ظاهرة الاشتراك اللفظي في اللغة العربية.
إعداد :إسماعيل علالي
مقدمة:
تعد ظاهرة الاشتراك اللفظي من بين أهم الظواهر التي تمتاز بها اللغة العربية وقد بحث علماء اللغة القدماء في هذه الظاهرة كما اختلفوا في وجودها وفوائدها وتفرقوا فريقين، فريق منكر وفريق قائل بالظاهرة مدافع عنها،كما احتج كل منهما بعلل واستدلالات
بغية إثبات صحة مذهبه ودحض مذهب معارضه، كما سيتبين من خلال العرض.
1-تعريف المشترك اللفظي :
-لغة :
"الشِّرْكَةُ والشَّرِكة سواء: مخالطةُ الشريكين، يقال: اشترَكنا بمعنى: تَشارَكنا، وقد اشترك الرجلان، وتَشارَكا وشارَك أَحدُهما الآخرَ... وشاركْتُ فلانًا: صرْتُ شريكَه، واشْتركنا وتَشاركنا في كذا، وشَرِكْتُه في البيع والميراث... قال: ورأَيت فلانًا مُشتركًا، إذا كان يُحَدِّث نفسه أنَّ رأيه مُشْتَرَكٌ ليس بواحد وفي "الصحاح " للجوهري: رأيتُ فلانًا مُشْتَرَكًا، إذا كان يحدِّث نفسه كالمهموم... وطريقٌ مُشْتَرَك: يستوي فيه الناس، واسم مُشْتَرَك: تشترك فيه معانٍ كثيرةٌ، كالعين ونحوها؛ فإنه يجمع معانيَ كثيرةً" .
اصطلاحا :
إن سيبويه (ت 180 هـ) هو أوّل من أشار إلى المشترك اللفظي حيث ذكره في تقسيمات الكلام في كتابه قائلا: "أعلم أنّ من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين واختلاف اللفظين والمعنى واحد واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين... واتفاق اللفظين والمعنى مختلف، قولك: وجدت عليه من الموجدة ووجدت إذا أردت وجدان الضالّة "وأشباه هذا كثير" أما ابن فارس(ت 395 هـ) فقد أفرد للمشترك اللفظي بابا خاصا وعرفه بقوله "معنى الاشتراك: أن تكون اللفظة محتملة لمعنيين أو أكثر...) أما أهل الأصول فيذكر السيوطي أنهم عرفوه بأنه ):اللفظُ الواحدُ الدالُّ على معنيين مختلفين فأكثر دلالةً على السواء عند أهل تلك اللغة واختلف الناسُ فيه فالأكثرون على أنه مُمْكِنُ الوقوع لجواز أن يقعَ إما من وَاضِعَيْن بأنْ يضعَ أحدُهما لفظاً لمعنًى ثم يضعُه الآخرُ لمعنًى آخر ويَشْتَهِر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين وهذا على أنَّ اللغات غيرُ توقيفية وإما مِنْ واضعٍ واحدٍ لغرض الإبهام على السامع حيثُ يكونُ التصريح سبباً للمَفْسدة كما رُوي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه - وقد سأله رجلٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذهابِهما إلى الغار: مَنْ هَذا قال: هذا رجلٌ يَهْديني .
فهذه التعريفات تبين لنا أن المشترك اللفظي كمفهوم هو اللفظ الدال على أكثر من معنى وبعبارة أخرى هو دلالة دال واحد على مدلولات مختلفة.
