الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [1/11]
طروحات متقاربة لمشروع واحد
في مطلع العام 2011، وبعد انقطاع دام خمس سنوات تقريبًا، عاد الحديث بقوة عن "مشروع الشرق الاوسط الكبير" أو "الجديد" كما تسميه السياسة الصهيو-أميركية، او "الشرق الاوسط الإسلامي" كما تسميه إيران الفارسية، وذلك على أثر رياح التغيير الجذري الهوجاء التي عصفت مؤخرًا ولا تزال في عدة بلدان عربية، مثل السودان وتونس ولبنان ومصر وليبيا واليمن والبحرين، آتية من نواحي افغانستان والعراق وفلسطين بعد أن اجتاحتها مخلفة فيها دمارًا سياسيًا وطائفيًا وفوضى كبيرة.
كُتبَت في هذا المشروع مقالات عدة، وكان توجُّه غالبية الكتاب والمحللين اننا نشهد تباعًا فصولا من تحقق مشروع "الشرق الاوسط الجديد" على أرض الواقع، الا انهم اختلفوا فيما اذا كان المشروع الشهير يطبق وفقًا لما اراده له الصهاينة والأميركيون، أم خلافا لتصورهم نظرًا لتصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة.
فما هي حقيقة هذا المشروع؟ ووفقا لأي أجندة يطبق؟ وما هي أدوات تنفيده؟ وما هي المراحل التي قطعها؟ وهل ثمة مشروعان "شرق أوسطيين جديدين" أحدهما صهيو-اميركي وآخر إيراني-شيعي يتصارعان في المنطقة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في سلسلة مقالات تنشر تباعًا، وهذا أولها.
أولا: حقيقة مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ونشأته بداية، المتتبع للإستراتيجية الغربية تجاه العالمين العربي والإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر، يلاحظ بوضوح انها تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيمهما إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيهما. فعالم عربي أو إسلامي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة، وبالكم الأكبر من الثروات النفطية والمعدنية(المكتشفة تباعًا) في العالم، وبمساحات زراعية خصبة، كل ذلك يعني أنه سيشكل ثقلا إستراتيجيًا واقتصاديًا وعسكريًا في المنطقة، وبالتالي عائقًا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية، ومن هنا أتت اتفاقية "سايكس-بيكو" عام 1916.
ومع غرس الكيان الصهيوني في قلب العالمين العربي والإسلامي عام 1948، بدت إسرائيل جسمًا غريبًا تلفظه المنطقة مما يعوق قيامها بدورها العنصري والعقائدي والماورائي الذي انشئت على اساسه، ومن ثم أدرك الصهاينة في العالم أكثر من أي وقت مضى أهمية إعادة تفتيت المنطقة، لكن هذه المرة إلى دويلات إثنية ودينية، بحيث تصبح اسرائيل دولة طبيعية منسجمة مع تركيبة محيطها ومحصنة أمنيًا، بصفتها دولة عبرية يهودية ذات قوة عسكرية ضاربة ومهيمنة في محيطها المؤلَّف من دويلات طائفية وإثنية ضعيفة.
ومن رحم هذه الهواجس والمعاناة الإسرائيلية، وسعي إسرائيل لأن تصبح دولة مقبولة في المنطقة، ولد "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
تعود فكرة "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الى المستشرق الصهيوني "برنارد لويس" المولود عام 1916، وهو دكتور ومؤرِّخ أميركي الجنسية من اصل بريطاني، ومن أتباع الديانة اليهودية.
في عام 1980، وعلى خلفية تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي "برجينسكي" حول نية الولايات المتحدة "تصحيح حدود سايكس-بيكو" بما يتوافق ومصالح أميركا وإسرائيل، بدأ المؤرخ الصهيوني "برنارد لويس" بتكليف من وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون"، بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعًا كلا على حدة، ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الإفريقي.. إلخ، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وقد أرفق بمشروعه المفصل الذي نشر بشكل دراسة في مجلة وزارة الدفاع الأميركية، مجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت بوحي من مضمون تصريح "بريجنسكي" مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس "جيمي كارتر".
