كان الوقت مساء أحد أيام ماي ،وهو وقت مناسب لكل شيء ، وكانت الحركة قد بدأت تدب في أوصال المدينة الصغيرة ،لذلك خرجت الشابة ،غير الراسخة في فهم تفاصيل الحياة ، بكامل زينتها تعبر أزقة حيها الفقير وقد بدت كمحارب يتنقل بين دروب مدينة مدمرة .كان أخوها الصغير يلعب مع أصدقائه غير عابئ بها فهو يعلم أنها ستعود صباح الغد وقد حملت معها أعمدة الشوكولاتة التي يحبها ، في الطريق يعاكسها شاب يستنشق مخدرا قويا وهي لا تعيره اهتماما فلو اضطرتها الظروف لمواجهته لأشبعته ضربا ، وستكون أيضا مناسبة لتفجر عليه غضبها التاريخي . بعد أن بلغت ناصية الشارع أشارت بيدها لتاكسي صغير فتوقف في الحين ولم تعر اهتماما لمعرفة من يكون السائق لأنها تعرف أغلبهم مادامت المدينة صغيرة خالية من الأسرار ومن كل دواعي الإستمتاع بالزمن ، لطالما اشتكت من سلاطة لسانهم ، بكلمات مقتضبة طلبت منه أن يوصلها إلى مقهى "الأجساد " فأماء برأسه إيجابا ولم يكن من النوع الذي اعتادت إليه ، وهو أيضا لا يهتم كثيرا لمعرفة وجوه زبنائه لكنه في كل الأحول مغلوب بدواعي قتل الملل يتطلع لمعرفة وجوههم .نظر السائق في المراة التي تتوسط أعلى سيارته ليتعرف على ملامحها . إنه لا يعرفها ولا شأن له بذلك لأنه يعي تماما أن المهنة من أساسها لا تناسب شخصيته وهو المجاز في الحقوق رمته الأقدار قسرا فوق مقعد اختزل حياته في إيصال أناس قد يعرفهم وقد لا يعرفهم مقابل دراهم ينفقها بالكامل على الخمرة والحشيش . أما الشابة ، ولنقل أن إسمها مريم ، فقد راقتها لا مبالاة السائق فنفحته درهمين فوق سعر الأجرة فشكرها بمشروع ابتسامة فاشل .بلغت مريم مقهى الأجساد ووجدتها فارغة ،رغم أن الساعة قد تجاوزت الخامسة بأربعين دقيقة ، إلا من نفر من الزبناء تعرف وجوه أغلبهم ، أحدهم يثير ريبتها بصمته القاتل وتردده على المقهى دون هدف . ما يثيرها فيه هو صمته المطبق وتلك الهالة من اللامبالاة التي يخفي من خلالها غموضا دفينا لا تسعفها فراستها على فك شفراته . في كل الأحوال لا تهتم لذلك. أما هو فيشتهيها لأنها امرأة وهو وحيد ، يشتهيها ويشتهي أخريات يراهن في الشارع لكنه لا يتبعهن . في الغالب يختار أقصر الحلول حتى لو اضطر لمضاجعة امرأة في سن خالته . يعلم أنهن شر لا مناص منه لدواعي كثيرة أبرزها الغريزة المفترسة التي أخذت توجه مسار حياته . كان ينظر إليها بين الفينة والأخرى بينما هي تبتسم في تصنع لصويحباتها وكانت هي أيضا ترمقه مرارا فتتكرس حيرتها وتتساءل من يكون . لما أتى النادل طلبت كوب برتقال فأجابها بمشروع ابتسامة فاشل ، وبعبارة غبر ذات أهمية ، بعد أن فقد كل حماس في تصنع الإهتمام لأنه يعرفها ويعرف أخريات كثيرات يقصدن المقهى . هاجسه الأبدي هو توفير ثمن علاج ابنه الصغير المصاب بمرض مزمن . في سبيل ذلك يتقبل حياة بئيسة يتعايش معها بالقدر الأدنى من الرغبة ، فما يرغمه على البقاء هو إيمانه بالله و بالقدر ومواظبته على الصلاة والدعاء . وهو إلى ذلك يدخن سجائر ماركيز ولا يرفض دعوة إلى مجلس خمر رغم أن ذلك لا يحدث إلا لماما . فهمه المتواضع للحياة لا يوصله إلى مرتبة وضع السؤال العميق :أحياة مثل هذه تستحق أن تعاش ؟؟. في الركن يجلس المتوحد العارف بخبايا كل تلك النفوس . لا أحد يعيره اهتماما . حتىحارسة المرحاض رغم مكافاته المستمرة لها . فهي تمقت الرجال لأن زوجها هجرها لتتكفل هي برعاية ابنتيها حتى اشتد عودهما فهجرتاها بعدما امتهن الدعارة ولم تكن المبالغ التي يمددنها بها بين الحين والاخر بالكافية لتطبيب خاطرها وقد سخطت عليهن حتى لم تعدن تزرنهاإلا في الأعياد، لذلك يمكننا القول بأن حياتها الوجدانية توقفت في النقطة التي لم تعد خلالها تميز بين الحب والكراهية ، فهي لا تعطف على أحد ولا تريد من الحياة شيئا بعد أن رمتها في ركن قذر تنظف المراحيض وتنتظر النهاية . في تلك اللحظة أيضا ، وهي صدف تتكرر مرارا ،لغاية في نفس قاسم