على الرغم من أن الإطلالة الأولى عليه تلقي في النفس الكثير من الكآبة ، إلا أنني قد اعتدت على وجود ذلك المنزل القديم المتهالك في طريقي عند عودتي من العمل كل يوم . جدرانه من الخارج قد تركت عليها السنون آثارها فقد سقط الطلاء كلية وما تبقى منه لا يمكنك بحال من الأحوال أن تتعرف على لونه .
كنت أسميه القصر ، فعلى الرغم من أن منازل قريتنا قد أزيل معظمها لتحل مكانها الأبنية الحديثة إلا أن ذلك المنزل يقف شامخا بطرازه المميز ، يرتفع عن سطح الأرض قرابة المتر ونصف ، شرفته الواسعة ذات الأعمدة الاسطوانة ينزلق من منتصفها تماما سلم خشبي تم تجديده حديثا بعد أن تآكل كلية أو كاد ، و يحيط بذلك كله سور متوسط الارتفاع من الطوب اللبن على امتداده قد ارتفعت عاليا مجموعة من الأشجار المعمرة تكاد تحجب القصر وراءها عن الأنظار .
و كعادة أهل القرية في التعارف و التواصل فقد كنت أعرف سكان هذا القصر ولكنها المرة الأولى التي أحاول فيها المرور خلال تلك البوابة العتيقة . فبالأمس قد توفيت ربة ذلك المنزل العتيق ، وقد كنت بسفر ما عدت منه صباح اليوم فكان لزاما علي أن أذهب لتقديم واجب العزاء .
تساءلت : " ترى أيهما صبغ الآخر بصبغته ، هل أصحاب القصر هم أصحاب النفوس العتيقة التي جعلتهم يبقون القصر على حالته فيشموا فيه عبق الماضي ، أم أن ذلك القصر العتيق قد أنشأ سكانه متلونين بلونه المجهول متهدمي الكيان كجدرانه التي أصابتها الشيخوخة " .
تجاوزت تلك البوابة الخشبية للمرة الأولى ثم اتجهت مباشرة إلى ذلك السلم الخشبي لأرتقي درجاته بينما عيناي تجولان رغما عني يمنة ويسرة في تطفل غير مصطنع . هناك في نهاية السلم وقف ذلك الرجل ولد المتوفاة ، في الأربعين من العمر يعمل مدرسا في مدرسة قريتنا ولم يتزوج حتى الآن ، فسلمت عليه وعزيته بينما كانت عيناه تحملق في شيء ما خلفي فالتفت تلقائيا لأنظر ورائي ولكني لم أجد شيئا فعدت لتقديم واجب العزاء إلى بعض الحضور من الأقارب ، وهناك في أحد أركان الشرفة كان ذلك الشيخ الذي تجاوز الثمانين من عمره يجلس علي مقعد خشبي وقد أسند رأسه على يديه مرتكزا على عصاة قد وضع كلتا يديه عليها ، فتقدمت وسلمت عليه ، ثم جلست على مقعد خال في مواجهته تقريبا .
صمت الجميع وهم يستمعون إلى آيات من كتاب الله تصدر عن مذياع يكاد يكون هو الشيء العصري الوحيد الذي أشاهده داخل القصر ، تفصل بين صوت الآيات لحظات من السكون التام مختلطة بأصوات همس لمجموعة من النساء جلسن في غرفة مجاورة .
تأملت في وجه الشيخ ، حفر الزمان على وجنتيه أخاديد من الجلد ، وتلك النظارة الطبية السميكة على عينيه لا تخفي تلك الملامح القاسية التي لم يستطع ضعف الشيخوخة أن يهون من حدتها ، لم يكن يبدو عليه الحزن ولم أتعجب من ذلك فقد كانت حياتهما معا جحيما ، كانت تصغره بعشرين سنه ولكنها ابنة عمه وصاحبة الأراضي الزراعية التي لم تكن عائلتهما العريقة أن تسمح بخروجها إلى الغريب ، ما أشبه القصر بأصحابه وما أشبههم به ، وددت لو أسأله عن محصلة الأعوام الثمانين التي عاشها ، كم منها كان في سعادة ؟ لديه ثلاث من البنات لم تتزوج واحدة منهن لأن كل من تقدم لخطبتهن إما أقل منهم فيما يملك من أطيان ، وإما أن عائلته ليست بعراقة عائلتهم فهل يزوج بناته إلى من يطمع في أموالهن من الرعاع و العامة ، أبعد أن عاش حياته كلها يحافظ عليها يأتي ببساطة ويتركها للغريب يتمتع بها .
اختلست نظرة إلى ولده الوحيد ، كم كنت أشفق عليه من تلك التركة التي سيرثها من أبيه ، رقعة لا بأس بها من الأرض ، وثلاث عوانس ، وأنقاض رجل ، فالشيء الوحيد الذي نجح فيه ذلك الأب إلى جانب الحفاظ على الأرض هو أن جعل من وحيده رجل بلا إرادة ، مسلوب الحقوق فليس من حقه أن يطلب ، وليس من حقه أن يتكلم ، و ليس من حقه حتى أن يحلم لأن ذلك كله من حق أبيه فقط ، أما هو فحتما سيكون تفكيره خطأ وتصرفاته غير واعية وكلامه غير ذو معنى ، هكذا أفهمه أبوه .
" صدق الله العظيم " هكذا صدر الصوت من المذياع ، فقام أحد الحضور لإغلاقه إيذانا بانتهاء العزاء . فوقفت لأسلم على الحضور وأنصرف فلما . وصلت إلى ذلك الابن المسكين كان لا يزال جالسا على مقعده . مددت يدي إليه ولكنه لم يكن ينظر إلي بالمرة كان كل ما يشغله شيء ما لا أعرفه ، ربما كان هذا الشيء في الشجرة العملاقة المواجهة له . ناديته باسمه ، لم يجب ، نظر في عينيه لأعرف أنه يحملق في أل .. لاشيء . أكد لنا الأطباء بعد ذلك أن حالة الذهول التي أصابته ربما كان السبب فيها وفاة أمه ، وأن الأمل في الشفاء دائما موجود .
في اليوم التالي عند عودتي من العمل كان القصر لا يزال شامخا ، ولا يزال ما تبقى من طلائه مجهول اللون .
التعليقات (0)