وفي الدراسة التي نشرها ذلك المستشرق الصهيوني، اقترح إعادة تفتيت منطقة الشرق الأوسط التي تضم العالم الإسلامي من باكستان إلى المغرب، وإنشاء أكثر من ثلاثين كيانًا سياسيًّا جديدًا، أي تحويل العالم الإسلامي إلى "فسيفساء ورقية" على حد تعبير "لويس"، تقوم فيها 88 دولة بدلاً من 56. وأعلن "لويس" صراحة الغاية من "مشروع الشرق الأوسط الجديد" قائلا: "إن هذا التفتيت للعالم الإسلامي هو الضمان الحقيقي لأمن إسرائيل، التي ستكون الأقوى وسط هذه الفسيفساء"!
وبالفعل، وافق "الكونجرس" الأميركي بالإجماع في جلسة سرية عام 1983، على مشروع الدكتور "برنارد لويس"، وبذلك تمَّ تقنين هذا المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الإستراتيجية لسنوات مقبلة.
وبذلك أصبح صاحب أخطر مشروع في هذا القرن لتفتيت العالم العربي والإسلامي، مُنظّرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأميركية في المنطقة على مر الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولا سيما منها ادارة الرئيس جورج بوش الابن التي كان "لويس" أحد كبار مستشاريها، وقد وفّر لها الكثير من الذخيرة الإيديولوجية في قضايا الشرق الأوسط و"الحرب على الإرهاب"، لتحقيق خطة المحافظين الجدد في تحطيم أي أثر للاستقلال العربي الإسلامي، والقضاء على أي معارضة للأجندة الإسرائيلية.
وقد طرحت إدارة "بوش" مشروعها عام 2004 بقوة، والذي سوّقته يومها على أنه يهدف إلى "إعادة تشكيل" منطقة الشرق الأوسط من خلال تشجيع و"دعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية المنبثقة من داخل المنطقة" أي غير المفروضة من الخارج، و"نشر الديمقراطية في العالم العربي ودول إسلامية أخرى"، ومتحدثة عن "الحكم الصالح"و"بناء مجتمع معرفي" و"تأمين الفرص الإقتصادية"، إلا أنها مع ذلك الغلاف الجميل من حيث المبدأ والظاهر، تحاشت التطرق الى نيتها التفتيتية، وتعمدت إغفال المشكلة الحقيقية في المنطقة والمتمثلة بالصراع العربي-الإسرائيلي، ما عكّر الأجواء بينها وبين الدول العربية، ولا سيما بعد عرضه على "قمة الثماني" في 7/6/2004؛ وكانت دول عربية منها: تونس(بن علي)، ومصر(مبارك)، والسعودية، ولبنان(ممثلا بالرئيس رفيق الحريري)، والبحرين، قد أعلنت رفضها الصريح لتلك المبادرة. أما قطر، فقد صرح وزير خارجيتها بتأييده لفكرة المبادرة وعدم رفضها، وكان تعليق الرئيس اليمني حولها يحمل الكثير من الدلالات حيث قال:"علينا أن نحلق رؤوسنا قبل أن يحلقوا لنا" .
وفي هذا السياق، صرّح "لويس" في مقابلة أجريت معه في 20/5/2005 بما نصه: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون(...)، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية(...)، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية(...)، ويجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أميركا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها".
وهذا ما فعلته الولايات المتحدة منذ عهد بوش الابن الى اليوم مع انتصاف عهد الرئيس باراك اوباما، فهي تحصر اهداف مشروعها الجديد بتشجيع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ونشر الديمقراطية، دون التعرض للصراع العربي الإسرائيلي، الذي يعتبر إنهاؤه الى غير رجعة الهدف الأول والأخير لذلك المشروع.
ثانيًا: المشروع التقسيمي ليس حكرًا على "برنارد لويس" بيد أن "برنارد لويس"، لم يكن المنظر الوحيد لكيفية إعمال المشرط الصهيو-أميركي في المنطقة. ففي عام 1980، أي العام نفسه الذي شرع فيه "لويس" بوضع مشروعه التفتيتي للمنطقة، ألقى وزير الدفاع الإسرائيلي (يومها)"أرييل شارون"، محاضرة في "مركز الدراسات العسكرية" حول رؤية اسرائيل للعالم العربي وكيفية التعامل معه في المستقبل، وقد نشرت وقائع تلك المحاضرة صحيفة "معاريف" بتاريخ 18/12/1981، ومما جاء فيها: "ان اسرائيل تصل بمجالها الحيوي الى اطراف الاتحاد السوفياتي شمالاً، والصين شرقًا وافريقيا الوسطى جنوبًا، والمغرب العربي غربًا. وهذا المجال هو عبارة عن مجموعات قومية وإثنية ومذهبية متناحرة". ثم ييتناول "شارون" كل بلد ذاكرًا صراعته الداخلية وانقساماته.
