طريق العودة
قصة قصيرة كتبها: خليل الفزيع
باقتضاب ضحك مسعد القـادم من أرض الكنانة بعد زواج اكتفي بأيامه الأولى .. عندما ذكره رفيق رحلته بموقف طريف صادفهم في طريق العودة بالحافلة .. من نويبع إلى العقبة إلى الدرة إلى الدمام ومنها إلى الدوحة .. في رحلة طويلة ومملة ومزعجة .
انطلقت الحافلة من الدمام .. اقترح رفيق مسعد عرض شريط حفل زفافه في جهاز العرض الموجود بالحافلة .. لم يرد بهذا الاقتراح سوى أن يخرجه من صمته ، وينتشله من سحابات الاكتئاب التي سيطرت على نفسه ، وبدأت حدتها في الازدياد كلما اقترب من مقر عمله .. رفض مسعد الفكرة .. في مرح صاخب كـرر رفيق رحلتـه محاولة إقناعه دون جدوى .. أعلن معظم الركاب تأييدهم للاقتراح .. سائق الحافلة حسـم الموقف عندما أخبر الجميع أن جـهاز العرض به خلل .
لم يأبه مسعد بمـا يدور حوله .. وهو منغمس في ذاته .. متشرنق بذكرياتـه القريبة .. لم يمض على زواجه سوى أسبوعين .. اضطر بعدهما إلى العودة وترك عروسه في أوج نشوتها .. رَجَتْه أن يصحبها معه ، لكنه كعامل في مزرعة لا يمكنه أن يأتي بها إلى مقر عمله .. وعدَها بأن هذه السنة ستكون الأخيرة من زمن اغترابه .. إنه يعترف بعدم اقتناعه بالسفر ، لكـن ضغط الظروف المادية تجبره على ركوب هذه الموجة العاتية .
ألقى نظرة خاطفة على ركاب الحافلة .. لفتت نظره امرأة عجـوز تثرثر مع ابنتها المتأنقة التي تبدو غير صاغية إليها وهي تختلس النظرات إلى رجل أنيق في مقعد أمامي يحاول أن تكون التفاتاته المتكررة إليها عفوية .. غير مكترث بنظرات الاستغراب والاستنكار الصادرة ممن لاحظوا ما بين الاثنين من إشارات .. وشاب يقول إنه قادم من البحرين .. يتحدث بحماسة عن مشروعه الدراسي في أمريكا .. هو يعمل الآن سائق شاحنة في الدوحة لتوفير ما يكفيه من المال لتنفيذ مشروعه .. ورجل انتزع منه الزمن نُضرة الشباب فبدا أكبر من سنه ، يتحدث عن البحر والسمك وأنواعه وفوائده وطرق طبخه ، وبدوي احتل مقعدين بأسماله البالية ، وعمامته التي لم تعرف النظافـة منذ زمن حتى تحولت إلى لون التراب .. وطفل كثير الحركة والتنقل بين الركاب دون أن يكبح جماحه أحد .. انصرف بعض الركاب إلى أحاديث مختلفة ، وارتفعت عقيرة سائق الحافلة بغناء أشبه بالنواح طالمـا سمع مسعد ما يشبهه من أهل البادية .. لكنـه لا يفهم معناه .. واستمر غارقا في أفكاره .. عن الحبيبة البعيدة القريبة .. فارقها قبل أن يرتوي من ينبوع السعادة التي ما عرفها قبلاً .. في السنوات الماضية العجاف .. عشر سنوات من التغرّب .. استطاع خلالها أن يُعدِ أخواته الثلاث للـزواج ثم يتفرغ لنفسه .. وها هو يعود منكفئاً على ذاته .. مكتفياً بشريط مرئي يضم بعضاً من تفاصيل حفل زفافه .. قال رفيقه :
_ يا عم مسعد .. هوّنها وتهون .
لم يشأ أن يدخل معه في جدال عقيم ، وها هو في رحلته الطويلة التي بدأت منذ أربعة أيام من قريته الغافيـة في أحضـان الريف المصـري .. ينتقل من حافلة إلى أخرى إلى أن انتهي به الحال ورفيقه .. في هذه الحافلة .
عاد زميله إلى محاولة إنقاذه من أعماق الحزن :
_ يا عم مسعد .. خليك مسعد .
فَقَدَ شهيّته للحديث منذ أربعة أيام ، وما فائدة الحديث مادامت الهموم تحاصره من كل جانب .. غيابه عن زوجته وهو حديث عهد بالزواج .. ما ينتظره من عمل شاق يبدأ قبل طلوع الشمس وينتهي بعد غروبها .. شبح الشهور القادمة التي سيقضيها وحيداً إلا من حزنه ، بعيداً عن زوجته وأسرته وقريته .. آلمه الشعور بوخز الأسف ، لأنه استجاب لإلحاح كفيله بالعودة .
هدّأ السائق من سرعة الحافلة .. ليسمح لقافلة من الجمال بالعبور .. تطلع مسعد من النافذة إلى الصحراء الموغلة في المجهول .. بحر من الرمال يمتد إلى الأفق .. أجواء موحشة وكئيبة .. غلالة من عتمة المساء بدأت تنتشر فيما حوله .. كما ينتشر غبش الحزن داخل نفسه .. ظلمة الليل تزحف متثاقلة في بطء شديد .. كما يزحف ظلام اليأس إلى نفسه المحاطة بالأسى .
الليل يرخى سدوله .. أرهف السمع لعل صوتها البعيد يتسلل إلى مسامعه مخترقاً ضجيج الحافلة ، وأصوات الركاب ، لكنه لم يسمع سوى الرياح تنتحب لتذكي لواعج الشوق في قلبه الموبوء بالوجع .. والزمن الراهن يستحث الذاكرة لاستعادة تفاصيل الأيام الماضية القريبة .
وصلت الحافلة إلى الحدود .. توقف السائق ليجمع جوازات المسافرين تمهيدا لإنهاء إجراءات العبور ، عندما طلب من مسعد تسليم جوازه لم يَرُدَّ .. ألح عليه فبدا كمن يخاطب الفراغ .. نفد صبره ، صرخ محتداً طالباً جواز السفر ، صرخة السائق أيقظت مسعداً من عالمه البعيد .. انتبه وكأنه يرى السائق للمرة الأولى ..
وتحدث كمن اتخذ قرارا لا رجعة فيه :
_ لن أسلمك جواز سفري .
الذين يعرفون طول المسافة التي قطعها .. وحدهم يعرفون خطورة القرار الذي اتخذه .
استفسر السائق بحيرة بالغة :
_ ولماذا لا تسلمني جواز سفرك ؟
فجاءه الجواب حاسما وواضحا وضوح الشمس في رابعة النهار :
_ لن أسافر أكثر .. سأتوقف هنا بانتظار الحافلة القادمة لأعود إلى بلدي .
التعليقات (0)