طه حسين من الإهمال إلى قطار الأهوال
بقلم : حسن توفيق
... كان يكره أن ينام مكشوف الوجه، وكان واثقا أنه إن كشف وجهه أثناء الليل أو أخرج أحد أطرافه من اللحاف، فلا بد أن يعبث به عفريت من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمر أقطار البيت، وتملأ أرجاءه ونواحيه، والتي كانت تهبط تحت الأرض ما أضاءت الشمس واضطرب الناس !
هذه السطور المقتبسة من كتاب الأيام تصور خيالات طفل صغير، فقد بصره وهو في الرابعة من عمره نتيجة للجهل والإهمال، حيث كان يخشى النوم في الليل، فيظل متيقظا دون حول ولا قوة، خشية أن يعبث به عفريت من عفاريت الليل، لكن الإرادة الإنسانية الصلبة تكفلت – فيما بعد- بأن يصبح هذا الطفل الخائف من الأشباح عقلية علمية من الطراز الرفيع وعميدا للأدب العربي، بعد أن تحدى بما تسلح به من علم كل ما ابتلي به من فقدان للبصر، ومن عوائق صعبة كانت تواجهه دون رحمة، وهكذا خرج طه حسين من صعيد مصر المبتلى بالجهل والإهمال، ليحصل على درجة الدكتوراة من السوربون في عاصمة النور – باريس.
صعيد مصر- بمدنه وقراه- أنجب كثيرين من العمالقة والمشاهير في مجالات عديدة من مجالات الحياة، فإلى جانب طه حسين أنجب الصعيد في أسوان عباس محمود العقاد، كما أنجب مصطفى لطفي المنفلوطي، وفي مدينة قنا أنجب الصعيد عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل، ومن قبلهما كانت قرية النخيلة في أسيوط قد أنجبت الشاعر العبقري محمود حسن إسماعيل، صاحب أغاني الكوخ وأين المفر وروائع النهر الخالد ودعاء الشرق وبغداد يا قلعة الأسود، لكن كل هؤلاء العمالقة والمشاهير لم يصبحوا كذلك إلا بعد أن خرجوا من مدنهم وقراهم في صعيد مصر، وهم يطمحون للكشف عما يختزنون في أعمافهم من كنوز معنوية ثمينة، حيث انطلقوا إلى القاهرة بأضوائها وبما يحتشد فيها من علمائها وفنانيها وأدبائها، ولو أن هؤلاء ظلوا في صعيد مصر ما كنا ولا كانت الأرض العربية كلها قد عرفتهم!
لم يكن عجيبا ولا غريبا أن أتذكر هؤلاء وسواهم بينما كنت أتابع تفاصيل الكارثة الإنسانيةالتي راح ضحيتها ما يقرب من خمسين طفلا من أبناء الصعيد، فالإهمال الذي أفقد طه حسين نور عينيه وهو في الرابعة من عمره، هو نفس الإهمال الذي سحق أجساد أطفال أبرياء وحولها إلى أشلاء متناثرة تحت عجلات قطار الأهوال، لكن العجيب والغريب يتمثلان في أن يظل صعيد مصر مهملا منذ أيام طه حسين إلى أيامنا هذه التي نتباهى فيها بأن النهضة إرادة شعب، بينما تؤكد الأمور على الأرض، ومن واقع تجارب الدول التي نهضت بالفعل وليس بمجرد القول أن أية نهضة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت العقلية السائدة عقلية علمية دقيقة بل مسرفة في الدقة، أما العقلية التي لا يمكن أن تحقق أية نهضة في أي مجال كان، فهي عقلية جواز زواج البنت حين تبلغ الثامنة من عمرها، وهي عقلية الحكم بالإعدام على أبي الهول وعلى الأهرام بالإعدام لأنها – في نظر تلك العقلية المتخلفة- مجرد أصنام قد يعبدها الناس في القرن الحادي والعشرين، وهي نفس العقلية التي تتحدث عن الأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات في الدول غير الإسلامية على أساس أنها عقاب من الله لشعوب تلك الدول لأنهم كافرون، وقد حاق بهم العذاب الأليم!
الكارثة المروعة التي كان بطلها الإهمال، ومنفذها قطار الأهوال ليست الأولى، فقد سبقتها كوارث أخرى عديدة، كما أنها لن تكون الكارثة الأخيرة، طالما أن الإهمال لا يتوقف عند حد في مختلف مجالات الحياة، وإذا كان طه حسين قد فقد نور عينيه وهو في الرابعة من عمره منذ أكثر من مائة سنة نتيجة للإهمال الذي يمكن تبريره في زمانه، فإن ما يقرب من خمسين طفلا كانوا في طريقهم لمدارسهم لكي يتلقوا العلم في يوم من أيام نوفمبر 2012 ، لكنهم – بدلا من أن يتلقوا العلم- تلقوا درس الحصة الأخيرة من عمر كل منهم على يد الإهمال، أعدى أعداء العلم!
magnoonalarab@yahoo.com
التعليقات (0)