عائدون من النسيان البشير عبيد
“أنا لست خائفا من المجهول .كل ما في الحكاية أن شعورا كبيرا بالغربة و العزلة يباغتني كلما مررت حذو مياه النهر المتاخم للمدينة العتيقة.النهار بالأمس صباحا صار قريبا من دائرة الغموض‘فلا تعرف كنه التفاصيل و ليس بإمكانك التمعن في وجوه الذاهبين إلى صفاء النبع.الأزهار غابت عنها رائحة الزمان البهي الأتي من بعيد .“هذا جزء صغير من رسالة تركها لي احد أصدقاء الصبا‘قبل سفره المفاجأ إلى احدي عواصم الثلج و الضباب.كان وحده خارجا عن السرب‘لا تغره المظاهر الخادعة ‘و ليس بإمكان أموال الدنيا أن تبعده عن قناعاته الراسخة .لا ينسي تذكيري في كل لقاء يجمعنا بعشق المياه الطالعة من التلال و ترك الجسد يختار أمكنته القريبة من النفس.دائما تراه يتمعن في أفق الغروب‘كان حدثا جسيما سيباغت لا محالة محاربا من العقود الماضية.لا احد يتجاسر على الاقتراب من الورقات التي يكتبها كل صباح ‘قبل اكتمال الساعة العاشرة‘فالمدن التي لوثتها العولمة بنظره ‘ليست في حاجة أكيدة لانبعاث أصوات لا تعرف تفاصيل الحدث ‘و تنسأ اضاءات الينابيع .فالمرء هنا ليس جسدا فقط ‘إنما هو تركيبة متدفقة من أطياف المعني و تضاريس المبنى و انفتاح الروح على إرهاصات الكون .المكان هو الحاضن للتساؤلات و الذاكرة بطبعها لا تحتفظ بصور الآتين من مناخات الاغتراب و القلق و الهذيان.قبل شهرين‘لم أتوقع أن يفاجئاني باعترافات مثيرة عن علاقته بالمرأة و الكتابة و الموسيقى .فهذا الثلوث المكون لمشهد الحياة لديه ‘لا يمكنه الابتعاد ولو لمسافة قصيرة عن اصواره العالية.لم تكن الشوارع المكتظة بالبشر‘تعني له أي شيء‘إنما الذي يعنيه هو الصفاء الطالع من الأجساد و احتماء الكائن بأنوار الظلال قبل مجيء الصباحات الدافئة.
“لماذا أنت دائما تشعرني بالخوف من الحنايا و الزوايا و الحكايات‘و لا تأخذك خطاك إلى مفردات اليقين‘كان طوفانا من الحيرة باغتك قصد إبعادك عن حيطان الأسئلة المربكة و تقريبك من مساحات الاطمئنان الزائف“.لست ادري ‘هل كلام صديق الصبا خارج من القلب أم نابع من متاهة العلاقة بين الهوية و الذاكرة و الأرض.ذلك إن التراب الذي ينجب الكائن‘يبقى مراوحا في مكانه و لا يعرف أبجديات تشكيل ملامح الهوية ‘و إذا لاحظ إن قوة ما تريد تغييب حضور الذاكرة في عملية صياغة مشروع ديمومة الهوية الباحثة عن مستقر بين الأمل و اليأس ‘وردة النهوض و جرح الانكسار‘نشوة الرحيل إلى ينابيع الروئ و اختفاء أصوات الرداءة من سماء المدينة.لا وقت ألان للإنصات لأي صوت خارج من الدهاليز و لا مجال لإخفاء ورقات الترحال عن الأحبة الغائبين .وحدهم عشاق البحر و القصيدة و الكمان و اللوحة الغامضة ‘يذهبون إلى مساءات التلال‘عسى احد الأولاد يفاجئهم بالرايات و أناشيد البهاء و أخر الورقات من كتاب “التحدي و الرهان“.لا احد هنا يقترب من حائط الذكرى‘و ليس في الوقت متسع لإغراق الضفة الأخرى من المشهد في مياه التساؤل عن جدوى التمعن في الكتب القديمة و الاحتماء بالحيطان العتيقة قبل فوات الأوان.ففي الغرف الكثيرة المحاذية للصقيع مجال فسيح لإرباك خصوم الينابيع و أعداء الوردة الطالعة من خيوط المعنى.ليست الكلمات وحدها الحاضنة لأجساد ترهلت و أبدان غاب عنها الحنين ‘و مدن أضاعت بوصلتها قبل اكتمال المسار و بداية انهيار الخرائط واحدة تلو أخرى من اجل تأسيس كيانات جديدة لتنمية و الحداثة .
