(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ 0 وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) . صدق الله العظيم (الجاثية 24-25)
لو أننا قرأنا هذا "السفر الجديد" (كما يكاد أن يصفه أتباع دوكنز) المسمى بكتاب "وهم الأله"، لابد وأن نخرج ببعض الملاحظات عنه، ومعظم هذه الملاحظات ستكون عن النتائج اللتي توصل أليها في كتابه هذا أنطلاقاً من مثابات، هي عبارة عن نظريات وشروحات وآيات وردت في كتب الأديان بأنواعها، وأقوال للعديد من الشخصيات . منهم أنبياء، علماء، ساسة رجال دين، وحتى فنانين...
ولكن نود أن نتوقف قبل ذلك عند كلمة ظنون في الأية الكريمة أعلاه، واللتي جائت في موضع نقد للمخالفين للقرآن، وأيضاً جائت كوسيلة تهكم لطيف على طريقة تفكيرهم، بأعتبارها طريقة باطلة عقلاً للأستدلال على صحة معتقداتهم بعدم وجود أله وبعث وآخرة في الطبيعة اللتي نحيا فيها . فالظن اللذي قد يكون محبباً في بعض الأحيان كوسيلة للتسائل والبحث عن الحقائق بأنواعها، يظل ظناً غير مؤكد يستحيل البناء عليه في أي فرع من العلوم، مالم يتحول الظن الى حقيقة مسلم بها بالأثبات الملموس . لذا جاء أستناد الكفار والملحدين، وركونهم الى الظن بمسألة أيجاد الله للكون مذموماً في هذه الأية، لأنه بدون دليل قاطع .
يقول ريتشارد دوكنز في كتابه "وهم الأله" بأنه عنون هذا الكتاب بوحي من مقولة لفيليب جونز، ولأنه وجد أن (القاموس يعرف كلمة وهم كالتالي: أيمان خاطيء أو مزيف) (1) . وبالتالي، فأن جميع أنواع المتدينين هم من الموهومين بوهم اللأله اللذي لايعتقد بوجوده .
لذلك، وأسوةً بريتشارد دوكنز، أرتأينا بوحي من القرآن أن نسمي ملاحظاتنا حول هذا الكتاب، واللتي سنسطرها في هذه التدوينة أنشاء الله، (بظنون دوكنز)، بالمعنى القرآني اللذي وصفناه للكلمة ، لأنه وصف دقيق لكل ما أستنتجه دوكنز في كتابه هذا، فهو بالرغم من جميع محاولاته لأن يضفي على آرائه من الشرعية العلمية والفلسفية، فأننا لابد وأن نكتشف في نهاية الأمر بأن أستنتاجاته لاتعدوا عن كونها ظنون، عبر عنها القرآن الكريم بالآيتين 24و25 من سورة الجاثية، وفي العديد من الأماكن الأخرى أفضل تعبير، حيث يتضح من هذه الآيات الموجودة قبل أكثر من 1400 عام، أن الظنون "الدوكنزية" أن صح التعبير، كانت موجودة وحاضرة في جميع المجتمعات وعبر جميع عصور التأريخ الأنساني، وأنها ليست وليدة (الرقي في الفكر الألحادي المعاصر) اللذي يحاول أن يلون دوكنز وأتباعه آرائهم به، وكأنهم يقولون لنا أن العلم والحضارة المتطورة الحالية لابد وأن تفضي بالأنسان الى الألحاد، وبالتالي يصبح الألحاد بطريقة بهلوانية غير مباشرة أبناً شرعياً للحقائق العلمية، مع أن العلم نفسه يقر بأن النسبة الأعلى من نظرياته لم تبلغ درجة الحقائق، وأن القطعية العلمية هي صفة النظريات الأقل ( ربما لاتصل نسبتها الى الربع) من بين النظريات العلمية الموجودة في عالم اليوم .
في بحث جميل للدكتور باسل الطائي عنوانه (دراسة ريادية في دقيق الكلام، ودور العراقيين في الابداع الفلسفي) يقول : مما يلفت النظر أن مباحث الكلام نشأ أولاً ضمن دائرة العقيدة الإسلامية الداخلية، وعلى هذا يتفق جمهور الباحثين القدماء والمعاصرين سواء كانت هذه النشأة قد تسببت عن الفتنة أيام عثمان بن عفان أو عن الاختلاف في حكم مرتكب الكبيرة أو في الاختلاف حول شرعية النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية وظهور المرجئة وانشقاق الخوارج . لذلك فقد جرى البحث، وقام الخلاف، أولاً في مسائل جليل الكلام . وكانت المشاكل كلها في هذا السجال الكلامي تنحصر في دائرة التأويل، تأويل النص القرآني بوجه خاص باعتباره (أي النص القرآني) المصدر الأساس الذي يتفق عليه المسلمون جميعاً .
ولكن عندما توجه المسلمون بفكرهم وعقيدتهم إلى حجاج الملل والأديان الأخرى كالمانوية والسمنية والنصارى صار عليهم أن يقارعوا الحجة العقلية بحجة عقلية مواجهة، فالغير لا يقبل الاستناد إلى آي القرآن ولا نصوص الحديث . لذلك كان لابد من البحث في أصول وفصول العقيدة .
