ظمأ وسيم
حسن آل حمادة
وسيمٌ شابٌ في العشرين من عمره. الكل يتطلّع إليه، فهو بحقٍّ اسمٌ على مُسَمَّى؛ قامته معتدلة، ابتسامته مشرقة، نظراته حادة، يُقال في وصفه: إن صورته كالبدر، كما أنه يعيش في أجمل البيوت، ويركب أفضل السيارات.. مستلزمات الحياة الكريمة؛ تحت يديه، وطوع بنانه.
ذات مساء حدث موقف أثّر في مجرى حياته، وقلبها رأساً على عقب، أو عقباً على رأس، سيَّان! فالصدمة كانت موجعة، بل مزعزعة لمثل وسيم؛ فبينما هو جالس في إحدى المزارع مع أصدقائه، وإذا بالحديث يتصاعد ويزداد سخونة، والكل يدلي بدلوه فيه.
أحدهم يقول: نحن لسنا بحاجة للتراث؛ فالتراث كالقيد يكبلنا، لذا يجب أن ننطلق وفق متغيرات الزمن ومتطلباته.
آخر يتحدث قائلاً: التراث هو مصدر عزّنا وكرامتنا، يجب أن نتمسك به، ونرفض كل ما هو جديد وافد.. أسلافنا ساروا وفق منهج معين؛ فلا بد أن نقتفي أثرهم ومسيرهم.
اختلف الجمع إلى قسمين: بين متحيز للتراث، وبين رافض له.. بين داعٍ للتطور، وآخر للجمود.
وسيم لا يدري ما الحل؟ ما المخرج؟
الأنظار تفترسه، ظنّوا أن الإجابة الشافية تختلج في صدره، وعمّا قريب ستخرج من لسانه العذب.
بادره أحدهم بالسؤال:
- يا وسيم: ما هي نظرتك للقضية، ومع أي الفريقين أنت؟
- وسيم يتصبب عرقاً، ويحمرّ وجهه؛ ليغدو كحبة طماطم.
ارتسمت في مخيلتهم علامات استفهام كبيرة.. وكأنهم يرددون: ما هكذا الظن بك يا وسيم!
ساد الصمت في الاستراحة.. ووسيم بعدُ لم ينبس ببنت شفة!
تهامس بعضهم بكلمات تومئ بأن وسيماً ما هو إلا مجرّد بالونٍ فارغٍ.
بينما الصمت سيد الموقف، وإذا بهم يستمعون لنحنحة تأتي من ركن المجلس: احم، احم.. احم، احم.. التفتوا؛ فرأوا أن محمداً ذا الثياب الرثة، هو من يتنحنح.. ظلوا يرمقونه بنظراتهم، ففاجأهم بقوله: هل لي أن أشاطركم الرأي؟
ابتسم البعض، وضحك آخرون! فكيف سيأتي هذا الفقير المعدم، بجواب فصل لهذه المسألة المهمة؟
محمدٌ لم يبالِ بنظراتهم، بدأ حديثه قائلاً: إن الأصالة والمعاصرة.. إن التراث والحداثة، مثلهما مثل جناحي الطائرة، ولا غنى عن أحدهما دون الآخر، فهل رأيتم طائرة تحلّق بجناح واحد؟!
الآذان مشدوهة، والنظرات تتسمر نحو محمد، يطالبونه بالمزيد: أفصح.
أجل، فالإنسان لا يمكنه أن ينقطع عن جذوره، وليس بمقدوره -أيضاً- التخلي عمّا استجد في عالمه.
هل باستطاعتنا التخلي عن: السيارة؟ الطائرة؟ الإذاعة؟ التلفاز؟ الـ... بالطبع ستجيبون بالنفي.
استرسل محمد في حديثه.. نحن بحاجة للتراث، لأنه يمثل جذورنا، فإذا انقطع الجذر؛ لا يمكن للشجرة أن تعيش، وفي نفس الوقت، نحن بأمسِّ الحاجة لكل جديد نافع؛ فالاثنان ينصهران في بوتقة واحدة.
ما إن فَرغ محمد من حديثه وإذا بالجميع يصفِّقون استحساناً.. علموا حينئذٍ أن الإنسان بإمكانه أن يكون عظيماً ولو عاش معيشة الفقراء.
خرج الجمع من المزرعة وهم سعداء يتضاحكون، عدا وسيم؛ فقد خرج مطرقاً برأسه، وابتسامته لا تكاد تبين.
انطلق وسيم بسيارته كالبرق، قصد منزله، استقر على عجالة في غرفته؛ استحضر الحرج الذي عاشه قبل قليل مع أصدقائه، تأمل مليّاً فيما جرى، راح يتصفح الإنترنت؛ ليبحث عمّا كُتب عن: الأصالة والمعاصرة. مكث لحظات، يقرأ هنا وهناك، ثم اتجه نحو مكتبة الأسرة، أمسك كتاباً، قلّب صفحاته، والتهم سطوره وكلماته، ولا زال ظمآناً.
ـــــــــــ
قصة للكاتب منشورة في مجلة الرافد الإماراتية، العدد: 155، رجب، 1431هـ.
http://www.arrafid.ae/st4.html
التعليقات (0)