صديق الصبا الاستثنائي ‘فجاة غاب عن الجميع و لا ندري إلى أي جهة أخذته رؤاه .يبدو أن مناخات الغربة و الاغتراب‘قد أتعبته كثيرا و جعلت منه رجلا يبحث عن اختلافه الدائم عن الآخرين.لا تهمه إغراءات المال و سيطرة هذا الأخير علي كل شيء في الدنيا .كل ما يعنيه هو رحيل الجسد إلى طقوس الصفاء و النقاء.كان بإمكانه أن يراوح في نفس المكان واضعا رأسه بين الرمال ممنيا النفس بالمال الوفير و الطقس الرائق و الوجه الحسن .لكن تداعيات الأفكار القابعة في الرأس تجعل الكائن البشري ينفتح على كل الضفاف ‘شمالا و جنوبا ...شرقا و غربا‘ليس خوفا من هبوب العاصفة‘إنما وضعا للحجارة المركزية في البناء.وحدها صيرورة اللحظة التاريخية الحاسمة في مسار الكائن الباحث عن سر العلاقة الجدلية بين الهوية و الذاكرة المغتربة القابعة في زوايا النسيان ‘تمعن جيدا في رسم الحدود الفاصلة بين اليقين و التساؤلات الوجودية.
- هل بإمكانك أن تنام وحيدا بعيدا عن جدران الخوف؟
- اجل و بمنتهي اللطف و اللياقة‘تسير الخطى باتجاه الروئ...
بالأمس صباحا‘غاب صديق السنوات العجاف عن الجموع الغفيرة .سال عن الكل ‘و لا احد يعرف تفاصيل هذا الغياب المفاجئ.كل الأزقة و الشوارع و المقاهي و الحيطان ‘تعرف عشقه الخرافي للحياة و المرأة الاستثنائية و الموسيقى الخارجة عن السائد .كان دائما يسألني عن العلاقة بين الهوية و الذاكرة و الأرض.فكان جوابي يأتيه كالأتي:عليك بالتمعن بهدوء و عمق في ديمومة الحياة و تفاصيلها ‘في ثبات البشر هناك...في حيفا و الناصرة و الجولان و بغداد ...كان بإمكان تلك الكائنات أن ترحل تفاديا لضربات الجلادين و القتلة ‘لكن السر الكامن الأسطوري في العلاقة بين الهوية و الأرض هو الحافز لارتباط الإنسان الحر بالتراب الذي أنجبه‘تخليدا لروح الذاكرة و تثبيتا لقيمة الوطن في مسار الحياة الإنسانية مما يجعل الكائن المكتوي بجمرات الأسئلة الحارقة و سياط عشاق فكرة “الاستيطان“لا يخاف من خصومه التاريخين‘بل يغرف من مياه الحنين و يتعطر بالتساؤلات الكامنة في الجسد .
لا خوف ألان من إرباك خصوم الوردة
ولا وقت لإخفاء الحيرة عن العيون
القرى صارت قريبة من حيطان الرؤى
و الخرائط باحت بأسرارها لأحفاد “السياب“...
صديق الصبا الاستثنائي ‘دائما يباغتني بالنصيحة:“حذار من مفاجآت الدنيا‘الحياة مليئة بالتناقضات و الذكي هو من يعرف إذابة كرة الثلج الفاصلة بين وظائف الروح و مستلزمات الجسد “.هذا الكلام الطالع من عمق الانكسارات هو الذاهب حتما إلى قيعان الفكرة الباحثة عن إرادة و أجساد للانجاز...و من يدري لعل الأقاليم المكتظة بالبشر‘تفاجئنا بأولاد و احفاد لا يعرفون الجلوس علي الربوة ‘بل تأخذهم خطاهم في كل لحظة إلى أمكنة النور و أزمنة الرجال الذاهبين إلى التلال و حدائق المعنى وموسيقى التجاوز و نساء الضواحي المؤثثة بالكلام الأنيق و الشموع.
تونس 2010
التعليقات (0)