كنت وقتها طفلاً صغيراً لم أبلغ الثامنة بعد .. لم يبارح هذا المشهد مخيلتي إلى الآن ..
رجال طوال "جداً" يتحلقون حول مقبرة .. وحفار القبور يتلقى من أيديهم إنساناً ملفوفاً في قماش أبيض .. تسللت من بين الأقدام حتى وصلت عيني إلى فتحة المقبرة ..
تركزت جميع حواسي في النظر إلى ذلك الملفوف في القماش الأبيض حتى غاب عن ناظري في جوف القبر ..وترقبت حفار القبور وهو خارج من القبر .. ثم وهو يضع قوالب "الطوب" اللبن ليسد بها فتحة القبر .. لقد سد نصف الفتحة ولا يزال الضوء داخلاً إلى الميت .. يداخلني الحزن والخوف كلما الحفار وضع طوبة أخرى .. ها هي فتحة صغيرة باقية تعطي الميت شعاعاً من الضوء وتنفذ له الهواء .. آه .. لقد وضع اللبنة الأخيرة .. لقد سد المقبرة ..وصار الميت بداخلها في ظلام دامس .. تأملت الوجوه .. لماذا لا يتركون له بصيصاً من الضوء .. من الهواء ؟! ..
قلبت نظري في الوجوه التي لا أعرفها ولا تحفل بي ..
ثم رأيت رجلاً "كبيراً" شعره أبيض ينظر لي..
وما أن التقت عيني بعينه رأيت ابتسامة خفيفة على وجهه وهو يحدق بي ..
ابتسامة لا أعرف كنهها .. ثم أعرض عني وذاب في وسط الجموع ..
ودارت عجلة الزمان .. وكبرنا مع الأيام .. وصار اعتياداً عندي ألا تفلت مني جنازة أعرف صاحبها دون أن أشارك في تشييعه إلى مثواه الأخير ..ثم أعود إلى الدنيا .. ببهرجها وصخبها .. وكنت كثيراً ما أتصادف برؤية أطفال صغار تجري من بين أقدام المشيعين في المقابر ربما لسكناهم القريبة منها ..
إلى أن كانت ليلة الأربعاء الماضي جاءتني عجوز تتوكأ على عصاها تسألني في شأن يخص ابنها الوحيد الذي سعدت بمقدمه للحياة ثم شقيت به باقي عمرها لتدليلها إياه .. ارتكب حماقة دخل على إثرها السجن ليقضي عقوبة ثلاث سنوات .. ذاب أبواه في بحار من الدموع واللوعة والمعاناة في سبيل زيارته والاطمئنان عليه .. أصيب بجرح وانسداد شرايين في قدمه.. أهملوا علاجه بالسجن .. سرت " الغرغرينا " في ساقه مما أدى "أخيرا" إلى تحويله على مستشفى السجن وتم بتر ساقه كاملة .. ثم جاءت أحداث ثورة يناير وفتحت السجون .. فتطوع بعض الناس بحمله إلى أول الطريق ومن هناك أوصلته السيارات إلى بيته ..
وفي بيته أصيبت الساق الثانية بذات الداء .. قام بالإبلاغ عن نفسه حتى لا يحاكم بتهمة الهروب ..نقلوه على مستشفى السجن ..وهناك بتروا له الساق الأخرى كاملة .. صار أنقاض إنسان .. تطوع البعض بالسعي في إجراءات الإفراج الصحي عنه .. وبالفعل تم الإفراج عنه ..
ما أن استرد أبواه بعض أنفاسهما من اللهاث خلفه حتى داهمته جلطة في المخ فقد على إثرها الوعي ..ثم أفاق منها بعض الشيء .. جاءت أمه لي في بعض شأن يخصه .. الأم .. وما أدراك ما الأم ؟!.. إنها تتمنى أن يبقى ولو حطاماً أمام ناظريها .. تتمنى أن تشم أنفاسه لو لم تبق فيه سوى أنفاس معدودات .. غادرتني أمه ..
وفي الصباح قيل لي أنه قد مات .. وذهبت لأشارك في الجنازة ..وفي المقابر .. أنزلوه ملفوفاً في كفنه الأبيض "نصف جسد" .. حملوه كطفل صغير .. تناوله حفار القبور من بين أيديهم ليدخله في جوف القبر .. رأيت والده وعلى وجهه غبار السنين وهزيمة حلمه في الحياة .. ورأيت طفلاً لم يتعدى الثلاث سنوات يشده من ذيل جلبابه بينما كان الحفار يضع اللبنات الأخيرة ليسد بها المقبرة .. وقد تناهى إلى سمعي نواح الأم الثكلى .. و قد دارت عيني في الجموع المتحلقة حول المقبرة .. فشاهدت طفلاً صغيراً يجتهد في المرور من بين أقدام المشيعين حتى استقر أمام باب المقبرة ..
راقبته يتابع باهتمام بالغ حفار القبور وهو يضع اللبنات الأخيرة ليسد بها المقبرة إلى الأبد ..
لقد سد نصف الفتحة ولا يزال الضوء داخلاً إلى الميت ..
رأيت الحزن والخوف يداخلانه كلما الحفار وضع طوبة أخرى ..
ها هي فتحة صغيرة باقية تعطي الميت شعاعاً من الضوء وتنفذ له الهواء ..
آه .. لقد وضع اللبنة الأخيرة .. لقد سد المقبرة ..وصار الميت بداخلها في ظلام دامس ..
رأيت الطفل يتأمل في الوجوه ..
لماذا لا يتركون له بصيصاً من الضوء .. من الهواء ؟! ..
لم أرفع نظري من عليه .. ظللت أرقب نظراته إلى المقبرة ..وإلى حفار القبور ..وإلى المشيعين ..
كنت اعلم جميع ما يدور في خلده من أسئلة كبرى لا يسعفه عقله الصغير في استيعاب إجاباتها .. كما لم يسعفني عقلي الصغير على سبر أغوارها .. وجدت السنين الطوال مرت كلمح بالبصر ..
كان الطفل يحدق بنظره فيمن حوله ..
إلى أن وقعت عينه في عيني ..
كان هو هذه المرة الطفل الصغير الذي كنته أنا منذ سنين طويلة وعمر بعيد ..
بينما كنت أنا – هذه المرة- ذلك الرجل الكبير "جداً" في السن..
حينما نظر إلىَّ ابتسمت له ابتسامة خفيفة ..
ابتسامة لم يعرف كنهها ..
ثم أعرضت عنه وذبت في وسط الجموع !!..
لبست ثوب العيش لم أستشر
وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم
أدرك لماذا جئت أين المقر
التعليقات (0)