بعد سقوط جدار برلين -آخر قلاع الحرب الباردة- وانهيار النظام الاشتراكي في عقر داره، اهتزت الدول الحليفة للمعسكر الشرقي وتساقطت اقتصادياتها كأوراق الخريف ذابلة باهتة حزينة.. وفي رحلة بحثها عن البدائل التي من شأنها ردم الهوة وملء الفراغ، لم تجد أمامها سوى البديل الرأسمالي الذي لم يتوان عن مغازلتها من خلال مستويات الرخاء والرفاه التي بلغها المجتمع الليبرالي مقارنة بنظيره الاشتراكي.
بقلم مصطفى بن مرابط
وعليه، فقد بات من الكفر البواح اتهام الخيار الليبرالي بالامبريالية والعدوانية والغطرسة، كما دأبت على ذلك الدول الاشتراكية لعقود طويلة، وأصبح من باب الفخر والاعتزاز التسابق نحو تبني آليات اقتصاد السوق وتحرير التجارة الخارجية وإزالة القيود عن حركة رؤوس الأموال قادمة ومغادرة، من دون أية خلفية ولا أية حسابات مسبقة. ذلك هو التحول الذي أرخ لنهاية حقبة انغلاقية "ظلامية" وميلاد عصر التفوق والتحرر والانعتاق.. على الأقل هذا هو التصور الأولي الذي أراد تسويقه صناع القرار الجدد، مبشرين العالم في ذلك بالغنى بعد الفقر وبالتقدم بدل التخلف وبالانتصارات عوض الهزائم، ليتدافع "المتخلفون" على باب الفردوس الموعود.
لم يدم الحلم سوى بضعة أعوام يسيرة، ليستيقظ العالم بعدها على وقع صدامات عنيفة ومواجهات دامية أظهرت في مجملها مدى عمق الخلافات التي تحكم العلاقات الدولية المتداخلة ومصالحها المتضاربة المتعاكسة. لكن في النهاية ورغم ما لحق بالمنظومة الاقتصادية العالمية من أزمات وهزات جراء ارتمائها الأعمى بين أحضان العاصفة الليبرالية الهوجاء، إلا أن الأغلبية الساحقة من دول العالم لا تزال تراهن على إمكانية تعافيها بالإصرار على تبني النهج الرأسمالي في إدارة شؤونها الاقتصادية، وذلك على مذهب؛ وداويني بالتي كانت هي الداء..؟ ليتجلى بذلك المنطق الخلدوني القائل بأن المغلوب مولع بتقليد غالبه.
في خضم هذه الأحداث وتعاقب الحوادث، أصدر البنك الدولي تقريرا مفصلا عن اقتصاديات دول العالم من خلال ناتجها المحلي، وتصنيفها تنازليا بأسلوب علمي يستحق التمعن وإعادة النظر لقراءة موازين القوى الدولية والوقوف على مصادر الثروة وتوزعها عبر العالم. التقرير يعد ذا أهمية خاصة لأنه جاء بعد أزمة المال العالمية وانهيار أهم البورصات والأسواق وتبخر أكثر من خمسين تريليون دولار من ثروات الأمم في اقل من أسبوع.
ومن موقعنا كعرب، تأتي أهمية هذا التقرير في رصده لحركة التقدم والتراجع في مراتب الدول وموقع الاقتصاد العربي في عصر التكتلات الإقليمية من هذه الحركية الاستثنائية. التقرير يعتمد لغة الأرقام ويقرأ القوة والضعف من ميزان الاقتصاد والناتج المحلي والمداخيل الفردية والنمو والتنمية والاستثمار على أساس المساحة والجغرافيا البشرية، وهذه اللغة مطلوبة أحيانا لتصحيح بعض الانفعالات الإيديولوجية التي ترسم صورة غير دقيقة عن موازين القوة وصعود الأمم وهبوطها.. فمثلا التقرير يؤكد أن الولايات المتحدة لا تزال تحتل المرتبة الأولى في التصنيف العالمي رغم كل الكوارث التي ألحقها تيار المحافظين الجدد في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش بموقع أميركا الدولي. فهذه الدولة حافظت على مركزها الأول بـ؛ 14.2 تريليون دولار كناتج محلي، بينما جاءت 15 دولة من الاتحاد الأوروبي -دول منطقة اليورو فقط- في المرتبة الثانية بـ؛ 13.5 تريليون دولار.