وفي عددها الصادر صيف 1981، نشرت مجلة "ايفونيم" الاسرائيلية الفصلية تفاصيل محددة حول البرنامج التفتيتي الذي تعمل اسرائيل على تنفيذه في العالم العربي في دراسة حول "استراتيجية اسرائيل في الثمانينات". تقول الدراسة: "في المدى البعيد لا يستطيع العالم العربي البقاء ببنيته الحالية في المناطق المحيطة بنا من دون تقلبات فعلية(...)، فقد قسم الى 19 دولة كلها مكونات من تجمعات من الاقليات والطوائف المختلفة التي يناصب بعضها البعض العداء، وهكذا فان كل دولة عربية -اسلامية تتعرض اليوم لخطر التفتت الاثني الاجتماعي في الداخل لدرجة ان بعضها تدور فيه الآن حروب اهلية". وبعد تعدادها عوامل التفتيت التي تواجه دول المنطقة وخصوصًا تلك المحيطة بالكيان الصهيوني، تخلص الدراسة الى استنتاجها القائل: "وستكون هذه ضمانة الأمن والسلام في المنطقة بأسرها في المدى الطويل، وهذا الأمر في متناول يدنا منذ اليوم".
وفي عام 1993، نشر رئيس وزراء إسرائيل السابق ورئيسها الحالي "شيمعون بيريز"، كتابه الذي حمل عنوان"الشرق الأوسط الجديد"، وضمنه خطته التي كانت تطمح في الظاهر إلى جمع دول الشرق الأوسط في سوق مشتركة، بعد تحقيق السلام المزعوم، بحيث يعزز قيام هذه السوق المصالح الحيوية ويصون السلام على المدى البعيد، ولكنها تخفي أجندة أخرى هي في الحقيقة النتيجة الطبيعية لطرح "بيريز" إذا نفذ، ونهني بذلك دمج إسرائيل في المنطقة بعد إعادة صياغتها وتشكيلها لتصبح منطقة "الشرق الأوسط" لا "العالم العربي" أو "العالم الإسلامي"، وتصبح إسرائيل هي الدولة المهيمنة والمسيطرة على مقدرات المنطقة كونها رأس الجسر للمشروع الغربي الاستعماري منذ إقامتها في عام 1948.
وفي عام 2006، وضع الضابط المتقاعد في الاستخبارات العسكرية الأميركية،"رالف بيترز"، مخططاً لإعادة تقسيم الشرق الأوسط حاكى فيه مشروع سلفه "برنارد لويس"، وذلك من خلال مقال نشر بمجلة "القوات المسلحة الأميركية" في حزيران 2006، وحمل عنوان: "حدود الدم".
ينطلق "بيترز" في مشروعه، مما يسميه "الظلم الفادح الذي لحق بالأقليات حين تم تقسيم الشرق الأوسط أوائل القرن العشرين"، مشيرا إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أو الشعوب التي خدعت حين تم التقسيم الأول"، ويذكر أهمها:"الأكراد، والشيعة العرب". كما يشير إلى مسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين.
ويرى "بيترز" أن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقًا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه. وما ذلك إلا لمشابهة نموذج الدولة الصهيونية القائمة على الدين والقومية وامتزاجهما.
بعد هذه الخلاصة، نستنتج أننا نتحدث عن مشروع واحد لكن متعدد الطروحات، يمكن أن يبدأ بعملية إعادة تشكيل المنطقة من النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يتوافق مع الرؤية والمعايير الأميركية، على أن يكون الهدف إحداث تغيير متدرج وشامل يؤدي في نهاية المطاف الى تحقيق أمن إسرائيل وجعلها عنصرًا طبيعًا ومقبولاً في محيطه، ومنسجمًا مع تركيبته الجيو-سياسية، وصولاً الى تفتيت المنطقة سواء عبر تقسيم دولها الحالية الى دويلات مستقلة، أو فيدراليات أو كونفيدراليات، طائفية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية، تنفيذاً لمخطط صهيو-أميركي مدروس بدقة.
عبدو شامي
في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، نسلط الضوء على الأدوات البشرية والإعلامية التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
التعليقات (0)