قبل تظاهرات الغضب والاحتجاج التي تجتاح الوطن العربي ، على مدى الأرض العربية من أقصاها إلى أقصاها ، لم نكن معتادين على رؤية الملايين من المواطنين ، تغص بهم الشوارع والساحات والأزقة ، وهم يهتفون بصيحة واحدة ، وهتاف واحد ، نحو هدف واحد أيضا ..
وربما كانت مسيرة جماهير مصر في 9 و 10 حزيران / يونيو من عام 1967 أكبر مسيرة عرفتها القاهرة والعواصم العربية الأخرى ، والتي خرجت تتمسك بجمال عبد الناصر ، وتطالبه بالعودة عن تنحّيه ..
وشتان بين تنحّي جمال عبد الناصر ، وتنحّي حسني مبارك ..
فقد خرجتْ مصر كلـُّها تطالب ببقاء عبد الناصر رئيسا ، رغم ظروف النكسة التي مُنيت بها مصر وسوريا والأردن وفلسطين عقب عدوان الصهاينة عليها في 5 حزيران 1967..
بينما خرجتْ مصرُ كلها ، متمسكة بكلمة واحدة ، تطلب من " مبارك " تنفيذها : ارحل .. ارحل ..
حتى أعلن " نائبه " تنحّيه ، وهو يتكرّم به مِنـَّة على الشعب المصري ..
وقبل هذه المظاهرات الهادرة ، رأينا في لبنان مسيرات مليونية ، حين بدأت معركة تكسير العظم بين فريقي السياسة اللبنانيين ، عقب اغتيال الحريري ، وخروج القوات السورية من لبنان :
فريق 14 آذار ، بما يمثله من التزام بالمشروع الأمريكي وبالتالي : الصهيوني ، وهو مشروع " الشرق الأوسط الجديد " ..
وفريق 8 آذار ، بما يمثله من تمسكٍ بخيار المقاومة والتصدي لذاك المشروع ، الذي تبعثر مع فشل عدوان الصهاينة على المقاومة اللبنانية عام 2006 ..
وقد تجاذب الطرفان أطراف لعبة " الحشد الجماهيري الأكبر " و " الزوم التصويري البؤري الأوسع " .. في محاولةٍ استعراضيةٍ من الطرفين ، لإظهار مدى قدرة كل منهما على الحشد ، والتأييد ، والتهديد " إن لزم الأمر " والتصعيد " إن اقتضت الظروف " ..
وبالتالي ، شاعَ في تلك المرحلة مقولتان هامتان دالتان معبرتان عن رأي أصحاب كل منهما :
ـ الأغلبية الشعبية أو " الحقيقية " ..
ـ والأغلبية البرلمانية أو " الوهمية " ..
واختلط الحابل بالنابل ، فلم نعد قادرين ـ أحيانا ـ على التمييز بين الحقيقي والوهمي ، بفعل قوة وسطوة " البروباغندا " المستخدَمة والمسخّرة للترويج والهجوم ، بوجهيها أيضا : الحقيقي ، والوهمي ..
أما أن تخرج كل هذه الجماهير العربية ، وفي كثير من العواصم والمدن ، مضحية بالآلاف من الشهداء ، لتطالب بالتغيير الجذري ، تحت بريق شعار سحري أخاذ :
" الشعب يريد إسقاط النظام "
فهذه سابقة ليس لها نظير في التاريخ العربي الحديث على الأقل ، وهي المَطالب غير المسبوقة أيضا ، وبهذا الوضوح والإصرار والتأكيد والعزيمة والتخطيط والتنظيم والإعداد و ......
فإذا كانت مسيرات لبنان انتصارا لفريق على فريق ، أو تأييدا لمشروع ضد مشروع ، وإذا كانت مسيرات حزيران في مصر 1967 ، طالبت جمال عبد الناصر بالبقاء على رأس الهرم رغم هزيمته ، فإن كل التظاهرات الآن تطالب برحيل الأنظمة ، ولا تقبل حوارا ولا نقاشا أجوف معها ، ولا مساومة على حقوقها ، ولا أنصاف حلول ..
فما جرى في تونس بعد الثورة ، يوضّح حقيقة النضج الثوري الذي تحرّكَ بهديهِ الشعبُ التونسي ، ولم يهدأ حتى رضخ الساسة " المخضرمون المتخضرمون " لمطالبه ..