2-اختلاف فقهاء اللغة القدماء في ظاهرة الاشتراك اللفظي:
تباينت آراء علماء اللغة القدامى في وقوع المشترك اللفظي فتراوحت بين إثبات المشترك ونفيه واختلفت بين حصره وتوسيعه. فابن جنّي وهو من القائلين بالاشتراك يثبت الاشتراك للحروف والأسماء والأفعال، يقول : "من" و"لا" و"إن" ونحو ذلك، لم يقتصر بها على معنى واحد، لأنّها حروف وقعت مشتركة كما وقعت الأسماء مشتركة نحو الصدى، فإنّه ما يعارض الصوت وهو بدن الميّت وهو طائر يخرج فيما يدّعون من رأس القتيل إذا لم يؤخذ بثأره وهو أيضا الرجل الجيّد الرعية للمال في قولهم: هو صدى مال... ونحوه ممّا اتفق لفظه واختلف معناه، وكما وقعت الأفعال المشتركة، نحو وجدت في الحزن ووجدت في الغضب ووجدت في الغنى ووجدت في الضالة ووجدت بمعنى علمت ونحو ذلك، فكذلك جاء نحو هذا في الحروف" وكذلك المبرد الذي ألف في المشترك كتابا سماه (ماتفق لفظه واختلف معناه) ومثل له قائلا:(وأما اتِّفَاقُ اللفظين واختلافُ المعنيين فقولك: وَجدت شيئاً إذا أردت وِجْدان الضَّالة ووجَدْت على الرجل من المَوْجدَة ووجدْتُ زيداً كريماً أي علمت. وكذلك ضربتُ زيداً وضربتُ مَثلاً وضربتُ في الأرض إذا أبعدت وكذلك العين عينُ المال والعين التي يُبصر بها وعينُ الماء والعينُ من السحاب الذي يأتي من قِبَل القِبلة وعين الشيء إذا أردتَ حقيقته وعين الميزان) ، فهذان مثالان يبينان رأي المثبتين ،أما طائفة المنكرين للمشترك اللفظي فيمثلها كل من ابن درستويه (ت 347 هـ) وقد نقل السيوطي رأيه قائلا "قال ابن درستويه في شرح الفصيح - وقد ذكر لفظة (وجد) واختلاف معانيها - هذه اللفظة من أقوى حجج من يزعم أنّ من كلام العرب ما يتفق لفظة ويختلف معناه، لأنّ سيبويه ذكره في أوّل كتابه، وجعله من الأصول المتقدّمة، فظنّ من لم يتأمّل المعاني ولم يتحقّق الحقائق أنّ هذا لفظ واحد قد جاء لمعان مختلفة، وإّنما هذه المعاني كلّها شيء واحد، وهو إصابة الشيء خيرا كان أو شرّا، ولكن فرّقوا بين المصادر، لأنّ المفعولات كانت مختلفة"، ويقول أيضا: "فإذا اتفق البناءان في الكلمة والحروف ثم جاءا لمعنيين مختلفين، لم يكن بد من رجوعهما إلى معنى واحد يشتركان فيه فيصيران متّفقي اللفظ والمعنى".لكن على الرغم من هذا القول إلا أنه يقر بوجود المشترك اللفظي بشكل قليل وشرطه في نظره أن يجيء في لغتين متباينتين وهذا قوله: "ولكن يجيء الشيء النادر من هذا لعلل" وعلة ذلك عنده: "وإنما يجيء ذلك في لغتين متباينتين أو لحذف واختصار وقع في الكلام حتى اشتبه اللفظان وخفي سبب ذلك على السامع وتأوّل فيه الخطأ" [نفس أي المزهر].وتابعه في مذهبه أبو هلال العسكري (ت 395 هـ) حيث قال: "وقال بعض النحويين: لا يجوز أن يدلّ اللفظ الواحد على معنيين مختلفين حتى تضاف علامة لكلّ واحد منهما، فإن لم يكن فيه لذلك علامة أشكل وألبس على المخاطب وليس من الحكمة وضع الأدلة المشكلة إلاّ أن يدفع إلى ذلك ضرورة أو علة، ولا يجيء في الكلام غير ذلك إلاّ ما شذّ وقلّ" كما أنكر المشترك اللفظي أبو علي الفارسي (ت 377 هـ) وهذا رأيه: "اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ينبغي ألا يكون قصدا في الوضع ولا أصلا، ولكنه من لغات تداخلت أو تكون كل لفظة تستعمل بمعنى ثم تستعار لشيء فتكثر وتغلب، فتصير بمنزلة الأصل" .
فهذه الأقوال تبين لنا المنطلقات التي بنى عليها كل فريق رأيه سواء كان من المنكرين للظاهرة أو من المثبتين لها،لكن الجلي والظاهر للعيان هو أن المشترك اللفظي موجود في اللغة العربية بإجماع أكثر العلماء وخير دليل على وجوده وجوده في القرآن الكريم.
وهذا هو الذي حدا بكثير من الباحثين إلى قبوله والتصريح بأنه"لا معنى لإنكار المشترك اللفظي مع ما روي لنا من الأساليب الصحيحة من أمثلة كثيرة لا يتطرق إليها الشك " "فالمشترك واقع ملموس وحقيقة لا خيال وكثير لا قليل" . فهو إذن من مظاهر سعة العربية في التعبير ودليل على حكمتها بتعبير ابن الأنباري في كتابه (الأضداد).
التعليقات (0)