هذا كل ما نعرفه من اسمها، فلم يحفظ لنا التاريخ اسم أبيها أو أمها أو قبيلتها، كأنها اختارت أن تكون وحيدة في اسمها كما كانت وحيدة في موقفها، أو كأن التاريخ تعمد أن يغفل كل الحواشي والهوامش ليركز على متنها الكاشف عن كنه ذاته، بل عن كنه غيره.
ما دونه التاريخ من بطاقتها الشخصية لا يتعدى سطرا واحدا: كانت جارية للأشعث بن قيس فأعتقها وتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا.
ومع ذلك فقد أرغمت التاريخ أن يدون عنها - من خلال موقفها الذي اختارته عن وعي وإيمان وعزيمة وتصميم- فعلا أسطوريا فضح كل الرجال الذين شهدوا الموقف وكشف للدنيا بأسرها سوءاتهم. فما الذي فعلت؟
لقد اختارت أن تكون حرة بالفعل، فقررت في اللحظة المصيرية الحاسمة أن تؤوي إلى بيتها الشخصية الأولى المطلوبة للسلطة في الكوفة، مسلم بن عقيل. لم يكن مسلم شخصا عاديا، بل كان سفير الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة. بايعه أربعة آلاف رجال على التحرر من نير الذل والهوان، وعلى نصرة الحسين، ورفعوا شعار المسلمين يوم بدر ( يا منصور أمت )، ثم – عند ساعة الصفر – تخاذلوا وجبنوا وتجابنوا، وقالوا له ﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (24) سورة المائدة. يريدون الحرية والكرامة على طبق من ذهب ناسين أن مفاتيح مدائن العزة والنصر لا تسلم لأحد حتى يدفع ثمنها مقدما.
لم تكن مع ابن زياد وهو متحصن بالقصر حين أرادوا اقتحامه سوى قوة محدودة قوامها – كما يذكر الطبري في تاريخه - ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من الأشراف ومواليه، ومع ذلك صار كل واحد يخوف الآخر، مما هيأ النفوس لتقبل الإشاعة التي بثها ابن زياد بأن جيشا عرمرما سيصل عما قريب من الشام لدعمه، وأنه لا طاقة لهم به.
ينقل المؤرخ أبو مخنف لوط بن يحي الأزدي الموقف:
حدثني المجالد بن سعيد ، أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر، انصرف، فيذهب به ، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسا في المسجد، حتى صليت المغرب فما صلى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسا، فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة ، فلما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان والتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو ، فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة ، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها : طوعة.
لماذا توقف عند باب طوعة بالذات؟ سؤال لا يجيبنا عنه التاريخ. أظنها فراسة المؤمن الذي ينظر بنور الله، عرف من خلالها أن في هذا البيت الشخص الاستثنائي الذي يبحث عنه والركن الشديد الذي يمكن أن يأوي إليه في الظرف العصيب.
لم تخطئ فراسته؛ كانت واقفة على الباب تنتظر ابنها، استسقاها مسلم فسقته، انتظرته أن يتحرك من مكانه فلم يفعل، طلبت منه بأدب أن لا يقف على باب الدار رعاية لحرمتها، أثرت فيه كلماتها وهو المتأدب بأدب الحسين، فما كان منه إلا أن بدأ بالتمهيد لكشف هويته، أخبرها أنه غريب ليس له في المصر أهل ولا عشيرة، وأنه من أهل بيت لهم الشفاعة يوم الحساب، وأخيرا – وبكل صراحة – أنه مسلم بن عقيل، الرجل المطارد من قبل السلطة، ثم طلب استضافتها.
اختبار صعب قد يكلفها حياته، كان بإمكانها أن تتنصل من المسؤولية متذرعة بكونها امرأة عجوزا لا حول لها ولا قوة، وأن ما عجز عنه الرجال تُعذر فيه النساء، ولكنها لم تفعل ذلك، بل اختارت ذات الشوكة.
نعطي الميكروفون للمؤرخ المذكور آنفا ليكمل حديثه:
قالت أنت مسلم ؟ قال : نعم ، قالت : ادخل ، فأدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه.
هكذا بدون تردد اتخذت أصعب القرارات في أحلك الظروف، فحازت على درجة الخالدين مع مرتبة الشرف العليا. أما بقية القصة فتمثل إدانة صارخة لكل الرجال المزيفين والمتزلفين الذين شاركوا في جريمة اغتيال مسلم بن عقيل، وتكشف في الوقت ذاته عن طوعة المرأة الفولاذية، الفولاذ يجمع بين المرونة والصلابة، وهي كذلك تماما: اسمها يعني السهلة اللينة، وموقفها صلب لا يلين.
أخيرا، أقول للذين لا يزالون يشككون في قدرات المرأة: تصرفوا مثل طوعة ثم تكلموا.
التعليقات (0)