أميركا إذا لا تزال الدولة الأولى اقتصاديا على رغم كل التحليلات والتوقعات التي رجحت نمو الاقتصاد الأوروبي مجتمعا ليحتل الموقع الأول. وهذا الأمر يشير إلى أن التحليلات تبالغ أحيانا وتتسرع في إطلاق الاستنتاجات الإيديولوجية من دون مراجعة الملفات الرقمية. احتفاظ أميركا بالمرتبة الأولى لا يعني أن اقتصاديات الدول لم تتغير أو أن تصنيفها لم يتبدل. فهناك تحولات حصلت في أكثر من مكان وجهة وهي تؤشر فعلا إلى حصول تبدلات في المواقع. مثلا اليابان كدولة منفردة حافظت على المرتبة الثانية بعد أميركا بـ؛ 4.9 تريليون دولار، على رغم كل ما قيل عن جمود اقتصادها وتراجعه بعد تلك الأزمة التي عصفت بالأسواق الآسيوية في تسعينات القرن الماضي.
إلى هنا لا تعديل على تراتب الدول.. فالتغيير يبدأ بعد اليابان -الدولة الثانية- إذ قفزت الصين إلى المرتبة الثالثة في التصنيف العالمي بـ؛ 3.8 تريليون دولار، لتأتي قبل ألمانيا التي تراجعت إلى الموقع الرابع، ثم فرنسا الخامس، بريطانيا السادس، إيطاليا المركز السابع.
الخارطة الاقتصادية الدولية لا تزال على حالها تقريبا من المرتبة الرابعة إلى السابعة. التغير يبدأ من الموقع الثامن إذ قفزت البرازيل لاحتلال هذه المرتبة المتقدمة في التصنيف العالمي لتتجاوز بذلك روسيا -الدولة التاسعة-، وأسبانيا –العاشرة- وكندا -الحادية عشرة- والهند -الثانية عشرة- والمكسيك -الثالثة عشرة- واستراليا -الرابعة عشرة-.
المتغيرات الحقيقية في الخريطة الدولية للاقتصاد العالمي تبدأ بعد الدول العشر الأولى إذ يزداد التنافس بين الدول النامية لاحتلال المواقع المتقدمة في لائحة الدول العشر الثانية. وهنا تبرز دول الهند والمكسيك واستراليا التي حققت قفزات غير مسبوقة لتضع بصماتها في مواقع متقدمة في الاقتصاد العالمي.
المفاجأة الكبرى تسجل عن حق لدول مجلس التعاون الخليجي التي نجحت في تحقيق قفزات اقتصادية وضعتها مجتمعة في موقع متقدم في الخريطة الدولية. دول الخليج الست اجتازت الكثير من المواقع واحتلت المرتبة العشرين في التصنيف العالمي. ويرجح إذا استمرت على وتيرة نموها أن تتقدم في السنوات المقبلة لتأخذ الموقع الثامن عشر وربما السادس عشر في لائحة الدول الكبرى اقتصاديا.
المجموع العام لاقتصاد دول مجلس التعاون سجل 832 مليار دولار. وحصة المملكة العربية السعودية -نحو 25 مليون نسمة- من المجموع أساسية إذ احتلت الموقع الأول عربيا -468 مليار دولار- والمرتبة الـ23 في التصنيف العالمي. بينما إيران مثلا احتلت المرتبة الـ26 -386 مليارا- وهي تأتي بست درجات وراء مجموع اقتصاد دول مجلس التعاون.
هناك ثوابت ومتغيرات. والمتغيرات تكشف عن دلالات تؤشر إلى اختلاف لغة الأرقام عن الصواريخ الإيديولوجية أو الكثافة السكانية. مصر مثلا كانت الأولى اقتصاديا وسكانيا في الخمسينات والستينات في القرن الماضي، وهي لا تزال الأعلى في التعداد السكاني لكنها اقتصاديا جاءت الرابعة عربيا -بعد السعودية والجزائر والإمارات- واحتلت الموقع 50 عالميا. اقتصاد دول المغرب العربي -ليبيا، تونس، الجزائر، والمغرب- جاء ثانيا بعد دول مجلس التعاون إذ سجل مجموع الناتج المحلي 400 مليار دولار. واحتل اقتصاد مصر والسودان -120 مليون نسمة- الموقع الثالث عربيا بناتج محلي قدر بـ؛ 220 مليار دولار.