الأرزاق ، يدخل صاحب المقهى السكير فيجيل بنظره في الأرجاء باحثا عن سبب وجيه لتوجيه اللوم ولإظهار ضرورة حضوره . فهو يرى أن الأشياء لا تسير دونه . باسمه مسراها ومجراها ، رغم أن كل العاملين يعلمون أنه أتفه من خلق الله ، ولو كان من بينهم من قرأ الوليمة لأعاد الجملة ذاتها التي يصف بها حيدر أكياس الطين الفائضة عن حاجة الأرض ، أو لنقل أنه الشر والغباء المتجلي في خلق الله الذي له في خلقه شؤون لا يعلمها إلا هو ، ولطالما تساءل المتوحد العارف بخبايا النفوس مرار عن الغاية من خلق صاحب المقهى و الصراصير والعقارب والأفاعي . مريم لا تفكر في كل ذلك بل إن ذهنها مشغول بمال الليلة ، وكلما تقدمت عقارب الساعة يزداد توترها ، فالحياة راكدة والزبائن أغلبهم محتال وقد بدأت تجد صعوبة في تمييز الأشرار من الأخيار . حتى هذا الذي ينظر إليها بخجل وتظهر على ملامحه علائم الإحترام لا تستطيع الإنصياع لما يلمح به . وقد لامها في خجله لأنه يدري جيدا أنه لا يريد منها إلا ليلة يفرغ فيها كابة تسببها إكراهات مهنة لا يطيقها .و بع دأن مل من لعبة التقاء الأعين طلب منها بإيماءة من رأسه أن تأتي ليحدثها فترددت لكنها أخيرا استجابت ،بعد التحية سألها، وهو يبتلع ريقه ، عن رأيها في إمضاء ليلة سويا . فقالت أنها لا تبيت وإن شاء فساعة لا غير . فعلت ذلك لتجس نبضه . ولأنه مغاوض فاشل فقد سألها عن السعر فقالت مائتين ،اقترح مائة فرفضت وعادت إلى مكانها وهي تتحدث في الهاتف لتغيضه . لابتلاع النكبة اتصل بصديقه ليلومه على الإخلال بالموعد ، والحقيقة كما قلنا أنه فعل ذلك لبتلاع خيبته لا غير ، كان يدخن وهو يحدث نفسه صراحة أنه لا محالة فاشل في كل شيء ، وقد تكرس ذلك الشعور في ذهنه بعد أن استعاد مواقف أخرى كلها تكرس فشله وحتمية كون حياته مجرد نهايات صغيرة ابتدأت وستنتهي . النادل يحلل كل ذلك وهو يرتشف قهوته السوداء في صمت ويدخن بعمق وهو يفكر في فلذة كبده الذي يصارع الموت . غادر المتجسس على خبايا النفوس المقهى واتجه رأسا إلى صالة الأنترنت المحاذية . وجد صاحبها مكتئبا فحياه بخفوت ورد الاخر التحية بلامبالاة فذهنه منشغل بتركيب جمل لحبيبته التي يشك حقا إن كانت حقا في بيتها أم أنها مع شخص اخر في غرفة مجهزة بحاسوب يقبلها ويسخران منه لأن الفلسفة التي درسها وكل الكتب التي قرأها لم تسعفه في نيل وظيفة ، ولا حتى في معرفة ما يكنه له الاخرون من مشاعر ، لطالما تساءل عن الأسرار القاتمة التي تخبئها عيون البشر ، فهم يريدون لك الصحة بالقدر ذاته الذي يريدون لك خلاء دار أبيك ، يدعون لك بالصحة والمرض ، بالحياة الطويلة والموت العاجل ، خين يعجز عن استكناه ما تخفيه الصدور يستسلم للموسيقى ساهرا الليالي خلف حاسوب ، وهو حتما في طريقه إلى الجنون العضوي لأنه يولج النهار بالليل والليل بالنهارن يسهر الليل أمام شاشة الحاسوب يراقب الزبناء ويدخن الحشيش بينما يقضي أناء النهار نائما ...
في الوقت ذاته تفتح مريم أخيرا فخذيها مكرهة لزبون لا تعرفه . تتصنع الإبتسامة لتجس نبض جيبه . هو يدخن بصمت ويشرب كؤوسا أثيرة تبعث فيه الرغبة في الحياة . يعانقها فيستشعر انعدام الرغبة فيها وتصنعها المشاعر في زمن حساس ، قيل أنه وقت استيقاظ الملائكة...
دون المتجسس على خبايا النفوس كل ذلك ثم أضاف : حياتكم قهر لأنكم لم تختاروا أصلا أن توجدو بين تفاصيلها ، فظللتم تراكمون الأصفار وتبتلعون الخيبات مكرهين بتصنع ابتسامات تنسيكم غدر زمان لم يسألكم إن كانت لكم أصلا رغبة في الإنتشار بين ثناياه ، لم تتساءلوا يوما عن مصير هذا الجوع الادمي الذي لا يوقفه حتى الموت بقسوته ، تريدون العيش الرغيد فتكذبون وتسرقون وتخادعون ، تريدون أو لا تريدون المهم أنكم موجودن شئتم أم أبيتم ، لا تقرأون ولا تكتبون وقد ظللتم دهرا تثرثرون لتداروا عجزكم عن فهم كل هذه التفاصيل ، ألا بئسا لكم..
م.ش / زمرمان / أبريل 2012
التعليقات (0)