يحاول ريتشارد دوكنز صاحب كتاب "وهم الأله" وأتباعه أن يصوروا أنفسهم دائماً بأنهم فوق معظم البشر بتفكيرهم الحر، العلمي، الرصين، العظيم ؟! فبزعمهم أن باقي البشرية مقيدة بسلاسل الدين الثقيلة على العقل، وبالتالي فأنها مهلوسة، موهومة بأله أو ألهة، لاوجود لأي منطق علمي يدل على وجوده أو وجودها . ولذلك يركز دوكنز في كتاب ظنونه على تصوير الملحدين كمفكرين أحرار، بل أحرار جداً، أحرار الى درجة أن محاولة وضع الملحدين في أي نوع من انواع التنظيم يعد أمراً مستحيلاً، (تنظيم الملحدين سيكون أشبه بمحاولة أنشاء قطيع من القطط ، شيء مستحيل، حيث هم معتادون على التفكير المستقل وعدم الأنصياع الى أي نوع من أنواع السلطة الفكرية) هذا قول دوكنز الحرفي في الموضوع (3) .
وفي محاولاته المستميتة لتثبيت هذه الفكرة، أوصى دوكنز قراء كتابه أن يذهبوا الى الجزء الثاني منه كي يعرفوا لماذا يعتبر هو الألحاد، ليس توجهاً عقائدياً كباقي الأديان، (ربما تفكر هنا أن اللاأدرية هي موقف معقول، أو أن الألحاد هو توجه عقائدي كباقي الأديان، الفصل الثاني من هذا الكتاب سيغيير رأيك وذلك بأقناعك بأن "فرضية الأله" هي فرضية علمية عن الكون ويجب تحليلها ودراستها بصورة نقدية كأي فرضية أخرى) (5).
يعتبر دوكنز اليوم عراف دين الألحاد الأول في العالم، حيث يتبين من كتابات ومنتديات ومواقع الملحدين على أختلاف جنسياتهم، أن كتابه "وهم الأله" قد أصبح كتاب الألحاد المقدس . ولكن مهلاً . ماذا. كتاب مقدس .. دين الألحاد ؟! هل هذا جائز؟ . وهل الألحاد كالهندوسية أو الزرادشتية أو المسيحية أو الأسلام ؟ هل الألحاد "ليس" فكراً أو عقيدة كباقي الأديان ؟ وهل هو شيء اسمى منها حقاً ؟ .
الدين كمصطلح يطلق على مجموعة الأفكار والعقائد التي تفسر علاقة البشر بالطبيعة الأم وما ورائها، وبالكون المحسوس وكيفية خلقه أو ظهوره (كي لا يتضايق الملحدون)، وبالحياة والموت والبعث، ومن الواضح تماماً، أن للملحدين رأياً وفلسفتاً في ذلك كله .
وأذا كان الدين هو المنظومة الفكرية المتكاملة، المكونة من مجموعة التفسيرات اللتي تحدد علاقة البشر بالكون، وبالخلق، أضافة الى الممارسات والمؤسسات التعبدية المرتبطة بتلك المنظومة، وأيضاً مجموعة العادات والتقاليد والأخلاق والتشريعات المنبثقة من هذه المنظومة، فأن الملحدين يزعمون بأنهم أصحاب فكر مبني على التفكير العلمي الحر اللذي يفسر العلاقة بين الكون والمخلوقات على أنها علمية بحتة لادخل لأله بها، وهنا تصبح الطبيعة هي الخالق، أي أن الأله اللذي خلق الطبيعة برأي الملحد هي الطبيعة ذاتها ؟ . كما تصبح كتب دارون وفرويد ودوكنز كتباً (للأيمان الألحادي) يبني عليها الملحدون عقيدتهم، تماماً كما يبني المسيحي والمسلم عقيدته على الأنجيل والقرآن .
كما أن الملحدين يتشدقون دائماً بأن لهم منظومتهم الأخلاقية الخاصة اللتي أبتدعوها من بنات أفكارهم، وهي أرقى من المنظومات الأخلاقية الدينية مهما كان نوعها، الميثاق العالمي لحقوق الأنسان مثلاً (لا نعلم لماذا هذا الميثاق يجب أن ينسب الى الألحاد) .
ولقد أصبح للملحدين اليوم منابر عديدة مفتوحة على مصراعيها، يبشرون من خلالها بالألحاد . (هل تصدق أن هناك معابد للملحدين في أوربا وأمريكا اليوم، يطلقون عليها أسم كنائس بغير أله (1,2) . ولكن أذا كان الملحدون أحراراً جداً، فلماذا أصبح للألحاد كنائس بدون أله أذاً ؟. يبدوا أن القطط أصبحت تتواجد في قطعان فعلاً ! ياللعجب .
لذلك كله يمكن أعتبار الألحاد ديناً كامل الأركان، لايختلف من الناحية الأصطلاحية على الأقل عن اي دين آخر، لأنطباق جميع تعاريف الدين الموجودة في الموسوعات عليه .
يسوق دوكنز في كتاب ظنونه "وهم الأله" مقولة ينسبها لآينشتاين تقول ( أنا متدين عميق بعدم الأيمان، وهذا بشكل ما نوع من التدين) . وسواء أصدق دوكنز في نسبة هذا القول الى آينشتاين أم لا، فأن ما جاء فيه يعتبر أقراراً بصحة تعريف الألحاد على أنه دين .