المحصلة العامة تؤشر إلى أن الاقتصاد العربي يتحسن، إذ سجل خطوات حثيثة متقدمة في السنوات الأخيرة على رغم الحروب والانقسامات والتجاذبات وغيرها من سلبيات وتجاوزات. فالاقتصاد العربي تخطى حدود 1600 مليار دولار ما يعني أنه أخذ يحتل مكانة متقدمة في الخريطة الدولية تضعه مجتمعا في مصاف لائحة الدول العشر الثانية بعد العشر الأولى. إلا أن حدود التقدم الاقتصادي العربي في الناتج العام المحلي يتعرض لكوابح سياسية كبرى بسبب انتشار الفساد والفوضى والانقلابات العسكرية والاضطرابات الأهلية.
الصومال مثلا خرج من التصنيف، كذلك موريتانيا وفلسطين -الضفة وغزة- بينما العراق -النموذج الأميركي الباهر- احتل موقع أسوأ دولة في العالم من ناحية ترتيبه الاقتصادي بسبب وجود حكومة كسرت الأرقام القياسية في الفساد والسرقة والنهب والسلب وتهريب الأموال وتفقير الشعب.
المراجعة العامة للاقتصاد العربي تؤكد أن دول مجلس التعاون يشكل اقتصادها مجتمعا نحو نصف الناتج العربي العام، واقتصاد دول المغرب العربي نحو ربع الناتج العربي العام. وما تبقى لا يتجاوز 400 مليار دولار تتقاسمه مصر والسودان وسورية ولبنان واليمن وغيرها من دول هامشية أو طرفية.
المسألة إذا ليست في الايدولوجيا والشعارات والكلام العبثي عن الإنجازات وإنما في الأرقام، ولغة الأرقام تعيد رسم خارطة سياسية متخالفة مع الأقوال لأنها تستطيع تعديل التوازنات أو على الأقل تساهم في تدوير الزاويا ووضعها في الإطار الصحيح للجغرافيا الاقتصادية.
خارطة العالم الاقتصادية لاشك أنها تتغير، والاقتصاد العربي حقق خطوات تحسب له في إطار تفهم الصعوبات التي تواجه دوله بسبب سلسلة الحروب الدائمة في المنطقة، ومقارنة مع القوى النامية تعتبر الدول العربية –مجلس التعاون والمغرب العربي بالأخص- في موقع الأفضل قياسا مع الماضي القريب. فالمجلس مثلا تأسس في مطلع الثمانينات من القرن الماضي لاعتبارات أمنية ولكنه نجح في تخطي الكثير من الحواجز والعقبات وهذه نقطة إيجابية توضع في ميزان الحسابات العامة.
هناك الكثير من الثغرات وهي تتركز على ضعف نمو العملية السياسية مقارنة بالنمو المتسارع في البنية الاقتصادية، وهذا التفاوت بين السياسة والاقتصاد يشكل هوة كبيرة وعقبة حقيقية، ما يتطلب الانتباه لردم هذه الفجوة حتى لا تتحول إلى ثغرة تزعزع التوازن بين السكان والناتج المحلي الخليجي في المستقبل.
عموما يشكل تقرير البنك الدولي بشأن تصنيف اقتصاديات دول العالم وترتيبها مناسبة لإعادة قراءة السياسة بلغة الأرقام لا لغة الايدولوجيا، فالايدولوجيا تزوير للواقع وغطاء تتخذه بعض الأنظمة للتهرب من المسئولية والواجبات، بينما الأرقام تقرأ المعادلة ضمن نمط يحترم الحد الأدنى من الوقائع التي تخضع لموازنة العقل ولا تنجرف وراء الصواريخ البخارية والشعارات العنترية، فمن يريد المشاركة في معالجة مشكلات العالم وأزماته عليه أن يعمل على تطوير لغة الاقتصاد الرقمية ويخفف من قنابله الكلامية الشعاراتية.
التعليقات (0)