتهي وعليهم أن يساهموا في الإجهاز عليه.
إن التاريخ الحديث يكشف عن مسافة بين يوم موت النظام ويوم دفنه.. فنظام الملك فاروق مات في حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952.. ونظام جمال عبدالناصر مات يوم 5 يونيو 1967 ودفن
يوم 30 سبتمبر 1970.. ونظام أنور السادات مات يوم 18 يناير 1977 ودفن يوم 6 أكتوبر 1981.. ونظام حسني مبارك مات يوم 25 يناير الجاري ويصر المتظاهرون الذين احتشدوا في الميادين العامة (وعلي رأسها ميدان التحرير والشوارع المحيطة به) علي الإسراع بدفنه.. فقد أجمعوا علي أن التفاهم يبدأ بعد رحيل الرئيس لا قبله.
ورغم اختلاف القوي الوطنية فيما بينها.. ورغم محاولات كل منها ركوب الموجة.. فإن المطالب المحددة:
(1) خروج الرئيس.
(2) تشكيل حكومة مؤقتة يشكلها قضاة مصر من 30 وزيرا تسير الأعمال قبل أن تتاح الفرصة لحكومة أخري تأتي بالطريق الديمقراطي.
(3) جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد تضم ممثلين عن فئات ونقابات مختلفة، وتضم ستين شخصية منها أربعة قانونيين للصياغة.
وحسب ما قاله الدكتور ممدوح حمزة.. فإن المتظاهرين لن يغادروا أماكنهم ولو بقوا شهرا.. كما أنهم طالبوا بوقف العمل في الموانئ والمطارات والسكك الحديدية والنقل العام للإعلان عن عصيان مدني كامل.
14
ضاعف من أزمة النظام وشعور المتظاهرين بالانتصار فزع الدول الأجنبية علي رعاياها.. فقد خصصت صالة الحجاج لترحيلهم بعد الساعة الخامسة.. موعد انتهاء الرحلات التجارية.. وكانت الجنسيات البريطانية والأسترالية الأكثر تنظيما.. وكانت الجنسية الأمريكية الأكثر عددا.. وكان المسافرون يسلمون جوازات سفرهم للقوات متعددة الجنسيات التابعة للأمم المتحدة التي كانت تنظم إجراءات سفرهم.. أما الألمان، فليس في تقاليدهم قواعد لترحيل الرعايا.. إلا إذا لجأ أحدهم للسفارة.. وكانت المرة الأولي التي تهبط طائرة هندية لنقل رعايا الهند.. وترك رعايا قبرص واليونان لمصائرهم.. وقد وجهت السفارات إنذارات لرعاياها بأن الموعد الأخير لمساعدتهم هو يوم الخميس.. وحتي ليلة الثلاثاء لم يكن سوي نصف الأجانب قد غادروا القاهرة.
15
إن الأزمة كلما انفرجت تعقدت.. فالشد من
هنا ومن هناك قد ينتهي بكارثة يدفع ثمنها الوطن من ممتلكاته وحريته ودماء أبنائه. راهنت الملايين الغاضبة علي عند الرئيس.. كي تستمر.. وتواصل.. وتصر علي مطالبها.. ومن ثم تظل العقدة في المنشار.
لكن.. عناد ثلاثين سنة من مبارك انقلب بنفس القدر والكم مع حساب الفوائد المتراكمة إلي مرونة.. فقد فاجأ الأمة بإعلان عدم ترشيحه لفترة رئاسية قادمة.. وأكد أن هذه كانت نيته.. بجانب تعديل مادتي 76 و77 من الدستور.. الأولي خاصة بشروط الترشيح للرئاسة.. والثانية تفتح مدد الترشيح بلا حدود.. ولأنه لم يعد طرفا مباشرا، فإن التعديل سيأتي علي هوي الأمة لا بشروط السلطة.
وبرر مبارك بقاءه في الشهور الأخيرة بحفاظه علي نقل السلطة سلميا.. دون أن تجد القوي المختلفة نفسها في صراع ربما يصل إلي الدرجة المسلحة عند مستوياتها العليا.. ودون أن تجد القوي الانقلابية المتطرفة فرصتها في تحقيق فوضي تضاعف من الترويع والتهديد الذي عشناه من قبل.
والحقيقة أن صاحب المبادرة فيما توصل إليه مبارك هو باراك أوباما عبر وسيطه السفير الأمريكي الأسبق في القاهرة فرنك وينزر الذي قام بعملية هبوط بالمظلات الدبلوماسية علي مستقبل السلطة المصرية.. خوفا من أن يمتد ما حدث هنا علي دول عربية أخري.
وما عرضه مبارك يناسب خروجا يكافئ تاريخه الوطني من حقه أن يناله.. علي أن يتعهد للمتظاهرين الذين قلبوا الدنيا رأسا علي عقب بالحفاظ عليهم وعدم تعريضهم للمطاردة والحساب لو هدأت المظاهرات وعاد الغاضبون إلي بيوتهم وأعمالهم.. إذا كانت لديهم أعمال.
يمكن أن يفوض الرئيس نائبه في كثير من الإشراف علي خطط الإصلاح السياسي والدستوري الذي تطالب به القوي الوطنية المختلفة.
لكن.. ما قاله مبارك لم يرض به المتظاهرون القابعون في شوارع مصر وميادنيها.. وإن نال استحسان وإعجاب تيارات أخري في الشعب المصري.. وقد خرجوا في مظاهرات مؤيدة لمبارك لتصطدم بالمظاهرات الأخري.. وينقسم الشعب.. وتزداد فرص الاشتباك.
ولا أملك في النهاية سوي أن أكرر جملة " ربنا يستر ".. نفس الجملة التي نختم بها كل ما نقوله منذ أن انفجر البركان في مصر
التعليقات (0)