وتذكر المصادر أن أبو الهذيل العلاف كان أول المنافحين عن العقيدة الإسلامية في مواجهة العقائد المانوية وعقائد السمنية التي ظهرت بعد فتح المسلمين للهند . فقد بعث هذا الرجل البعوث العديدة إلى خراسان وبلاد الهند كما بعث بعوثاً أخرى إلى بلاد المغرب . ما يهمنا هنا أن الضرورة العملية جعلت أبو الهذيل وأصحابه ومن جاء من بعدهم يؤسسون لنظرية "علم الكلام" بناءً على منطلقات عقلية صرف . فصاروا يبحثون في أشياء العالم كلها: المادة وصفاتها وتحولاتها وتفاعلاتها، والحركة والسكون، والمكان والزمان، والثقل والممانعة، والوجود والعدم، وغير ذلك من الصفات الطبيعية والظاهرية، فخرجوا برؤية شاملة قامت على جملة مبادئ وأُسس عقلية. وقد سميت هذه المباحث في ما يُعرف بالأمور الطبيعية، "دقيق الكلام" (3) .
مما جاء به الدكتور الطائي يتبين أن التأريخ يذكر أن للفكر الألحادي وغيره من الأفكار المخالفة للأسلام وجوداً مستمراً في المجتمع اللذي كان ولا يزال يعرف ببلاد المسلمين (حيث أن تعبير الدولة الراشدة أو الأسلامية أو العباسية أو الأموية قد جاء لاحقاً في كتب التأريخ المتأخرة عن هذه الدول) ما يعني أن فرية أرتباط الألحاد بالتطور العلمي الحالي، وكذلك فرية قتل المخالفين، ومنع أو تأخير ظهور الفكر الألحادي الحر وأنتشاره بأرهاب السيف هي غير حقيقية بالمرة، والا لما أحتاج كل هؤلاء العلماء المسلمين للرد على المرجفين ببعث البعوث العديدة إلى خراسان وبلاد الهند والمغرب، حيث كان من الممكن قتلهم وأجتثاثهم من أرض المسلمين من شرقها الى غربها قانونياً، وبكل سهولة . وأن كل العقوبات بالقتل أو بغيره، اللتي وقعت خلال التأريخ على هؤلاء المرجفين قد كانت نتاج وصول نشاطات هؤلاء المرجفين الى درجة الأخلال بالأمن العام، ونشر أفكار مخالفة للقانون والدستور، تماما كما تقوم الدول المتحضرة اليوم بضرب القاعدة والنازية والفاشية.. بيد من حديد بأعتبار أن أفكارهم خطرة على الدساتير والأمن وحقوق الأنسان، وليس أخطر على حقوق الأنسان من الألحاد والكفر، كما سنبين لاحقاً أنشاء الله، وهذا واضح في القرآن بأسلوب فريد وعجيب ظاهره تضاد بين آيات مثل (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) وآيات أخرى مثل ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ألا أن معناها الدال على حرية المعتقد في الأسلام واضح، فكيف يأمرنا الله أن نقاتل المخالف حتى لاتكون فتنة، بينما أعطاه هو سبحانه وتعالى رخصة الأختيار ما بين الكفر والأيمان؟ ألا أذا توفرت ظروف آنية تنقض هذه الرخصة، كمخالفة غير المسلم للقوانين المرعية في المجتمع المحكوم بالدستور القرآني لأحداث فتنة ، ألا أن الملحدين والمخالفين بجهلهم للقرآن واللغة وقعوا في حيرة منعتهم عن هذه المفاهيم الألهية ظناً منهم أن هذا الأسلوب هو تخبط لايمكن أن يصدر عن أله .
أما الأمر الآخر المهم في العبارة السابقة للدكتور الطائي، فهو ألتفات المسلمين منذ الأيام الأولى للبعثة المحمدية، الى أهمية الفكر والعلم في مقارعة حجة المرجفين، حيث أن البحث قد توصل الى أن علماء المسلمين قد فطنوا الى أهمية الوصول الى النتائج عبر البحث العلمي والفلسفي، لأن "الغير لا يقبل الاستناد إلى آي القرآن ولا نصوص الحديث . لذلك كان لابد من البحث في أصول وفصول العقيدة"، وهذا كان واضحاً منذ أن أستطاع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، أن يكسب العشرات من أهل مكة قبل أن يفتح المدينة المنورة لتصبح عاصمة لدولته، فقط بحججه العقلية ومنطقه وأخلاقه المستوحاة من معلمه شديد القوى ، وهذا دليل آخر على أن دوكنز وأتباعه مخطئون، بل وكاذبون بوقاحة عندما يحاولون ألصاق تهمة لاعلمية المؤمنين بالله (على الأقل نحن نتكلم عن أنفسنا كمسلمين، وعلى باقي الأخوة من الأديان الأخرى أن يتكلموا عن أنفسهم ) بسبب قفزهم الى النتائج، قبل الأخذ بالمقدمات والأسباب والمعطيات، وهو ما يخالف المنهج العلمي برأيهم، ألا أن الهذيل وأبن رشد، (اللذي علم أوربا معنى الفكر العلمي الصحيح)، وغيرهم العشرات من علماء المسلمين في الطبيعة والفيزياء والكيمياء وفلاسفتهم، قد سبقوا سارتر ونيتشة ودوكنز الى المنهج العلمي الحديث بآلاف السنين .
هذا أولاً، أما ثانياً فهل حقاً أن الألحاد هو شيء مختلف عن الأديان أم هو دين بحد ذاته؟، وأذا كانت هناك آفات تقتل الأديان كما يحاول أن يفهمنا دوكنز في كتابه، فهل الألحاد في منأى عن هذه الآفات حقاً ؟ .
في التدوينة القادمة سنحاول أن نناقش هذا الموضوع أنشاء الله .
(1) كتاب (وهم الأله) ، النسخة العربية- ص9 – تاليف ريتشارد دوكنز، ترجمة وسام البغدادي .
(2) نفس الكتاب ص32- 33 .
(3) http://www.mesopot.com/old/adad1/adyanwamutkdat1.htm
التعليقات (0)