يقول دوكنز : (أن نقصان عدد الآلهة من زمن كانت تتعدد فيه اللآلهة، وإنتقالنا للتوحيد كخطوة تطويرية لم يؤثر على حياة البشر حقيقة، فلماذا نقصان هذا الاله الآخير المتبقي منهم سيؤثر علينا الآن، التعليق اللذي كتبه أبن وراق صاحب كتاب "لماذا أنا لست بمسلم" فيه الكثير من النباهة، لآن التوحيد سيصاب بنفس نكبة أنقاص عدد الألهة واحداً آخر ليصبح ألحاداً (4) .
وبذلك يصل دوكنز وأتباعه الى نتيجة مفادها أن نقصان الأله الأخير لن يؤثر على حياة البشر، فالأولى أذاً الأبقاء على وجود هذا الأله على أمل توحد البشر على عبادته، بدلا من التفكير الحر اللذي سيقود البشر الى الأختلاف حتماً، فالأختلاف في التفكير من طبيعة البشر، وبذلك يصبح الألحاد أداة هدم، والدين أداة أجتماع وتوحد، وفي الأتحاد قوة .
طبعاً لايوجد عاقل يقول بأن البشر سيجتمعون يوماً على فكر واحد وألا فلن يكونوا بشراً، ولكننا أردنا أن نبين تهافت فكر دوكنز وأتباعه، فأذا كان نقصان هذا الاله الآخير المتبقي منهم سوف لن يؤثر علينا الآن، فلماذا ننقصه أذاً ؟ ماذا سنستفيد من أنقاصه ؟ .
كتب دوكنز في مقدمة كتاب ظنونه عبارة تهكمية الغرض منها تسويق فكرة أن من بشر بالأديان على طول التأريخ هم من السراق اللذين يمتصون أموال السذج، وأستشهد على ذلك بعبارة لأحد القساوسة يقول فيها (أن الرب يريدك أن تعطي الى حد الألم) وفي عبارة أخرى (من الأفضل أن نترك أمر التبرعات للدعوة الدينية برمته. سيكون لذلك فوائد كبيرة وخصوصا في الولايات المتحدة، حيث الأموال الممتصة من قبل الكنائس لتلميع أحذية الدعاة الأنجيليين في محطات الدعوة التلفزيونية تصل الى حد البذائة دون أن نكون ظالمين) . أذهب الى الرابطين (1,2) وستجد على شريطي الروابط الرئيسين في كلا الموقعين، وبالشكل الواضح جداً، رابطاً لكلمة donate بالأنجليزية، واللتي تعني تبرع بالعربية (بالمناسبة هناك عشرات المواقع لكنائس مماثلة ولكننا نضرب مثال فقط هنا بهذين الموقعين)، وستأخذك الروابط مباشرة الى الطرق اللتي عن طريقها يمكنك المشاركة في تمويل كنائس الألحاد هذه، (يبدوا أن الطبيعة تريدك أن تعطيها الى حد الألم)، ولكن من هم نواب الطبيعة أو قساوستها اللذين سيأخذون هذه الأموال وعلى ماذا سيصرفونها ؟ .
أنا أقترح هنا أن يعطي الملحدون هذه الأموال الى حزب الخضر، لأنهم أكثر من ينشط في الحفاظ على البيئة والطبيعة من التلوث والتخريب، (أي بمعنى أنهم أكثر من يحافظ على ربهم) أليس كذلك ؟!! .
كما قلنا في المواضيع السابقة، علينا أن نناقش المرجف بالحجة العقلية والعلمية لأن المرجف المخالف لايؤمن لا بالقرآن ولا بالحديث، وعلينا الأقرار بأن الدين، حاله كحال أي فكر أو عقيدة غير دينية أخرى، هو قابل للأستغلال في أهداف غير شريفة، وفي الأستيلاء على أموال بصورة غير مشروعة .
ولكن اذا أستخدمنا منطق الملحد في تحليل كتاب ظنون دوكنز (إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) فأننا سنخرج مما سبق بأن الألحاد كفكرة لاتخرج عن فكرة أي دين آخر، فخالق الكون بالنسبة للملحد هي الطبيعة، وقوانين الأله وكتبه اللتي يؤمن بها الملحد (كوهم الأله مثلاً) هي من وحي أله الهوى(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) اللذي يسميه الملحد التفكير الأنساني الراقي، كما أن سارتر ودارون وفرويد ودوكنز وغيرهم كثير ممن حاول تفسير الوجود على طريقته الخاصة، لايختلفون عن أي نبي أبراهيمي (كما يحلو لدوكنز الوصف) أو من غيرهم أن تجاوزنا المنطق الأسلامي لمفهوم الأنبياء .
كما أن كتبهم هي أسفار الألحاد الخالدة(من الملحدين اليوم من يطلق على هذه الكتب وصف أسفار فعلاً). والكنائس الألحادية موجودة في كل مكان على ما يتضح، والتبرعات لها ستفتح باب الفساد الديني فيها لامحالة، وسيلمع العاملين فيها أحذيتهم بتبرعات الملحدين المساكين اللذين يستمعون الى دوكنز وغيره من المبشرين بما يخالف أول قانون من قوانين علم الفيزياء (المادة لاتفنى ولاتستحدث) (4) .
(1) http://www.hcco.org/node/77
(2) http://www.worldviewweekend.com/worldview-times/article.php?articleid=2226
(3) كتاب (وهم الأله) ، النسخة العربية- ص8 – تاليف ريتشارد دوكنز، ترجمة وسام البغدادي .
(4) نفس الكتاب ص33-34 .
(5) نفس الكتاب ص 5 .
(6) http://www.mesopot.com/old/adad1/adyanwamutkdat1.htm
التعليقات (0)