وكذلك في مصر .. فقد أصر ثوارها على تحقيق كل مطالبهم تباعا ، بنفس الصبر والأناة والعزم ، بعد أن كادت أن تؤول الأمور والحكم والحكومة والحاكم العسكري ، إلى الطغمة نفسها من أذيال وأتباع ومخلفات النظام السابق ..
ومع التجاوب الذي أبداه المجلس العسكري لمتطلبات الثورة ، بإسقاط الوزارة ، وتكليف أحد المتمردين على النظام السابق رئيسا لوزارة جديدة ، ثم حل جهاز أمن الدولة ، كل ذلك ، يوحي بنيل المطالب حقيقة ، وليس بالتمني ، تحقيقا لمقولة الشاعر أحمد شوقي :
وما نـَيْلُ المَطالِبِ بالتمني ولكنْ ، تـُؤْخَذ ُ الدنيا غِلابَا
كما استردَّ الشعب العربي المصري وعيَه المُغيب منذ مرحلة حكم السادات ..
وكان كذبا ووهما وغشا وتدليسا رخيصا ، مارسَه توفيق الحكيم ، ونجيب محفوظ ، عندما عَدّا " عودة الوعي " ترافقت وتمّت مع عصر السادات وكامب ديفيد ، فطبّلا وزمّرا لإنجازاته ، ثم رقصا فوق جثث مئات آلاف الشهداء ، حتى نال نجيب محفوظ " جائزة نوبل " " للاستسلام " وليس للسلام كما يزعمون ..
الآن .. ومن ميدان التحرير ، انطلقت الدعوة المشروعة لاستعادة الوعي الحقيقي ، التي نرى إنجازاتها تتبلور وتنجلي يوما بعد يوم ..
لكننا ما نزال نسمع نشازا منغما حول " اعتراف المجلس العسكري ، ورئيس الحكومة الجديد " بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية ، في إشارة تطمينية لأمريكا والصهاينة ، أن " معاهدة كامب ديفيد " ما تزال سارية المفعول ، وكذلك معاهدة بيع الغاز المصري للصهاينة ..
فإلى متى سيبقى الشعب العربي في مصر أسيرًا لتلك الاتفاقيتين المجحفتين بحقوقه وحقوق الشعب العربي كله ؟؟!! ، هذا إذا لم يكن ثمة اتفاقيات سرية أخرى ، يكون لها ما لها ، من تأثير سلبي على قضايا الشعب المصري ، خاصة ، والشعب العربي ، عامة ..
وربما ما يجري في اليمن ، ليس بعيدا عما جرى قبله في تونس ومصر .. وكذلك في البحرين والأردن والعراق وموريتانيا وعُمان والمغرب ..
فقد اختار الشعب اليمني طريقه بوضوح ، وأعلن رغبته بالاستمرار في التظاهر السلمي حتى إسقاط النظام اليمني الحاكم .. لكن طريق الثورات لا بد أن ترويه دماء الشهداء الذين يسقطون يوميا ، حتى صار التفريط بالدم العربي أهونَ وأرخصَ على الأنظمة من النفط والغاز ..
ومع بروز ملامح تكرار السيناريو التونسي والمصري ، في كثير من أهدافهما ومراميهما وصورهما وأشكالهما ، فقد أعلن الرئيس اليمني تمسكه بالبقاء في السلطة حتى نهاية ولايته الحالية ، وهذا تماما ، هو ـ ربما ـ الفصل الأخير من مشاهد السيناريو التي شاهدناها في الشهرين الماضيين ..
على أساس : كل شهر ، نظام .. " ما شاء الله " ..
و " مساكين هؤلاء المساكين : بن علي ومبارك والقذافي وصالح " فقد بدت صورتهم التي تتناقلها وسائل الإعلام مبشرة لهم بسقوطهم المتتالي ، في أيام مشهودة متلاحقة " ..
فلم تنفعهم أجهزتهم ولا جيوشهم ولا أسلحتهم ولا أرصدتهم ولا أبناؤهم ولا أنسباؤهم ولا أعوانهم ولا بلطجيتهم ولا حلفاؤهم ولا أصدقاؤهم ولا أصدقاء أصدقائهم ..
كل ذلك ، ساوى ويساوي وسيساوي صفرا على الشمال إزاء إرادة الشعب وتصميمه وتضحياته ..
وربما ـ قياسا على ما جرى في ثورتي تونس ومصر ـ كان ما جرى فيهما كووووم ، وما يجري في ليبيا ، كوم آآآآخر ..
فهذا حلقة أخرى جديدة من خِزي النظام وجرائمه ، لم نشهد لها مثيلا أيضا ، بوحشيتها واستخدامها كل أنواع القوة ومعداتها ضد المواطنين الآمنين ..
وإذا كان القذافي قد أعلن في خطابه الأول : " أنه لا يملك أي منصب ليتنازل عنه ، وأنه لا يملك إلا بندقيته وسيقاتل بها حتى آخر قطرة من دمه " ، إلا أن الوقائع أثبتت أنه يمتلك أكثر بكثير جدا من ذلك ، بدليل القوة التي يستخدمها في مواجهة الشعب الثائر ، وباعتقاده الباطن أنه يتملك ليبيا كلها بسند تمليك أبدي لا يحول ولا يزول ، حرّره بنفسه ولنفسه ، حتى إنه مستعد أن يدمرها ويحرقها على رؤوس شعبه إذا لم يستكينوا له ولأولاده ..
فلا بأس عنده ، من أن تكون الأرض خالية من السكان ، لكنه لن يتنحى استجابة لمطالبهم ، ولن يكف عن قتلهم واغتيال ثورتهم وشبابها ..
وإذا كان العالم قد استنكر ، وتداعى لقمم متنوعة ، وإذا كان العرب قد تداعوا لاجتماعات باهتة خجولة عاجزة ، كونهم مشغولين بما لديهم من تحركات داخلية ، أو هموم أو احتجاجات مشابهة ،
وإذا كان بعض العرب أصدروا بيانا يطالب القذافي ببعض المَطالب " الدبلوماسية " ،
فإن كل ذلك لا يرقى إلى أصغر صغائر جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الليبي على يد النظام العنتري المفلس ، وما يتهدد وحدة التراب والشعب الليبيين ، على المدى المنظور على الأقل ..
إن ما يجري أكبر وأخطر بكثير جدا مما يقابله من ردود أفعال من هنا أو هناك ، لا تغني ولا تسمن ، وهي مجرد ردود لم تستطع أن تقدم أي شيء يذكر للشعب الليبي وللثائرين منه ..
إن الأمة العربية وحكوماتها مدعوون لتحمل مسؤولياتهم أما ما يجري في ليبيا ، ومدى جسامة الأخطار التي يتعرض لها كيان الأرض الليبية وشعبها ، وليس أقله ـ على ما يبدو ـ " صوملة ليبيا " ..
لكن ، ألا ترون معي أيها السادة القراء ، أنه :
(( من المضحكات المبكيات أيضا ، التحدث عن الصومال وكأنه ليس دولة عربية بمقدار ما هو عبء ووصمة ، وأننا لا نذكره إلا في معرض التشبيه والقياس على حالته المزرية وأوضاعه السيئة ، المحزنة والموجعة )) ؟!..
فحتى الآن ، أثبتت " ظاهرة الشعب العربي " ، أنها دليلُ صحة وعافية استردَّهما الجسد الشعبي العربي بعد طول سَقم ، وبعد الكثير من العاهات والتشوهات التي عانى ، وما زال يعاني من الكثير الكثير منها ..
وهذه التشوهات شأنها شأن التشوهات التي تصيب الجسد الآدمي ..
فمنها تشوهات أو عاهات خـَلقية ، ومنها طارئة مكتسبة ، ومنها مفروضة ..
وفي كل الأحوال ، هي : عاهات .. ويجب التخلص منها ، أو التغلب عليها في أسوأ التقديرات ..
ولا غنى لمجتمعنا العربي عن تجاوز هذه المرحلة الصعبة جدا ، بعد أن سبقتنا الأمم والشعوب الأخرى ، وتقدمت علينا بما لا يقاس إلا بالسنين الضوئية ..
إننا أمة تستحق الحياة الحرة والكريمة ، والحرية التامة بكل أشكالها ..
وإذا كانت المرحلة السابقة موصوفة ومحكومة بنظم سياسية هي أقرب ما تكون إلى " شكل من أشكال الاستعمار الجديد " ، كونها مرتبطة به أهدافا ومصيرًا وغاياتٍ ، ومتحالفة معه ضد شعبها وأهلها وإخوتها ، فإن الثورة على هذه الأنظمة هي بحق :
انتصار للشعب من جلاديه ، وانتصار للحق من مغتصبيه ، وانتصار للحرية من المستعبدين المأجورين ..
عشتم ، وعاش الشعب العربي ..
الخميس ـ 10/03/2011
التعليقات (0)